قضية للمناقشة: قوة الضعفاء


فريدة النقاش
2016 / 11 / 9 - 21:44     

كان المصريون قد أدركوا عبث الحل الفردي الذي أغرقهم فى أوهامه حكم الاستبداد والفساد على مدى أربعين عاما، وذلك حين احتشدوا بالملايين فى الخامس والعشرين من يناير عام 2011 ليسقطوا “حسني مبارك “، ويعلنوا للعالم أن تضامنهم وقوتهم الجماعية هي حصاد الطاقة التي كان الحل الفردي قد أهدرها فى دوران المواطنين الأفراد فى ساقية الأنا بحثا عن النجاة الشخصية من طاحونة الاستغلال المنظم والمتفاقم عبر السنين، والذي بدا أنه الحل الوحيد المتاح.
وكانت القيود على الحريات العامة من حرية التنظيم لحرية التعبير وصولا إلى التظاهر السلمي قد لعبت دورها فى تعبيد هذا الطريق الذي أدركت الملايين أنه أفضى بها إلى الضياع واليأس، فأخذ الأفراد يجربون حلولا فردية أخرى بدءًا بالهجرة الشرعية لمن استطاع إليها سبيلا، أو غير الشرعية لجماعات غرفت فى البحار، أو ضاعت فى المدن التي وصلت إليها حين تلقفتها العصابات أو الأعمال الهامشية فباتت هدفا للعنصريين.
لعبت الثقافة دوراً محورياً عبر الوعي فى هذا الانتقال البطىء من الحل الفردي إلى الحل الجماعي، ومن الأنا إلى النحن. وهنا لابد أن نتوقف أمام الحملة التي أطلقتها القوى الرجعية والمحافظة ضد الأحزاب السياسية بدعوى أنها ضعيفة ولا فائدة منها لأنها لا تفعل شيئا فليس لمثل هذه الحملة إلا معنى واحد وهو نزع هذه القوى من وعي الجماهير الذي سرعان ما يتحول إلى فعل جماعي تتجلى فيه قوة الضعفاء على خير وجه، وهذا الفعل الجماعي المدفوع بالوعي وبالرؤية النقدية للعالم القائم هو القادر عبر الدأب والمثابرة على تغيير الواقع البائس إلى الأفضل، والتقدم إلى الأمام فى اتجاه الأهداف المنشودة، وهو ما مهدت له الأحزاب السياسية، على ضعفها وحصارها من قبل الفساد والاستبداد، طريق الانجاز الذي تحقق بعد ذلك فى شكل الموجات المتعاقبة للثورة التي بلورت أهدافا محددة وثاقبة.
ويعلمنا التاريخ أن القوى الرجعية والمحافظة تفضل عادة أن تتعامل مع المواطنين فرادى، وهي تكره عملهم الجماعي وتتفنن فى مصادرته حين تصل إلى الحكم، وتسلط عليه القوانين وأجهزة القمع، وأهم من كل هذا وذاك فإنها تستخدم كل آليات تزييف الوعي مستهدفة فى كل الحالات إغراق الجماهير الكادحة فى وهم ثبات العالم القائم الذي سيكون من العبث محاولة تغييره، ووهم آخر هو الحل الفردي إذ أن الفقراء هم مسئولون عن فقرهم، وليس بوسعهم سوى إحداث تغيير جزئي فى واقعهم الشخصي دون التطلع لأفق آخر، وعلى كل منهم أن يجد بشطارته مكانا له فى غابة الرأسمالية المتوحشة.
ولكن الرياح طالما أتت بما لا تشتهيه سفن الرجعية والاستغلال، وذلك حين نجحت جماهير الكادحين منذ فجر التاريخ مروراً بثورات العبيد، وانتفاضات الأقنان والنضال المتواصل للطبقة العاملة فى عصر الصناعة.. نجحت هذه الجماهير فى فتح آفاق جديدة أمام الإنسانية كلها عبر الجدل المتواصل بين الفكر والممارسة، حين أدركت طلائعها دور الثقافة النظرية المحوري، إذ أن الفعل الذي لا يستند إلى أساس فكري واضح مآله الانتكاس، وهو بالضبط ما أدركه ثوار يناير حين احتشدوا بالملايين لإنتاج بلورة عبقرية لأهداف هذه الموجة من موجات الثورة “ عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية “، وتوالت الاجتهادات لتعريف كل هذه منها والعمل الفكري لتوضيحة.
وحين لاحت بوادر تهديد حكم الإخوان فى العام الأسود الذي حكموا فيه البلاد لحصاد قرنين من التنوير والحداثة، احتشدوا مرة أخرى فى الموجة الثانية من الثورة فى 30 يونيو 2013 لبلورة الهدف الجامع المانع : لا للدولة الدينية، وعرف المجتمعان الثقافى والسياسي جدلا واسعا وثريا حول تجديد الفكر الديني، وإنتاج آليات هذا التجديد مواصلة للاتجاهات العقلانية فى ثقافتنا العربية القبطية والإسلامية، وانزعجت قوى الرجعية والمحافظة من هذه التوجهات والأفكار الديمقراطية شاهرة أسلحة القمع والقوانين فى وجه المجددين، بينما تواصل هي إغراق المجتمع فى الخرافة، وإشاعة التكفير الذي هو أخطر من التفجير، متطلعة ضمن أهداف أخرى إلى تشويه الصراع الطبقي المحتدم والتعتيم عليه.
ورغم ما يبدو فى الظاهر من أن قوى الثورة والتجديد قد تلقت هزيمة فى الصراع ضد اليمين الديني ومؤسسات الرجعية، إلا أن من يتعمق فى هذه الظاهرة التي نتجت عن موجات الثورة ألا وهي قوة الضعفاء سوف يتبين أن حرب المواقع التي يخوض غمارها هؤلاء الضعفاء بكل قوتهم سوف تنتج فى آخر المطاف ولو على مدى طويل تياراً قويا للتجديد الفكري والديني، ولنتذكر أن موجات الثورة المتعاقبة لم ترفع شعارًا دينيًا واحدًا.