مقتطف من مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني مهدي عامل


عليه اخرس
2016 / 11 / 6 - 12:20     

إذا تركنا الأسطورة جانباً، وعدنا إلى التاريخ الفعلي وحركته المادية، وجب علينا القول إن واقع مجتمعاتنا العربية هو أنها خاضعة للسيطرة الامبريالية، بوجودها في شبكة علاقات النظام الرأسمالي العالمي، فلا سبيل لها إذن، إلى الإفلات من القوانين الكونية التي تحكم حركة التاريخ المعاصر، من حيث هي، في الأزمة العامة للامبريالية، حركة الانتقال إلى الاشتراكية. لهذا كانت حركة التحرر الوطني في جوهرها حركة هذا الانتقال نفسه، وسيرورتها سيرورته، وكان الصراع الطبقي فيها هو هو الصراع الوطني، فلا فصل فيه لوجه أو شكل منه عن الآخر، ولا تغليب لهذا على ذاك إلّا في الأيديولوجية البورجوازية. وبتعبير آخر، إن التلازم في حركة التحرر الوطني بين العداء للامبريالية والعداء للرأسمالية قائم بالضرورة. هذا ما حاولت شرحه بالتفصيل في كتاباتي كلها. ولقد انطلقت فيها من قضية أساسية صغتها على الوجه التالي: ما هو الشكل، أو بالأحرى ما هي الأشكال المحددة التي تتميز فيها حركة القوانين التاريخية الكونية في الحركة التاريخية للمجتمعات العربية المعاصرة؟ لم تكن هذه الصياغة عفوية، بل أردت لها أن تكون دقيقة، فهي محور لمجموعة من الأسئلة المترابطة فالصعوبة كل الصعوبة في حركة الفكر وفي إنتاج المعرفة ليست في الإجابة عن الأسئلة بقدر ما هي في تحديد نوع الأسئلة التي نطرح. ولقد أشرت سابقاً، إلى أين يقود منطق من الفكر ينطلق في فهم واقعنا التاريخي الراهن من البحث عن «خصوصية» تجد شرط وجودها في تهافت العقل ورفض العلم وكونيته. فإذا فهمنا أن الكوني لا ينوجد في التاريخ إلّا مميَّزاً، لأن تمييزه هذا هو فيه وجوده المادي نفسه، وضح لنا المنهج الذي نعتمده في تحليل واقعنا التاريخي. إنه منهج فكر كليّ ـ ولولا نبرة «صوفية» في الكلمة لقلت إنه منهج فكر كوكبي ـ ينظر في واقعنا المميّز بعين القوانين الكونية فيميّزها فيه، ويرفع هذا المميّز إلى كونيته. والفكر هذا هو الفكر الماركسي نفسه الذي قال عنه يوماً سارتر: إنه الأفق الذي لا يمكن للمفكر المعاصر أن يتخطاه، لسبب موضوعي بحت هو أنه فكر التاريخ المعاصر، من حيث هو تاريخ الانتقال الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية. فالنظر بهذا الفكر في واقعنا التاريخي المميّز يطرح عليه، إذن، مهمة نظرية محددة: هي أن يكون، أو بالأحرى أن يصير نظرية التحرر الوطني في عالمنا العربي. هل هو قادر على ذلك؟ هل نحن قادرون على أن نجعل منه، بالتحديد، أيديولوجية الحركة الثورية الوطنية العربية؟ هذا هو التحدي التاريخي الذي يجابه هذا الفكر.

ليهدأ المتزمتون. ليس في هذا القول أي انحراف بالماركسية عن خطها الثوري العلمي. حين نقول: إن على النظرية الماركسية أن تثبت جدارتها بأن تصير أيديولوجية الثورة التحررية الوطنية، فمعنى هذا أن عليها أن تثبت ذلك، في المجال النظري والسياسي معاً، بما هي أيديولوجية الطبقة العاملة بالذات. ومعنى هذا أيضاً أن علينا أن نحدد بوضوح دور الطبقة العاملة وموقعها في سيرورة الثورة التحررية الوطنية، ودور التحالف الطبقي الثوري وطبيعته فيها، وموقع الطبقة العاملة في هذا التحالف، من حيث هو موقع الطبقة المهيمنة النقيض.

ما أريد قوله، بإيجاز، هو أن محاولتي النظرية كانت ترتسم، عن وعي، ضد ما لحق بالنظرية الماركسية من تشويه وانحراف في ممارسات الحركة الشيوعية العربية، أو بعض أحزابها. وما زال التشويه والانحراف قائمين فيها حتى الآن. ولعل بالإمكان الرجوع بهما، في نهاية التحليل، إلى طغيان الأيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة في ظهورها مظهر الأيديولوجية «القومية»، في تلك الممارسات. فعلى قاعدة هذه الأيديولوجية بالذات، يتم الفصل، في الزمان والمكان، بين القضية الاجتماعية والقضية «القومية»، بحيث تظهر الأولى كأنها مجال تحرك الصراع الطبقي، والثانية كأنها مجال تحرك الصراع الوطني، أو «القومي»، ويجري تغليب الأولى على الثانية، باسم «النظرية الماركسية»، أو الثانية على الأولى، باسم «النظرية القومية»، فتستقل مرحلة التحرر الوطني عن مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية وتسبقها، وتكون فيها القيادة الطبقية للبورجوازية، بانتظار الانتقال منها إلى المرحلة الثانية التي على الطبقة العاملة، فيها وحدها دون غيرها من المراحل، أن تقوم بدورها القيادي. هكذا يتحدد دور الطبقة العاملة في حركة التحرر الوطني، بحسب هذه الأيديولوجية التي على قاعدتها، وفي تربتها، يتقابل منها وجهان متعارضان: وجه يظهر مظهر «النظرية الطبقية الماركسية»، ووجه يظهر مظهر «النظرية القومية». إنه دور الطبقة ـ السند للطبقة البورجوازية «الوطنية». هكذا يتمّ، بتعبير آخر، إلغاء الدور القيادي للطبقة العاملة في حركة التحرر الوطني.

ضد هذه الأيديولوجية التي لا تزال فاعلة، بأشكال مختلفة، في ممارسات بعض الأحزاب الشيوعية العربية، قمت بمحاولتي النظرية، وضدها تتميز المفاهيم النظرية الماركسية بالنظر في واقع مجتمعاتنا العربية وفي حركة التحرر الوطني فيها، وفي الصراع الطبقي الدائر في هذه الحركة، في جميع حقوله، بين خطين سياسيين رئيسيين: خط بورجوازي رجعي يظهر في شكل «قومي»، وخط وطني ثوري هو هو خط الطبقة العاملة في ممارسة الصراع الوطني، وهو الذي تناضل هذه الطبقة الثورية، بقيادة حزبها الشيوعي الحقيقي، من أجل أن يكون خط التحالف الطبقي الثوري نفسه، أي خط الحركة الوطنية. أما الخط السياسي الانتهازي في الحركة الثورية، الذي ينزلق، بالممارسة إلى مواقع الأيديولوجية البورجوازية، فهو في تحالف موضوعي مع الخط البورجوازي نفسه.

مقتطف من مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني "
مهدي عامل

النسخ الالكتروني عليه اخرس