الفكر القومي والأصولية


محمد علي مقلد
2016 / 11 / 5 - 10:31     

الفكر القومي و الأصولية

محمد علي مقلد
الحركة القومية، القضية القومية، الفكرة القومية ظاهرات هي من إفرازات الحضارة الرأسمالية و تعبيراتها وتجسيداتها . نشأت في سياقها ومثلت مرحلة سوداء، كان لا بد منها لتشكيل الدولة الأمة، بعد الثورتين الفرنسية والأميركية.
مع أن أحداث الربيع العربي أثبتت عمق الترابط القومي على امتداد بلدان الأمة من المحيط إلى الخليج. فما أن اندلعت أحداث تونس بعد بو عزيزي حتى عم الربيع كل أنحاء الوطن العربي.غير أن الفكرة القومية وتجسيداتها السياسية بدت كأنها تخص المشرق دون المغرب، إذ كادت تنحصر الكتابات التنظيرية عنها، كما تشكيلاتها الحزبية في بلاد الشام. وهذا رأي أجمع عليه أهل المغرب، من غير أن يحظى بموافقة المشرقيين.
إذا كانت المسألة القومية، كفكرة وكحركة، ضرورة من ضرورات قيام الدولة في الغرب، إلا أنها كانت سبباً لانفجار حروب الرأسمالية، في أوروبا أولا، ثم سبباً لانتقالها إلى حروب بالواسطة خارج أوروبا، على غرار ما حصل ويحصل في عالمنا العربي.
كل حركة قومية هي حركة شوفينية، بالتعريف. ولهذا فهي مجافية للديمقراطية. أوروبا تعلمت من دروس حروبها القاسية ونقلت القوميات من التنابذ والصراعات إلى حالة من التعايش وقبول الآخر. أما في عالمنا العربي فما زالت المسألة القومية تعيش مرحلتها الأولى، مرحلة الحروب والصراعات والتنابذ. ولم تنجح الحركة القومية في تحقيق الوحدة بين بلدان العالم العربي، ولا هي نجحت حتى في الحفاظ على وحدة الأقطار.
إلى أي مدى يمكن القول، على ضوء ذلك، بأن رواد المسألة القومية، مفكرين وسياسيين، لم يعجزوا فحسب عن تشكيل رافعة للنهوض القومي ، بل إن فكرهم وسلوكهم السياسيين تسببا بوضع العوائق أمام الحداثة؟
يحاول هذا النص أن يجيب على هذه الاشكالية، منطلقاً من ثلاث فرضيات، الأولى مفادها أن الظاهرة القومية ثمرة من ثمار الحضارة الرأسمالية، أو هي مولودها الطبيعي، لكن من جينات فلسفية مختلفة عن تلك التي شيدت الرأسمالية عليها عمارتها الشاهقة.
إن صح أن يكون نسب الرأسمالية محصوراً في فكرة واحدة، فالكوجيتو الديكارتي هو أمها وأبوها. لم يعد الله، بموجبها، محور الكون، بل الانسان. ولم تعد السماء بل الأرض، وكان على ديكارت أن يقطع شك السؤال عن وجود الخالق أو عدمه بيقين صياغة الاشكالية بطريقة أخرى. قال ديكارت، تعالوا ننطلق من أن الله موجود، وأن الله هو الذي خلق الكون، وأنه خلقه مع قوانين تشغيله. إذن، فلنشغل عقولنا بكشف تلك القوانين. أنا أفكر، إذن أنا موجود. هذا هو المنطلق والأساس، الأنسان الفرد، حريته وعقله. أي تحريره من ضغط الجماعة وتحرير عقله من منهج التفكير الغيبي.
الفرضية الثانية هي أن كل خطأ في الممارسة ناجم عن خطأ في النظرية أو عن خطأ في تفسيرها وتأويلها في حالات الغموض. ينطبق ذلك على الفكر الديني وعلى الفكر اليساري، الماركسي خصوصاً، وعلى الفكر القومي. وانطلاقاً من ذلك، لا يستقيم الكلام عن تبرئة النصوص الدينية من ارتكابات السياسيين على مدى العصور، ولا كانت الماركسية بريئة من أخطاء اليسار الماركسي، وما الحروب الأهلية في العالم العربي، وما انسداد أفق التغيير الديمقراطي فيه إلا من ثمار فلسفة الحركة القومية العربية، بتياراتها الثلاثة، العروبي واليساري والديني.
الفرضية الثالثة، وهي أولى بالنظر إليها كمسلّمة لا كفرضية، مفادها أن الرأسمالية حضارة، وهي تمثل الجيل الثالث من الحضارات،. قبلها كان جيل الحضارات الزراعية الاقطاعية التي ترافقت مع ظهور الأديان التوحيدية السماوية وغير السماوية. الجيل الأول، أو بالأحرى الأجيال الأولى، هي التي لم يكن البشر قادرين فيها على تدجين الطبيعة، وكانوا يكتفون بما تنتجه، فيعيشون من ثمارها النباتية والحيوانية. ميزة الحضارة الرأسمالية تتمثل في تنامي سيطرتها على الطبيعة، في قدرتها على تدجينها لا بالجهد الجسدي فحسب، بل، وعلى نحو خاص، بالجهد الفكري الذي ابتكر من وسائل التدجين ما لم تكن الحضارات السابقة تملك القدرة العقلية أو المادية على توفيره.ولكونها كذلك فهي أحدثت ثورة هي الأولى بعد ألفيات ثلاث من زمن الحضارة السابقة عليها،. وهي ثورة لأنها اعتمدت نمطاً جديداً مختلفاً عن سابقه في الانتاج المادي والفكري و في تنظيم العلاقات بين البشر. وما كان لهذا الجديد أن يقوم إلا بإحداث "قطيعة " مع الماضي، هي قطيعة معرفية ،بحسب تعبير باشلار، لكنها لا تعني إلغاء الماضي بل البناء عليه من أجل تجاوزه، على نحو ما حصل في كل العلوم والمعارف المتراكمة من بداية التاريخ البشري.
لم ينظر البعض إلى الرأسمالية كحضارة، لأنها لم تكن كلها مآثر وإنجازات، بل هي قدمت نفسها بوجهين متناقضين، برزت في الوجه الأول مظاهر التقدم العلمي والاكتشافات الباهرة والوفرة والبحبوحة والحرية السياسة وحقوق الانسان، فيما وجهها الثاني تلبّد بصراعات دموية من أول الحروب الدينية في أوروبا والإبادة العنصرية في أميركا ولم تنته بالحربين العالميتين. أما تناقضها الأبرز فقد تمثل بالظاهرة القومية، لأنها لم تناقض فحسب المبدأ الأساس التي قامت عليه الثورة الرأسمالية، أي حرية الانسان الفرد، ولا احترمت المسار التاريخي الذي تتجه نحوه تلك الحضارة، بل هي، وعلى عكس ذلك بالتمام والكمال، استبدلت الإطر القديمة التي كانت تذوب فيها حرية الفرد والمتمثلة بالانتماءات القبلية والعشائرية والطائفية والملية والمذهبية والإتنية، بإطار جديد، هو الإطار القومي الذي شكل الغطاء والتبرير السياسي والايديولوجي لحروب الرأسمالية في مرحلتها الأوروبية الأولى، و في كل المراحل اللاحقة، ولاسيما تلك المتعلقة بقوميات الأطراف، ومنها عالمنا العربي.
لم تكن الظاهرة القومية إفرازاً نقيضاً لمبدأ الرأسمالية الفلسفي فحسب، بل نقيض أيضاً لمبدئها السياسي، الديمقراطية. ذلك أن القوميات، كلها من غير استثناء، تقوم على أطر مغلقة وعصبيات قوامها تمجيد الذات وعدم الاعتراف بالآخر، وفي ظلها نشأت الفاشية والنازية، وشكلت ذريعة وغطاء لحروب وصراعات بين التجمعات البشرية في كل أرجاء المعمورة، في أميركا بين الوافدين والهنود الحمر، وفي أوروبا بقيادة القوميتين الألمانية والإيطالية، أو بين المذاهب والطوائف البروتستانتية والكنيسة، كانت آخر نسخها النزاع حول هوية إيرلندا أو الصراع بين الكانتونات البلجيكية. كما أن انهيار الاتحاد السوفياتي يقدم دليلا على أن مشكلة القوميات كانت أحد أسباب ذلك الانهيار. "ماذا كانت النازية والفاشية والكلانية ( التوتاليتارية) والصهيونية غير تلك الثمرات المرة للفكرة الجوهرانية المطلقية عن الأمة وهويتها ؟" (عبدالإله بلقزيز)
ظهرت الفكرة القومية وحركتها (حركاتها) السياسية في العالم العربي محاطة بالتباسات شتى. أولها لغوي. بين القومي والوطني والدولة الأمة. الوطن، كمصطلح سياسي، غير موجود في اللغة العربية، وهو في المعاجم مشتق من الجذر الثلاثي، وَطَنَ، بمعنى سكن. أما دلالته السياسية فهي مستحدثة من الحضارة الرأسمالية. والأمة القرآنية ليست عربية بل اسلامية. (فكم عانت مادة الفلسفة في برامجنا التعليمية، أو مادة التاريخ من تنازع النسب بين العروبة والاسلام).
الالتباس اللغوي واحد من التباسات عديدة تمثلت بثنائيات مغلوطة، بحسب تسمية الجابري. من ثنائية الاسلام والعروبة تناسلت أخرى تشبهها في غموضها وقدرتها على التضليل وعلى إزاحة الحداثة عن معناها الحقيقي، مثل الأصالة والمعاصرة، الحداثة والسلفية، العروبة والعلمانية، العلمانية والالحاد، السلفية والليبرالية، الوحدة والتجزئة. وقد تعاظم حجم هذه الالتباسات حين تداخلت مع التباسات قادمة مع رأسمالية غلبت صورتُها كاستعمار على صورتها كحضارة، ما جعل الحركة القومية تستظل ثنائيات أخرى مغلوطة فتصور الصراع مع الوافد الجديد على أنه بين حضارتين مادية وروحية، مسيحية وإسلامية، غربية وشرقية، علمانية-إلحادية وإيمانية، استعمارية وسيادية. كل ذلك كان يحصل لإبعاد الثنائية الحقيقية عن جدول عمل التاريخ العربي الحديث، ثنائية الحضارة القديمة بعقلها الغيبي واقتصادها الزراعي وأنظمة حكمها الوراثية ضد الجديد القادم إلينا بعقله العلمي وقوانينه الوضعيه واقتصاده الصناعي وأنظمة حكمه الديمقراطية.
كان يمكن أن تجيب الحركة القومية على أسئلة الحداثة، بما يندرج في سياق التطور التاريخي الطبيعي، أي الانتقال "المؤلم" من حضارة الأرض إلى حضارة المصانع، غير أنها، بمفكريها وسياسييها، وضعت عربة الحداثة أمام حصان الثنائيات المغلوطة، ورسمت للتطور سكة من خارج الدخول في الحضارة الرأسمالية، أو بالدخول إليها من غير بابها السياسي الصحيح.
نشأت الفكرة القومية في أوروبا من صميم حاجة الرأسمالية إلى تأسيس الدولة الحديثة، الدولة- الأمة، الدولة التي أوجزت مبادئها " شرعة حقوق الانسان" ومن بعدها "الاعلان العالمي لحقوق الانسان"، الانسان الفرد، ووضعت في قائمة واجباتها احترام تلك الحقوق وحماية الحرية الفردية والمعتقد السياسي والديني، و تنظيم التنوع والتعدد، إلى آخر بنود الشرعة والاعلان. غير أنها في المشرق العربي، دون المغرب، بحسب رأي الفلاسفة المغاربة وهذا صحيح، نشأت من صميم الحاجة إلى القبض على السلطة، بل الاستيلاء عليها عن طريق الانقلابات العسكرية المتتالية.
مفكرون كبار كتبوا في النظرية القومية، نجيب عازوري، شكيب ارسلان، زكي الأرسوزي، محمد عزة دروزة، نديم البيطار، قسطنطين زريق، ياسين الحافظ، الياس مرقص، عصمت سيف الدولة، عبدالله الريماوي، صلاح البيطار. قبلهم كان من غلبت شهرتهم النضالية على شهرتهم الكتابية، مثل الكواكبي ومحمد رشيد رضا وعبد الغني العريسي. أما الحركة القومية العربية فشغل رأس الهرم السياسي فيها الرمز الكبير جمال عبد الناصر، في منتصف القرن، ليستكمل ما بدأه سعد زغلول في بدايته، ومناضلون من القوميين العرب اليساريين، أبرزهم الجزائري أحمد بن بله والفلسطينيان جورج حبش ونايف حواتمة واللبناني محسن ابراهيم، ومؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ميشال عفلق من سوريا، وقد توزع هؤلاء على ثلاث حركات، هي البعث والناصرية وحركة القوميين العرب، التي شهدت انشقاقات بعد أن تلقحت بمصادر فكرية أخرى ولا سيما الفكر الماركسي.
"إن أياً من هؤلاء، على كبير مساهماتهم، لم يصل تفكيره إلى لحظة التأسيس النظري للفكرة القومية العربية". هذا حكم أطلقه بلقزيز، راسماً حدود التمييز بين أمرين :الرؤية القومية وبناء نظرية في القومية. ذلك أن شاغلهم، بحسب رأيه، كان سياسياً ولم يكن نظرياً، إذ اختزلوا النظرية القومية بمجرد نظرية في تكوين الأمة. الأخطر من ذلك هو أن نخبة المفكرين الذين كتبوا في الفكر القومي تدرجت أولويات البعض منهم من النظرية إلى البراكسيس النظري، أي إلى تطبيقات على النظرية، ثم إلى البراكسيس السياسي، أي إلى حقل النضال، وشاركوا في تأسيس الأحزاب، بحيث راحت تنردم الهوة، داخل الخطاب القومي، بين النخبة الفكرية وسائر النشطاء من المناضلين الذين سرعان ما يتحولون، بعد قليل من التثقيف الحزبي، إلى مفكرين. ولكم أن تتصورا اليوم، مع وسائل التواصل الاجتماعي، كيف تسعى" بزاقة الفيسبوك"، كما يسميها أحمد بيضون، إلى التطاول على أي مقام علمي، وإلى التنطح لنقاش أخطر القضايا الشائكة في السياسة كما في التاريخ أو الفلسفة. إنه الخطر الحقيقي على مستوى الثقافة والوعي السياسيين في العالم العربي. هذا الخطأ في الممارسة النظرية والسياسية يعود إلى خطأ ما في الخطاب القومي.
الشاغل السياسي جعل الجهد النظري يميل إلى البحث عن مقومات نشوء الأمم، فمالوا إلى البحث عنها في التاريخ لا في حاضر الأحداث والتطورات ومعاييرها السياسية والاقتصادية. من هذا المنطلق رأى منظرو الحركة القومية أن أسس القومية العربية موجودة منذ ما قبل الثورة الرأسمالية في التاريخ المشترك والرابطة الدموية والرابط الديني والرابط اللغوي، وأهملوا العاملين الأكثر أهمية في تكوين الأمة الحديثة، السياسة والاقتصاد. وبهذا لم توضع الحركة القومية على سكتها الصحيحة منذ البداية، وسارت عكس اتجاه عقارب الزمن الرأسمالي الناهض، فأبدت اعتراضها على الدخول في الحضارة الجديدة بتوافق تياراتها الثلاثة وتشكيلها حلفاً غير معلن ضد الرأسمالية التي واجهها العروبيون بصفتها استعماراً، وصوب عليها اليسار الماركسي بصفتها ذروة استغلال الانسان للانسان ونهب القيمة الزائدة ، فيما اعترض الاسلاميون على طابعها العلماني أو المسيحي، وتعاملوا معها كأنهم في بدايات التنافس على التبشير الديني.
بدل أن يبحث الفكر القومي العربي، في أفق الحضارة الرأسمالية عن المعنى الحقيقي للحداثة، عاد إلى التاريخ يستحضر منه مقومات الأمة، فأدت هذه العودة إلى نتائج نظرية وسياسية مدمرة. النتيجة الأولى تمثلت بمنحه التفويض لمن هو أولى بحمل راية السلف وفتح الدفاتر العتيقة والتسلح بالنصوص، مقدماً للأصولية الدينية، على طبق من فضة، فرصة الدخول إلى مقدمة الصراع مع هذا الجديد القادم إلينا مع مدافع نابليون، ولاسيما أن حركة الاصلاح الديني كانت أسبق إلى الوجود من حركة النضال القومي، وبفضل أسبقيتها فرضت منهجها في مواجهة الحضارة الرأسمالية على التيارين القومي واليساري، زاعمة امتلاكها برنامجاً بديلاً في الاقتصاد والسياسة والثقافة، مستقوية بالتراث على شريكيها في المواجهة، محققة أوليتها عليهما، راسمة بقلمها قواعد الاشتباك تحت عناوين الثنائيات المغلوطة المتناسلة من سلالة واحدة، من جينة واحدة هي تزوير الصراع الحقيقي وتعديل تسمياته ومضامينه، وتوجيهه ضد الغرب والالحاد والعلمانية والمادية، خصوصاً أن رواد النهضة كانوا، في معظمهم من مسيحيي المشرق، المتهمين بأنهم يوظفون العروبة ويستظلون بها لمحاربة السلطنة العثمانية باسم الغرب والالحاد.
النتيجة المدمرة الثانية تمثلت في بعث التاريخ حياً بكل تفاصيله وصراعاته ومسالكه المعقدة، وتحويله إلى مرجع ودليل لحل مشاكل الحاضر، والحؤول، بالتالي، دون جعله مادة للدراسة والقراءة النقدية والاستفادة من تجاربه، والحؤول أيضاً، دون إحداث القطيعة مع الماضي، بالمعنى الايجابي للكلمة. والحؤول ثالثاً دون نقاش القضايا الساخنة، كالتنمية والديمقراطية وبناء الدولة، والغرق، بديلاً عن ذلك، في صراعات ونزاعات تستعيد معارك داحس والغبراء والقيسية واليمنية وأولوية الإمامة والولاية وأبرزها اليوم استعادة نزاع قديم بين أنصار علي ومعاوية على الخلافة.
النتيجة المدمرة الثالثة تمثلت في أن الذاكرة التاريخية رسخت في الفكر القومي الاعتقاد بأن المشاريع المتتالية في النهضة العربية والتحرر الوطني والوحدة هي استئناف لحضارة عصر الخلفاء العباسيين، أو هي "بعث" لتلك الحقبة الذهبية من الحضارة العربية الاسلامية. ولهذا قصّر نظر الفكر القومي عن رؤية الأسباب الحقيقية للتخلف، فحمّل الغرب والحضارة الرأسمالية مسؤولية تجزئة الأمة " الاسلامية أو العربية" إلى أقطار، مع أن تعدد الكيانات، تحت اسم الولايات، لم يغب في أي فترة من التاريخ، حتى في ظل الامبراطورية العباسية أو الأموية، أو في ظل السلطنة العثمانية. من هنا يمكن القول إن الفكر القومي كان سببا في تفجّير صراع، لغوي في ظاهره، بين "الوطن" العربي( الأمة) و"الأوطان"( الأقطار) انتهى بما انتهى إليه في نهاية القرن الماضي، بغزو العراق الكويت ووصاية النظام السوري على لبنان، فيما تشير وقائع التاريخ إلى أن الخلافة العباسية تفككت ودخلت الحضارة العربية في مرحلة شيخوختها( بحسب نظرية ابن خلدون) عند نهاية الألفية الأولى، وتوالى على حكم المنطقة أو اجتياحها الصليبيون والتتار والمماليك والسلطنة العثمانية.
لم يرتق الجهد النظري في الفكر القومي إلى مستوى التجريد الفلسفي لأن رواده لم يكونوا من الفلاسفة بل ممن يطبقون النظريات الفلسفية ( يجدر التمييز هنا، وهذا ما ركزت عليه جيداً كتابات مهدي عامل، بين النظرية والممارسة النظرية،البراكسيس النظري، وبين الفكر السياسي والممارسة السياسية، البراكسي السياسي)وقد تسبب ذلك بعاقبتين نظريتين وخيمتين. الأولى تمثلت في بحثهم، داخل الفكر، عما يتماشى مع الواقع القائم ويبرره ويستقوي به، حتى لو كان ثمن ذلك لوي عنق الحقيقة. لهذا رأوا من المفيد لمنطقهم التركيز على العامل الجغرافي، فتمثل لمخيلتهم الإيديولوجية أن الطبيعة منّت على الأمة العربية بحدود تفصلها عن جيرانها، جبال في الشمال والشرق مع كل من تركيا وإيران ، وبحار ممتدة من المحيط إلى الخليج، فضلا عن الصحراء وغابات النخيل الممتدة من أقصى الغرب المغربي حتى البحر الأحمر.
الجغرافيا كانت أضعف العوامل، بالقياس إلى عوامل التاريخ واللغة والدين والمصالح المشتركة. غير أن إقامة دولة اسرائيل، وفّرت للحركة القومية ذريعة وحجة قوية للتصويب، في التاريخ كما في الجغرافيا، على عدو خارجي، خصوصاً أن هذا العدو لم يغتصب فلسطين فحسب، بل شكل عائقاً جغرافياً وبدا، في البروباغندا القومية، كأنه العائق الوحيد الذي يحول دون توحيد مشرق الأمة ومغربها. وإذا كان من نافل القول أن كل الحركات القومية، على اختلافها، تحاول، بهدف شد العصب الداخلي، استنهاض الدفاعات الذاتية للمجتمع ضد خطر خارجي حقيقي أو مزعوم، وتربي جمهورها على تعصب وشوفينية ، فإن الحركة القومية العربية استخدمت هذا العنصر الاستنهاضي لترسخ مبدأ العداء للآخر، الآخر في الدين أو في العقيدة أو في الانتماء السياسي أو الحزبي، فتعمقت الانقسامات في أرجاء الأمة، بين القوى المتعددة، وداخل كل قوة منها، وتعمم نهج الاستبداد في الأنظمة السياسية، حتى في الجمهوريات التي تحولت إلى جمهوريات وراثية، وراج استخدام الأحكام العرفية وإعلان حالات الطوارئ والقوانين الاستثنائية. كل ذلك كان يحصل باسم المصالح القومية العليا، وتحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وبقيادة "الاكليروس القومي" بحسب تعبير عبد الإله بلقزيز.
التركيز على دور الجغرافيا في توحيد الأمة، خصوصاً في ظل الكلام عن وحدات اندماجية أو قسرية، أيقظ الخصوصيات لدى ذوي الانتماءات الاتنية والدينية والثقافية من الناطقين بالعربية، فظهرت ردود معاكسة ورفعت شعارات ومطالب تدعو إلى الانفصال أو إلى إقامة دول فدرالية أو كونفدرالية، وفي أضعف الأحوال إلى اعتماد اللامركزية السياسية أو الادارية، فظهرت آثار سلبية لمثل هذه الدعوات، من بينها ترويج الكلام عن تحالف الأقليات أو عن صراعها، بل زجها في حروب أهلية، بحثاً عن سبيل للتخلص من استبداد النظام. غير أن الاستبداد لا يختار ضحاياه حصراً من بين الأقليات، بل يمارس القهر على شعبه من غير تمييز. من ناحية أخرى، إن حداثة النظام السياسي لا يحددها ضيق الرقعة الجغرافية ولا اتساعها، بل مدى احترام النظام لحرية الانسان الفرد وحقوق الانسان الفرد، أي للديمقراطية، فلا فضل لرقعة جغرافية على أخرى، ضاقت حتى حدود الوطن أو الكانتون، أو اتسعت حتى حدود الأمة من المحيط إلى الخليج، إلا بمقدار ما يضمن النظام السياسي المعتمد احترام حرية الانسان الفرد وحقوقه الأولية.
العاقبة الوخيمة الثانية هي أن الفكر القومي، متدرجاً من النظرية إلى البراكسيس النظري، ومن الفكر السياسي إلى البراكسيس السياسي، سلم راية التفكير لنخبة من المتحمسين ضد الصهيونية والاستعمار، وبعضهم ضد الشيوعية بما هي نتاج الحضارة الغربية بالذات، فوضع هؤلاء ترسيمة للثورة استلهموا صورتها من " عشرة أيام هزت العالم" التي تمكن فيها لينين من الاستيلاء على السلطة والقضاء على القيصرية، فجمع القائد الميداني في شخصه الفيلسوف والمنظّر والمناضل والمخطط والمنفذ، وكان ضباط الجيش جاهزين لتجسيد هذه الشخصية المركبة، فعرض بعضهم عضلاته العسكرية من خلال انقلابات أطلقوا عليها أسم الثورة، وسرعان ما تحولوا إلى فلاسفة ومفكرين كان ذروة نتاجهم في الفكر الفلسفي الكتاب الأخضر لمعمر القذافي.
عود على بدء. قلنا إن الظاهرة القومية نشأت في كنف الحضارة الرأسمالية، وقوامها الفلسفي الحرية، وترجمته الاقتصادية، دعه يعمل دعه يمر، أما ترجمته السياسية فهو بناء الدولة الأمة. لا تقوم الأمة من غير الدولة. والدولة هي دولة القانون الوضعي والحاكم فيها يمثل الشعب، بعد أن كان يمثل الله على الأرض. إنها باختصار، الدولة الديمقراطية. غير أن الحركة القومية العربية كان لها رأي آخر.
لقد أعطت الحركة القومية العربية الأولوية للأمة على حساب الدولة، ولوحدة الأمة على حساب الوحدة الوطنية. لكنها، أي الحركة، لم تكن الطرف الوحيد الذي استخف بالدولة ولم يعترف بدورها في بناء الأمم والأوطان الحديثة. صحيح أن الدولة ظاهرة قديمة، لكن الحداثة مرتبطة بالدولة الأمة ارتباط علة بمعلول، وهو ما لم يكن محط اهتمام القوى السياسية المحلية على اختلافها، ولا سيما القوى القومية التي تسبب اهتمامها بالسلطة على حساب الدولة بخلق التباسات بين المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالدولة، خصوصاً المستحدث منها و"المستورد" من أسس بناء الدولة الحديثة في أوروبا.
إذا جاز اختصار الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة بكلمة واحدة، فليس أفضل من الديمقراطية تعبيراً عن وصفها وتحديد هويتها. وقد بات من بديهيات القول أنها دولة الدستور والقوانين والفصل بين السلطات واحترام التنوع والتعدد والحريات العامة والشخصية واعتماد الكفاءة وتكافؤ الفرص، غير أن الحركة القومية بأصولياتها الثلاث، العروبية واليسارية والدينية، استبعدت الديمقراطية من أسس بناء الدولة، بل هي ألغت، بالانقلابات العسكرية، الدساتير التي قامت عليها الدول في بدايات مرحلة الاستقلال، أو لجأت إلى تعليق الدستور وإعلان الأحكام العرفية، وأفرغت الانتخابات من مضامينها الديمقراطية ، وحولتها إلى فولكلور احتفالي لعبادة الحاكم وتوريث السلطة.
انطلق التركيز على الأمة دون الدولة من الاعتقاد النظري بأن وحدة الأمة حتمية تاريخية لا تحتاج لتحققها إلى غير الحزب الطليعي والاستيلاء على السلطة، غير أن هذا المنهج في النظر إلى قضية الحداثة السياسية لم يهدد وحدة الأمة فحسب، بل عجز عن حماية الوحدات القطرية، وكان من بين نتائجه الكارثية وضع الكيانات التي حكمتها "الأحزاب الطليعية" أو أنظمة الانقلابات العسكرية بين خياري تأبيد الاستبداد أو الحروب الأهلية. وليس من الصدفة أن تبدأ ثورات الربيع العربي داخل الجمهوريات الوراثية قبل أنظمة السلالات. ألا يتحمل الفكر القومي الوزر قبل الصهيونية والرجعية والاستعمار؟