رواية -الفتنة- لكنعان مكّيّة: إعادة جدولة الخيانة 1/3


سلام عبود
2016 / 11 / 5 - 10:20     

1/3
أثار صدور رواية "الفتنة"، لكنعان مكـّيـّة، اهتماما صحافيا ملحوظا،عفويا وموجها، اختلفت فيه المواقف، وتضاربت الآراء. فمن محبذ ومناصر ومبرر، الى مستهجن وغاضب. عدّها بعضهم "أخطر عمل أدبي في تاريخنا المعاصر"، و"منعطفاً مهماً في أدبيات العراق السياسية"، و"خلاصة فن الاعتراف"". ورأى فيها آخرون "عظة سقيمة" (أسعد أبو خليل)، حافلة بـ "الانتهاز والنفاق وخيانة الضمير والتلفيق" (صبحي حديدي). ووجدها بعضهم رواية إشكالية بامتياز، ورأى مخالفوهم أنها إشكالية بحق، ولكن في حجم وقاحتها. لذلك، ربما لن يضيف المرء شيئا جديدا لو أنه انضم الى من سبقوه، وحصر مسعاه في توزيع شهادات الاستحقاق التقديرية. إن تفحص وجه آخر من وجوه مكـّيـّة، كتتبع قواعد تأسيس الحجج العقلية، وبدقة أكبر منطق بناء الأفكار، ربما يكون أكثر فائدة. عدا لمحات تقويمية موجزة، تتعلق بالجانب الفني من رواية "الفتنة"، ستتركز ملاحظاتنا في المصطلح، وفي البراهين العقلية، والعلاقة بين الفكر والواقع، بصرف النظر عن تأويلها السياسي و نيّات كاتبها ومنتقديه.

علي بابا والأربعون عراقي

أصدر مكـّيـّة ثلاثة كتب متتابعة، في فترات متقاربة جدا: رواية "الحبل" باللغة الإنكليزية، رواية "الفتنة" باللغة العربية، وكتاب "هوامش على كتاب الفتنة". "الحبل" و"الفتنة"هما الرواية عينها، ولكن بلغتين مختلفتين. تعدد اللغات أثار أسئلة كثيرة: لماذا تغيّر العنوان؟ هل هي ترجمة أم تأليف؟ هل الفتنة سابقة في التأليف أم لاحقة؟ أما كتاب "هوامش..." فهو ملحق بنص "الفتنة". وهنا أيضا ظهرت طائفة جديدة من الأسئلة: لماذا خـُص نص الفتنة بالهوامش؟ لماذا ظهر اختلاف بين النصين الروائيين يتعلق بالاعتذار؟ إذا كانت الهوامش وسيلة معرفية تقوم بتوضيح ما لبس في المتن، أما كان الأولى بالهامش أن يكون موجها الى القارئ الأجنبي، الذي يجهل خصوصيات التعابير وخلفياتها التاريخية؟ وحتى لو كان ملحق "الحبل" يحوي الأفكار نفسها، التي حملها كتاب "هامش"، يبرز سؤال جديد أكثر إقلاقا: لماذا انفصل الهامش في النص العربي وصدر لاحقا؟ أهي لعبة ترويج ذكية من مكـّيـّة، أراد بها تحفيز قارئه وتشجيعه على فتح أبواب الكنز السحري الثمين، كنز علي بابا الأميركي والأربعين عراقي؟
ورغم أننا لم نزل عند العناوين، إلاّ أن الأسئلة ما انفكت تتناسل، ثم تنشطر وتتضاعف.
ولكن، لا غرابة في ذلك كله. فخلف هذا التوالد الاستفهامي يكمن سياسي مثير، ذو تجربة ثرية تستحق أن يُصغى الى خطابها. اسم يشبه، الى حد كبير، علامة استفهام ضخمة في نهاية جملة مليئة بالأسرار الاستفزازية.
ارتبط اسم مكـّيـّة بإحدى معضلاتنا السياسية الكبيرة: "تحرير " أو "احتلال" العراق، المقدمة المنطقية للزلزال القومي الأكبر: الربيع العربي، أو الجحيم العربي، الذي سماه مكـّيـّة "انبثاق روح جديدة للمواطنة" (هوامش: ص 30)، والذي قاد، في نظر آخرين، الى الإجهاز التام على روح المواطنة، وعلى أرواح ملايين المواطنين، في غير بلد عربي.
بصرف النظر عن زاوية تقييم الأحداث، يظل مكـّيـّة مصدرا عالي القيمة في معادلة الحرية العراقية والعربية القائمة، وفي تفاصيل قدرها الوجودي، الكارثي حصريا. أنتج كتبا ذوات طبيعة تجميعية ودعائية ضد نظام الحكم في حقبة صدام حسين. أسس مركزا للأبحاث بدعم أميركي، وعمل في مركز دراسات الشرق الاوسط ، جامعة هارفرد، ثم ظهر علنا باعتباره الرجل الثاني في مجموعة أحمد الجلبي، التي كانت في طليعة مؤازري زحف الجيوش الغازية الذاهبة باتجاه التراب العراقي. في مؤتمر لندن ( 2002) ظهر ثقله الحقيقي، حينما كـُلـّف وحده باختيار ما يقرب من ربع عدد المدعوين الى وليمة التهام العراق. وهو المؤتمر الذي أعلنت فيه أخطر أسرار الحرب: الاستيلاء على عرش العراق بالحكم الأجنبي المباشر. جيشه "قوات العراق الحر" تقلد شرف صناعة ما اسماه رامسفيلد التدريب على ممارسة الحرية، الذي تم تسميته بالفوضى الخلاقة، أو الفوضى الخالقة. وهو المصطلح الأكثر دقة، المعبر عن إعادة تخليق الأجنـّة السياسية والعقلية.

قوات الردع الثقافية
نظرة شاملة على الملامح العامة للنقد الموجه الى كنعان مكـّيـّة، تؤكد لنا أن جلّ ما كتب عنه حمل الكثير من المسبقات السلبية أو الإيجابية. وهو نقد ركـّز على جوانب مقتطعة من النصوص، من دون أن يبحث فيها باعتبارها وحدة عقلية مترابطة ومتكاملة، لها امتداداتها العلنية والخفية. احتلت شخصية مكـّيـّة، وليس أفكاره، موقع الصدارة في معظم التقييمات. وذهب بعض المتكسبين الصغار أبعد من هذا، الى عائلته، بحثا عن تزكية ممكنة. هذا المنحى النقدي أمر متوقع، تحسّب له مكـّيـّة نفسه، فأصدر كتابه "هوامش على كتاب الفتنة"، ليرد به على نقد النيّات، ولكن بنقد قائم على النيّات أيضا. وهنا يجترح مكـّيـّة سابقة عقلية لم يقم بها حتى صدام نفسه، الذي كان يقطع الآذان والأطراف بسبب شتيمة في لحظة غضب أو كلمة نقد عابرة. لكن مكـّيـّة "اللبرالي"، الذي استقدم جيوش العالم من أجل التخلص من "القسوة" والكبت الثقافي، تجاوز صدام في رقابته النقدية. فهو يقيم "ردعا" استباقيّا لمن يعتقد أنه يملك "نيّات" نقديّة مخالفة. يقول مكـّيـّة " نيتي وراء كتاب الفتنة – أحسب أنه يعني كتاب "هامش..."، لأن دفاعه عن نفسه لم يظهر في الفتنة، وإنما في الهامش - وذلك لردع بعض الاتهامات قبل أن تقذف نحوي"!!( هامش على كتاب الفتنة- ص 13 )
هذه الظاهرة لمسناها لدى بعض المعارضين السوريين أيضا - جلهم من أصول يسارية كمكـّيـّة - في مرحلة "سلمية سلمية"، التى تحولت الى جهاد مقدس و"مدافع جهنم". النقد الاستباقي، نقد النيّات، تعرفنا عليه قبل ذلك لدى أبرز وجوه الحقبة الديكتاتورية الثقافيين، الشاعر سامي مهدي، الذي خاطب الشاعر سعدي يوسف بنقد شبحي، استباقي مماثل : " جنة هي، أم لعبة صرت تتقنها وتزوقها بيديك؟ أنت تنشيء مما توهمت زنزانة، وتجند في بابها شبحا تدعي انه شرطي، وتصطنع الرعب منه. وإذا لا يجاريك، تحشو مسدسه بالرصاص، وتغريه أن يطلق النار، غيظا، عليك". كان الديكتاتور وشرطيّه وشاعره وهما. الاحتلال وهم أيضا، وجحافل التكفيريين وهم، ووليد الاحتلال الفاسد وهم. إن توارث تهمة وجريمة مقاتلة الوهم نتيجة منطقية من نتائح اصطدام المذنبين بواقع لا يستجيب لإرادتهم بيسر.
هل يريد مكـّيـّة إعادة قوانين الردع الثقافي وتعميمها عراقيا، وربما عربيا؟ هذه خلاصة عقلية مؤسفة تتعلق بالمنهج، وتاليا بالسلوك، وقبلها بالنيّات. إن النقد على النيّات، يشبه القتل على الحواجز "الطيّارة"، عملية نفسية معقدة، تكتنز قدرا عاليا من المشاعر والمكبوتات العدائية، تشمل: أولا، افتراض نقد (عدو) قبل وقوعه. ثانيا، الإيمان المسبق بسلبية هذا النقد وضرورة إلغائه (أنا أو أنت. معنا أو ضدنا). ثالثا، امتلاك حق وشرعية الهجوم (المبادرة العدوانية المبنيّة على حق احتكار الحقيقة: قضيتنا عادلة، قضيتنا صائبة، قضيتنا أخلاقية). ورابعا، ردع النقد وليس محاججته (الخروج من الحرية العقلية الى العبودية الايديولوجية). هذه الحزمة الانفعالية الشعورية المخيبة للآمال هي مفتتح الفتنة وأبشع مكاشفاتها.

جدلية الفتنة والخيانة
موضوعان احتلا موقع الصدارة في نصوص مكـّيـّة هما الفتنة والخيانة. والموضوعان، معا، مزيج من الاستبطانات الذاتية، المخلوطة بالشعارات السياسية العامة، والإثارة اللفظية، والنيّات الموجهة. فلا يعرف قارئ المتن والهامش عن أية فتنة يتحدث الكاتب، وكيف تجسدت هذه الفتنة في الواقع؟ وتاليا كيف انعكست فنيا في الرواية؟ وما أهميتها باعتبارها اشتغالا فنيا وثقافيا؟ أما الخيانة، التي أفاض الكاتب في شرح معانيها ودلالاتها وخصوصيتها العراقية، حالها كحال الفتنة، حالت دون أن يجيب بوضوح عن سؤال الرواية المحوري: خيانة من أو ماذا؟
الجواب الرمزي الذي أورده مكـّيـّة لا يشير الى الوجهة الحقيقة للخيانة المراد إيصال القارئ اليها:"يا للعار! نعم، كلنا نحن شيعة العراق خنّاه، وبخيانتنا له، خنّا أنفسنا". إن "خيانة" العراقيين لرمز الحرية الأعظم عبدالمجيد الخوئي، عراقي الاحتلال الأول، ورمز أول "خيبة" في حسابات المحتلين السياسية، ليست سوى مقدمة لخيبة (يسميها مكية خيانة) أكبر وأخطر: "خيانة ذلك الرجل هي لبّ كل الخيانات الأخرى في عراق ما بعد صدام". إنها خيانة الحلم الأميركي، خيانة مخطط الحرية الأميركي، والتي لا تعني سوى خيبة مشروع التحرير من طريق الاحتلال، التي يحاول مكـّيـّة لي عنقها وتوجيهها وجهة مغايرة لحقيقتها. ( ص 357 ).
لماذا رواية؟ وما ضرورة أن يتحول سياسي وكاتب وباحث متخصص، في ختام خدمته البحثية، روائيا مبتدئا؟ ما الذي حمله على ذلك؟ لماذا اضطر بعد أيام قلائل، عقب صدور روايته، الى كتابة تبريرات سياسة وذاتية في الهامش، مهمتها تقويل نفسه ونصه القصصي ما لم يفصح عنه روائيا؟ أهو استدراك فني وشعور بالنقص؟ أم خطة استباقية رادعة؟
الحدثان الرئيسان في الرواية، المثيران في طريقة تنفيذهما، وفي دلالتهما في الواقع، المرتبطان بالفتنة والخيانة، هما "مهزلة شنق صدام"، ومقتل الخوئي "لبّ الخيانات". وعلى الرغم من افتتاح واختتام الرواية بالحدث الأول، إلا أن الحدثين ظلا معزولين فنيا عن بعضهما، ولا يشكلان ثقلا سرديا طبيعيا متكاملا ومتناميا في سياق النص إلا على نحو مفتعل. أحداثهما معروفة ومطروقة كوقائع، ولا جديد في إعادة عرضهما، ولا دلالة سردية عالية ذات بُعد شامل حكائيا لهما، سوى شهرة الحدثين، نظرا لارتباط الأول بشخصية كبيرة حيّرت العالم، ونظرا لأن الثانية كانت مفتتح عملية الغزو وأول وأسرع خطأ في حسابات المحتلين. الدلالة الرمزية للخوئي أكثر من شاحبة، إن لم تكن مصطنعة وملفقة. لذلك فقد المؤلف السيطرة على حركة أفكاره ودلالات رموزه، التي قادت الى تمرد المغزى على إرادة مؤلفه، وتحوّل النص من وثيقة إثبات الى وثيقة إدانة مناقضة لـ "نيات" كاتبها، بالطريقة نفسها التي تمرد بها الواقع العراقي المعقد على المحتلين. وأحسب أن هذا التمرد هو الذي دفع مكـّيـّة الى التعجيل بكتابة "هامش.." واستخدام منهج الردع الاستباقي في مواجهة خصوم محتملين. فقد كان الشخص المرسوم على الورق وأصله الواقعي يشيان، من جوانبهما كافة، بعكس ما أراده المؤلف. إن الدلالة الرمزية الوحيدة للخوئي هي خيبة المشروع الأميركي والاحتلال، جراء الفشل في إقامة نظام عادل على انقاض نظام ظالم. لا خلاصة رمزية أخرى يمكن استنتاجها هنا، على الرغم من الجهد اللغوي والعقلي الذي بذله مكـّيــّة بغية تحريف مدلول كلمة خيانة، باخراجها من واقعها القاموسي والرمزي، وخلطها بمفردة فتنة تارة وبمفردة خذلان تارة أخرى. أثر الحدثين على تكوين الشخصيات مؤذ فنيا، لأنه لم يمنح الشخصية القصصية ملكة التطور التصاعدي، ولم يغنها داخليا. على العكس قام بطمس خصوصياتها من طريق تجميع وتكديس التفاصيل غير الممحصة وغير المتجانسة حولها. لقد زاد من واحدية أفق ومحتوى الشخصية أنها تتحدث بلسان ومشاعر وأفكار المؤلف. وتتضاعف تصدعات الشخصية حينما تصبح ساردا يراقب الآخرين وينسى نفسه. حتى انه كان يستخدم تعابير ومشاعر أعدائه في قضايا خطيرة وحساسة، كوصف أصحابه بـ"المتهسترين" و"الكلاب المسعورة" و "بالوعة أجنبية"، علما أن رمزه الأعلى كان طليعة القادمين من الخارج ومرشد الأجنبي الأول! كان السارد شخصية عليمة جدا، يعرف أدق أسرار "الطاغية"، بما في ذلك من أي وبر صُنع معطعف صدام، وجنسية الخيّاط الذي خاطه له! ناهيك عن عدد العمليات القتالية، التي واجهت المحتلين، وأنواعها ومنفذيها وتصنيف وسائل تنفيذها. المفارقة الفنية والعقلية الكبيرة هنا، تكمن في أن بطل مكـّيـّة العليم عرف كل شيء ولم يعرف "لب الخيانات". فلم يتمكن من التعرف على شخصية "الخوئي"، محور الرواية ورمزها الأكبر، إلا بعد مغامرات سردية وعقلية طويلة، مغرقة في المواعظ السياسية التبريرية. لقد فشل الراوي في معرفة "بطل" الرواية الرئيس، وأخفق في الإمساك بالدلالة الأساسية لعبرة الرواية، على الرغم من أنه ابن النجف، وأحد جيران بيت الخوئي، وأحد الذين أحصوا عدد الطعنات التي اخترقت جسد "الخوئي". هنا تكمن أبرز مواطن تناقضات الشخصية والرواية والفكرة المركزية للمؤلف، التي هي في جوهرها انعكاس لتناقضات المشروع الأميركي العقلية والتنفيذية.

الفتنة واقعا وتاريخا وسردا

إن أبرز عناوين الفتنة في تاريخ العراق القريب ثلاثة: إشارات أميركا ودول الخليج الايجابية لصدام باجتياح الحدود الإيرانية، الحرب التي مهدت لصناعة الأساس الحسي للفتنة السنية الشيعية. وثانيا إشارة السفيرة غلاسبي قبيل غزو الكويت، الحرب التي جعلت الاحتلال الأميركي المباشر للمنطقة "ضرورة" و"قدرا"واقعيا، وأسست للفتنة القومية الشاملة. أما الفتنة الثالثة، فلم تكن إعدام صدام حسين في يوم العيد على يد "الشيعة"، كما جاء في تحليل مكـّيـّة، في سعي منه لتوجيه الواقعة لصالح القوات الأميركية. إن المُخطط الأول والفاعل في موضوع الإعدام هو من قام بتسليم خصم بحجم صدام الى سلطة مهزوزة، انتقامية، واقعة تحت الإحتلال، في ليلة العيد تحديدا، في منطقة محاذية جدا للأعظمية الملتهبة، قلب ورمز بغداد السني. رافق ذلك إعلان صريح وعلني من قبل المُسلـِّم، يؤكد فيه أنه يُخلي سبيله من مهمة "حراسة" المحكوم بالإعدام منذ تلك اللحظة المثيرة. كان تسليم صدام قرارا أميركيا رئاسيا فتنويّا من أعلى طراز. فإذا كانت إشارة غلاسبي، المصممة تصميما ذكيّا بمعايير دولية، قادت الى غزو الكويت وقلبت موازين المنطقة بأسرها، وأحدثت أكبر فتنة بين الشعوب العربية في تاريخها المعاصر، فالإشارة ذاتها تمت إعادتها بمعايير ومضمرات شريرة ومدروسة، فكانت سببا في التعجيل بالإعدام، لرفع منسوب الاحتراب الطائفي، الذي انفجر انفجارا مرعبا منذ ذلك التاريخ. أما المالكي، المستلم، والمريض سياسيا، فشأنه معروف. أراد بالإعدام شراء مشاعر القطيع المتعطش للدم والانتقام، والاستمتاع بلحظة فرح عصابية، من النمط الزقاقي.
يؤكد مكـّيـّة أن كلمة "الفتنة"، كلمة عربية خالصة الخصوصية. أي أنها حالها كحال اللاعقلانية "كتبت على جيناتنا"، بكل ما يحمله التفسير من مدلولات عرقية، منافية لطبيعة التفكير الإنساني الحر. أراد مكـّيـّة بهذا التفسير الكريه الايحاء بأنه لم يجد ما يقابل مفردة فتنة بالإنكليزية، فاضطر الى ترجمتها بكلمة "الحبل" في النص الإنكليزي. وهذا ضرب من التوجيه الدعائي، الذي لا يقدم عليه مشتغل في مجالي الأدب والثقافة، إلا إذا كان يستهين بالقارئ ويحتقر عقول الناس. لأن الجميع يعرف أن تعبير "الفتنة" موجود في اللغات الأوروبية كافة، وموجود في لغات عديدة بلفظه العربي الخالص. إن الفتنة، التي تعني الشغب المصحوب بالاضطراب وانقسام المجتمع حول قضية مركزية، لها ما لا يقل عن عشرة مرادفات بالإنكليزية وحدها. إن اختيار مفردة "الحبل" دليل جدي على عدم اقتناع مكـّيـّة نفسه بتعبير الفتنة، وأن منظر "الحبل" الذي لـُف حول رقبة صدام، بدا له أكثر واقعية وأمضى من الناحية الدعائية أجنبيا. وحتى هنا، في الجانب التاريخي، وفي التداعي الذهني، الذي تثيره الكلمة، نجد فسادا سافرا في فهم المفردة وتاريخ تداولها وتداعياتها. إن كلمة "الفتنة" تتعارض تعارضا بيّنا من وجوه عديدة، في مدلولها، مع كلمة "الخيانة"، التي صارت محور كتاب "هامش على كتاب الفتنة". وهي كلمة ولع بها مكـّيـّة منذ زمن بعيد، وجعلها ضربا من الفوضى اللغوية، وليس حالة سياسية وسلوكية معروفة ومحددة. لقد انغمس مكـّيـّة في لعبة البحث عن أصناف الخونة انغماسا مثيرا للدهشة، حتى أنه جعل الخيانة تجري في عروق العراقيين جريان الدم في الجسم الحي: " تارة يخون الجلاد ضحيته وتارة تخون الضحية جلادها"،"سقط الطاغية فأصبحنا مدمنين على إرثه: الخيانة". (لم يوضح للقارئ صلة صدام بخياناتنا الوراثية التي تعود الى مقتل الحسين والى ماقبله، كما يقول!!). "خيانة بلا نهايات"، "ربما نحن شيعة العراق (لماذا التخصيص!!) ولدنا ضحايا كما ولدنا خونة"، هل "اخترنا الخيانة، أم هي متأصلة فينا وهي التي اختارتنا؟"، "لربما الخيانة أقدم من حتى من مقتل سيدنا الحسين".
وعلى الرغم من أن الخيانة مفهوم واضح الدلالة، لا يختلط تفسيره في ذهن أحد، بصيغته المباشرة أوالتأويلية، إلا أن مكـّيـّة جعله حالة مبهمة وشاملة، لا يسهل على أحد ضبط حدودها. بيد أنه لفرط انغماسه فيها نسي أن يموضع نفسه في مكان محدد من لعبة الخيانة: هل هو ضحية خائنة أم جلاد خائن؟ أم هو خارج معادلات الجلادين والضحايا الخونة، محصـّن ومعصوم منها، بالضبط كما هو خارج معادلات اللاعقلانية والفتنة!
من هنا نرى أن الربط بين الخيانة والفتنة، ما هي إلا محاولة للوصول الى جواب محدد، عن سؤال محدد، هو هاجس الرواية المحوري المضمر، وسؤال المرحلة الراهنة: "هل نلوم الطاغية؟ أم جميعنا ملامون (خونة)؟". الجواب: نعم، جميعنا خونة، باستثناء "الابن الذي لم يصمت... ولم يخن"، "ابن المرجع الشيعي الأعلى"، عبد المجيد الخوئي، شبيه مكـّيـّة في البراءة من الخيانة.
استغراق مكـّيـّة الطويل في مناقشة مفردة خيانة، ناظرا اليها من زوايا مختلفة، كاد أن يجعلها كابوسا عقليا. شدة ضغط مفردة خيانة الشعوري على الكاتب، وثقلها النفسي، تجعل القارئ يحسب أن الكاتب يسعى الى إعادة جدولتها، لكي لا تتماشى مع الاحتلال وحده، بل لكي تمتد أيضا الى مرحلة ما بعد الاحتلال.
لا بد لنا أن تختتم النقاش حول الفتنة بسؤال صغير: إذا كان مقتل الخوئي عظيم عظمة مقتل عثمان والحسين، لماذا لم يتم تجريم القاتل والمحرض؟ الجواب: لأن الجماعات الشيعية الحاكمة توافقت على ابتلاع القضية بالصمت. وهنا يبرز مجددا الخلل المنطقي والحسابي والسياسي حتى في معاييره البسيطة والسطحية: من كان يمسك بمقود الأمن والعدالة حينذاك؟ من كان يحكم العراق، الجماعات الشيعيّة أم قوات أبي زيد؟ هنا نرى أن التاريخ وتفسيراته، والأحداث السياسة وتفسيراتها، عبارة عن سلسلة هشة من العبارات التي لا يربطها رابط ولا يجمعها منطق.

برابرة مؤدبون وخونة طيبون!

تصدعات المنطق تصل حدودا عميقة حينما يجعل مكـّيـّة القبول بالاحتلال نتيجة منطقية عادلة، وهبة تاريخية فريدة، نظرا لأن الشعب وصل الى حالة اليأس المطلق. وهي حجة فاسدة منطقيّا حينما يروج لها ويعتنقها المتنورون بشكل خاص، وباطلة سياسيّا لدى من يدّعون أنهم قادة وطليعة المجتمع، رغم أنها ترددت على ألسنة كثيرين. يقول الكاتب أحمد سعداوي: "لا ننسى أن الغالبية منّا، كعراقيين، كنا بشكل أو بآخر مع الاحتلال الاميركي. كنا مؤمنين، أناساً عاديين ونخباً مثقفة، بأنه لا خلاص من السجن الرهيب [الذي كانت اعمدته الديكتاتورية وسقفه العقوبات الاقتصادية الدولية]، إلا بمجيء البرابرة". لقد أغفل الكاتب هنا أمرين: الأول، ان استعارة تعبير البرابرة من مكـّيـّة، وليس من مصدره الحقيقي، ينطوي على خلل فني جسيم. لأن مكـّيـّة كان يعني بالبرابرة الذين "يطرقون الأبواب" القوى التي احتلت الموصل، أي تنظيم داعش. فهنا أيضا يضرب مكـّيـّة مجددا على وتر " القسوة" سبيلا وسببا لاختيار البربري الجميل، بديلا من صدام بالاحتلال، ومن داعش بإعادة الاحتلال. وثانيا، نسي الكاتب أن يذكر في الأسباب ما كان موجودا بين "الأعمدة" و"السقف": تمزيق البنى التحتيـّة، وتدمير أكثر من 2800 منشأة اقتصادية حيوية بالصواريخ والقنابل، تعود ملكيتها - رغما عن أنف الديكتاتور وخصومه- الى المجتمع العراقي، وليست جزءا من "عراق صدام"، كما كانت صحف المعارضة تشيع.
إن اليأس والشقاء و"القسوة"، قد تقود الى التسليم بحلول بربرية والقبول بالشيطان منقذا. هذا ممكن جدا ومنطقي. لكن ما هو غير منطقي أن تبنى خيارات التاريخ المصيرية على مشاعر اليأس والاستلاب . إن مشاعر اليأس والاحباط لا تصلح أن تكون مشروعا للحرية على الإطلاق. بل على العكس، هي مشروع أكيد لتكريس العبودية، باسم حرية مغشوشة. لأنها لا تكتفي بإسناد مشروع البرابرة عند الغزو، بل تمنحهم الحق في إدارة دفة اليأس والإحباط على هواهم، واستثمارها سياسيا وثقافيا، وحتى عسكريا، في مرحلة ما بعد الغزو. وهذا سبب أساسي في ما حصل لاحقا في العراق، بعد اختيار البربري الخطأ. وما نقاشنا الآن سوى عيـّنة حيّة منه. ولهذا أيضا شاعت في "العراق الحر" نظرية أفضل الشرور، التي سماها سكرتير الحزب الشيوعي العراقي بفخر "أفضل السيئات". فإذا كان الشعب اليائس يبحث عن منقذ، حتى لو كان في هيئة بربري سيئ، كيف تسول النفس لقائد ثقافي أن يقوم طوعا، وبحرية "لبرالية"، بانتقاء أفضل الأشرار، جاعلا من نفسه دليلا حربيا لهذا البربري؟ إن سياسة أفضل الأشرار، التي هي حرية العبيد في ثوبها الأبشع، هي التي صنعت واقع ما بعد الاحتلال، وهي التي صنعت ما يعرف بالعملية السياسية، القائمة على المحاصصة والفساد المالي والسياسي والمهني والأخلاقي. إنه الشر، الذي لا يلد سوى الأشرارً.
إذا تجاوزنا حقائق التاريخ، التي تؤكد قيام غير محاولة انقلابية داخلية تم إجهاض آخرها وأقواها على يد الأميركان قبيل الغزو، فإننا لا نعرف سبب تحشيد قوات قوامها أكثر من ربع مليون مقاتل، كما يدعي أصحاب مكـّيـّة أنفسهم (راجع صحيفة المعارضة: المؤتمر): الموتمر الوطني 26 ألف مقاتل، الأكراد 120 ألف بيشمركة يقبضون رواتبهم حتى اليوم، المجلس الأعلى 65 ألف عضو تحت لواء قوات بدر وحدها، الحزب الشيوعي ادعى بوجود 10 آلاف مقاتل ونصير، وحزب الدعوة حدث ولا حرج، والدليل على ذلك أسماء عشرات الآلاف من المسجلين في قوائم رواتب ومُنح المناضلين ضد الديكتاتورية. لماذا نبحث عن برابرة محررين ونحن نملك هذه الجحافل الجرارة من المقاتلين مدفوعي الأجر؟