كأس خمر داعشيّة في صحّة مجلس النوّام العراقي!


سلام عبود
2016 / 11 / 1 - 22:25     

أثار قرار حظر بيع الخمور ردودا واسعة، اختلفت وتنوعت في طريقة معالجة الموضوع. فقد ذهب بعضهم الى بطلان الحظر، لأن الخمر ليست محرمة أصلا. وقد سعد التحريميّون بهذا الرأي كثيرا، لأنه خفف عنهم مشقة الرّد، ولسان حالهم يقول: حتى الجاهل يعرف بأن التحريم في هذا الجانب منصوص عليه قرآنيّا.
هناك من ذهب الى عدم جواز القرار لأسباب تنظيمية ودستورية تتعلق بنصاب جلسة التصويت في مجلس النواب، ومنهم من جعل القرار مادة للصدام مع مكونات غير مسلمة. تعددت مسببات الرفض، وتنوعت ضعفا وقوة، لكنها لم تقترب كثيرا من السبب الأكثر أهمية في موضوع الحظر: توقيته الزمني ومآربه البعيدة.
من دون شك تحدّث البعض عن حراجة الموقف العام في ظل معركة الموصل، التي هي معركة الوحدة الوطنية، كما يراها أبناء الشعب عامة، برغم ما يكتنفها من تضارب في المصالح والاتجاهات والإرادات.
إن ربط القرار بالمعركة ضد الإرهاب تعليل سليم في مغزاه العام، أي في حاجة المجتمع العراقي الى قسط عال من التلاحم، بدلا من إثارة خلافات مصطنعة، في غير أوانها. فالجبهة الداخلية في عوز تام الى التطمين، بدلا من إقلاق المجتمع بمعارك منتخبة انتخابا لصوصيا عجيبا، في توقيت انتهازي، يثير الريبة الشديدة.
إن السبب الأهم والأخطر في هذه المبادرة التحريمية لا يكمن في فكرة الحظر نفسها باعتبارها إجراء شرعيا، ولا في إثارة نزاعات مشكوك في نياتها ومغازيها، مجيرة لفائدة القوى التكفيرية، ولا في محاولة تحاصص الدين حسب، بل يكمن أيضا في ربط الانتصارات العسكرية الوطنية باستحقاقات إيمانية مزايدة، ومنافقة، قائمة على الدعاية السياسية، والكسب الحزبي الرخيص، باسم الشريعة. إن ربط التصعيد الديني بالمعركة العسكرية ضرب من الابتزاز الجماعي الخبيث، المفرّغ من كل معاني الإيمان الحقيقي بالوطن وبالدين وبالأخلاق القويمة، يتم تسجيله باسم قوى حزبية متنافسة، تتبارى مع داعش في حجم مكاسبها التكفيرية وفي كميّة غنائمها الدنيوية والدينية، ضاربة مصالح المجتمع والوطن عرض الحائط.
إن ما لم يتنبه له المجتمع هو أن مساومات خطيرة وكبيرة تجري علنا تحت راية النصر العسكري المتوقع. فقد تجمّد خطاب المعارضة النيابيّة والمدنيّة، واغلقت ملفات محاربة الفساد، وطويت صفحة الحديث عن الإصلاحات، وألغيت حتى قوانين إصلاحية خطيرة مثل نواب الرئيس، التي أقرتها السلطة نفسها، وتم التوافق عليها أمام أعين الشعب كله. وهذا كله لا يعني سوى إعادة عمليات التحاصص مجددا بقوة أكبر، وبشرعية أعلى، تحت سقف المعركة العسكرية الوطنية. وبمعنى أدق استغلال مشاعر الوحدة الوطنية العالية، ومشاعر النصر المرتقب، لغرض اقتطاف أكبر عدد من الغنائم السياسية، الحزبية، التي تسهم في تدعيم جبهة الفساد والتحاصص والتسلط الاجتماعي والسياسي. في هذا المناخ أتت فتوى الحظر وقرارها المريب، الذي يريد انتزاع تشريعات تحريمية وتجريمية، من فم الانتصارات العسكرية الوطنية، المضمخة بدماء ومعاناة ملايين العراقيين في جبهات القتال وخارجها.
إن تحقيق انتصار ديني تعسفي، في ظل صعود مشاعر التضامن الوطني، فعل مريب جدا، وليس نفحة براءة من مؤمن متعبد، أو حرصا على طقوس الإيمان الديني، وإخلاصا للشريعة.
مثل هذه المتاجرة بالدين وخلط الدين بالحرب رأيناها بصورة أوضح وأفصح أمام أعيننا في السعودية أيضا قبل أيام، حينما اشتدت أزمتها العسكرية على أثر افتضاح حجم إجرامها الحقود بحق الشعب اليمني المستفرد عالميا. فقد غيّرت السعودية وعلماء التكفير وحتى ممثل الأمم المتحدة مسار الصاروخ الذاهب الى مطار جدة العسكري، وحولته في خطاباتها الدعائيّة باتجاه مكة، لغرض تضليل البسطاء من الناس. التاريخ كله يعرف أن السابقة الكبرى في ضرب الكعبة حدثت على يد مجرم بني أمية الحجاج الثقفي. تكفيريو اليوم، الوهابيون ودعاتهم، هم أبرز من جوّز للحجاج ضرب الكعبة، معللين الأمر بأن منجنيقات الحجاج "الذكية"، لم تضرب من الكعبة سوى التوسعة. والتوسعة في نظرهم جزء محدث، لا يملك من القدسية ما يملكه الجزء القديم! هذا التبرير المتهافت لا يعني سوى أمر واحد: إن حجارة منجنيق الحجاج أقدس من الكعبة نفسها في نظر علماء التكفير وعبدة السلطة. إن تحويل مسار الصاروخ إعلاميا باتجاه الكعبة، استخدام أخرق يتصادم تصادما تاما مع اغتفار "كبائر" الحجاج تجاه الكعبة، التي منحت مباركة وتكريما من لدن التكفيريين الوهابيين. إن الكعبة في الحالين، في الاغتفار الصادق، وفي التجريم الكاذب، وسيلة للدعاية السياسية وللتضليل باسم أعلى المقدسات.
هنا ينهض سؤال لا يخطر ببال التكفيريين: إذا كنتم نجحتم إعلاميا في تضليل مسلم مسكين وأقنعتموه بحجتكم، كيف تقنعون رب العالمين، الواحد الأحد، العلاّم العليم؟ هذا المبدأ الفاسد عقليّا وإيمانيّا يدل دلالة لا ريب فيها على أن هذا الفكر لا يؤمن، في قرارة نفسه، حتى بوجود الله، أو أنه في أهون التفسيرات يستطيع التلاعب بالله على هواه، كما يشاء. تبرئة منجيق الحجاج واتهام الصاروخ اليمني المتجه الى مطار جدة، كرد وحيد ممكن ضد الهمجية السعودية، واعتباره "عظيمة لا تغتفر"، ليس تناقضا في التفسير والتأويل والتوجيه حسب، بل تناقض جوهري في صدق الإيمان بالله باعتباره ذاتا عليا! هؤلاء لا يؤمنون بأحد، حتى بخالقهم. لأن ربهم الحقيقي هو السلطة الباطشة والمال الحرام. إنهم يجردون الله من قدراته الربانيّة، ويحيلونه الى مجرد مستمع ومشاهد غافل، لا يعي ولا يعقل!
النتائج الحسيّة المباشرة لهذه الوقائع كثيرة، منها: الضحك على عقول المؤمنين، حرف بوصلة الشعور الوطني الجامع وتفريق شمله، وتحويل الدين الى لعبة إعلاميّة سقيمة وسمجة، ووضع الدعاية الدينية التكسبيّة التضليليّة في مواجهة مشاعر المجتمع الصادقة وأمانه ووحدته وحقائقه التاريخية.
مهزلة صاروخ الكعبة تشبه مهزلة صاروخ حظر الخمور، الذي انطلق في أوج معركة وطنية مصيرية كبرى، هي أقرب ما تكون معركة وجودية بمقاييسها المادية والروحية.
السؤال الذي نواجهه الآن هو: لم تزل القوات الوطنية على أعتاب الموصل والنائب المؤمن "المستعجل" يريد تحقيق نصر ديني سريع على حساب الشعب ودمائه وتضحياته، ماذا سيفعل مطلقو صواريخ الفتنة من "خبثاء التوابين" غدا، لو تمّ النصر حقيقة واستكملت أهدافه؟
هل نحن على موعد مع قانون "نكاح الجهاد"، بديلا من "جهاد النكاح" الداعشي؟
ربما، وربما أكثر وأقبح من هذا!
البازار التكفيري في أوجه.