أيديولوجيات باقية -- 1 - الأيديولوجيا البرجوازية


رمضان عيسى
2016 / 10 / 30 - 19:12     

مقدمة :
إن كل إنسان يتمنى أن يعيش في مجتمع خال من الظلم الاجتماعي ، مجتمع تسوده المساواة وتكافؤ الفرص . ولكن يبدو أن هذا هو مطلب عصي على التطبيق ، إنها أُمنية بعيدة المنال . ولكن هل يعني هذا أن نتوقف عن السعي إليها لكي نحصل عليها بهذا القدر أو ذاك ؟ بالطبع لا ، فيجب على الإنسان أن يكون الطموح لديه لتحقيق المجتمع الأفضل ضمن أولوياته للمحافظة على بقائه الشخصي والاجتماعي .
إن الديالكتيك هو علم التطور ، وهو جوهر الفلسفة العلمية والذي يوحي لنا بعلائم مستقبلية عن المجتمع الأفضل الذي سيكون نتيجة لحل الكثير من المتناقضات الحادثة في المجتمع ، والحلول الصحيحة ستقربنا أكثر فأكثر من المجتمع الأفضل .
ولكن الديالكتيك يعمل في المجتمع ليس بطريقة حسابية مستقيمة ، إنه يعمل بطريقة تفاعلية وصراع بين المتضادات في المجتمع يتخللها التدرج والقفزات ، وهذا لا ينفي إمكانية حدوث ارتدادات ، وهذا الطريق لا يمكن تحديده زمنيا ، فقد يطول أو يقصر حسب نوعية المتناقضات الاجتماعية ودرجة التفاعل الواعي والمشاركة النشطة من جانب القوى الاجتماعية التي لها المصلحة القوية في بناء المجتمع الأفضل .
إن الطريق طويل ، والنضالات لا تتوقف ، ولكننا نعلم أنه مادام هناك مجتمع إنساني على سطح هذا الكوكب ، إذا هناك إفرازات فكرية وسلوكية لا مناص منها ، حيث لا مفر من وجود مظاهر سلبية تلازم المجتمع الإنساني مثل : الفردية والأنانية ، والتي تزكي الجنوح لتنمية وخلق فوارق اجتماعية وطبقات .
ويقابلها الجماعية والاجتماعية ، والعادة الجمعية ، والنزوع إلى إظهار قيم الحق والخير والجمال. وبما أن الناس ليسوا بنفس المستوى من الفهم والاستيعاب للمجريات والمظاهر الحياتية ، إذا لا بد من وجود مستوى ولو بسيط من الجهل ، وبالمقابل مستوى نامٍ من العلم .
وهذه الفوارق ، وفي ظل ظروف معينة قد تنمو بحيث ينتج عنها طبقات اجتماعية تظلم بعضها بعضا ، وبالتالي تبقى هناك أيديولوجيات متلازمة مع هذه الفوارق أو الطبقات الاجتماعية . فالأغنياء سيتمسكون بالأيديولوجية الرأسمالية ، والأفكار البرجوازية التي يدافعون بها عن مصالحهم ، والجموع الغفيرة المُضللة سيكون عزاؤهم في الأيديولوجية الدينية التي ترسم لهم عالما آخر بعد الموت سيكون نصيبهم كتعويض عن العذاب والظلم الطبقي الذي يواجهونه في الحياة الدنيا .
أما من لديهم قسطا من الوعي الاجتماعي الطبقي ، وتعرفوا على الأسباب الحقيقية للظلم الاجتماعي ، فإنهم يرفضون الأيديولوجيا الرأسمالية ، والأيديولوجيا الدينية ، لأنهم عرفوا أن البديل لهذه وتلك هو الطريق الثوري للتغيير ، وستكون الأيديولوجيا الماركسية هي ملاذهم الفكري لأنها توضح لهم المبررات الواقعية والعلمية للتغيير ، وتمنحهم الثقة وتخلق لديهم الدوافع لإمكانية تحقيق المجتمع الأفضل على الأرض .
فعلى مدى التاريخ لم يستطع أي نظام حكم شمولي سواء كان نظام حكم ديني أو شيوعي من فرض أيديولوجية واحدة على شعب من الشعوب إلا بالعنف والإرهاب . فعلائم وجود أيديولوجية خفية خلف الأبواب المغلقة تطل برأسها من آن لآخر .
والسؤال ، لماذا هذه الأيديولوجيات ، باقية ؟

أولا : الأيديولوجيا البرجوازية
تتربع البرجوازية كطبقة مالكة على رأس الدولة في النظام الرأسمالي بوصفها المسيطرة على منابع الإنتاج الاقتصادي ، وتحت تصرفها ليس ما فوق الأرض ، بل ما في باطنها .
والرأسمالية كنظام اقتصادي تحت سيطرة الطبقة البرجوازية التي نشأت في رحم النظام الاقتصادي الإقطاعي ، ورفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة ، استطاعت أن تبني أيديولوجيا تحافظ على مصالحها ، وان تطيل عمرها لأجل غير مُسمى .
فالفرد في النظام الإقطاعي كان مقيدا بنظام الإنتاج الزراعي الذي تكون فيه الأرض هي المصدر الرئيسي لإنتاج الغذاء ، ومقيدا أيديولوجياً بالفكر الديني وسلطة الكنيسة .
والثورة الصناعية التي انطلقت في أوروبا أطلقت العنان للانفلات من كل القيود الفكرية والاقتصادية التي كان يفرضها النظام الإقطاعي . من هنا ترعرعت الأفكار الداعية للتحرر من القيود العملية والفكرية السابقة ، وانطلقت إلى نظام فكري تحرري يتطابق مع التركيبة الاقتصادية الجديدة .
فكان أولها التحرر من ربقة الكنيسة التي انكشفت في ثورات الإصلاح الديني التي قادها " مارتن لوثر " (10 نوفمبر 1483 - 18 فبراير 1546) الذي أطلق حركة المعارضة (البروتستانت) على صورة خمسة وتسعين سؤالاً، علقها على جدار كنيسة (فيتنبرجWittenberg)، يسأل فيها كيف يمكن لمجرم ارتكب كل الذنوب، أن يدخل جنة نعيم ؛ بتذاكر اشتراها من مال حرام، ونبت لحمه في الحرام؟؟
وجاء بعده توماس كامبانيلا فأصدر كتابه " هزيمة الإلحاد " وعرضه على شكل سؤال وجواب ، وهو ما يذكر بكتاب (قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن) لنديم الجسر بين حيران وأستاذه ، مع الفارق .
وكان كامبانيلا يعرض حجج اللوثرين والمارقين بقوة ووضوح ، ثم يأت برد الكنيسة على شكل ممل تقليدي عويص ، فاحتارت الكنيسة في أمره ، فهو يعرض آراءها مقابل الشبهات ، ثم اقتنعت أن الرجل كاثوليكي صالح وأنه فعل جهده في اعتناق المذهب الصحيح والذود عنه ، وهكذا أطلقت سراحه بعد 23 سنة من حبسه الطويل ، وتلقف الناس كتاب الرجل فلم يكن هزيمة للإلحاد ، بل كان نبعاً للإلحاد ، وهكذا أصبح إنجيلا في يد كل من ينافس ويعارض الكنيسة ويريد النيل منها ، بسبب قوة الحجج المعروضة على لسان خصوم البابا والكنيسة . وكشف هذا الكتاب عدم قدرة الفكر الكنسي على الصمود أما أي تساؤل حتى في القضايا الدينية .
ساعدت ثورات الإصلاح على ظهور النظام الرأسمالي وشعاراته (الحرية والإخاء والمساواة) , ولكن وعلى الرغم من قيم الحرية الفردية والديمقراطية السياسية التي رسختها الرأسمالية بفكرة " العقد الاجتماعي " ، إلا أنها بتطورها زجت بالبشرية في حروب عالمية لا زال العالم يعاني من ويلاتها .
وكنظام اقتصادي لم يستطع أن يقضي على الظلم الاجتماعي ، وتقسيم المجتمع إلى طبقات ، طبقة برجوازية مالكة لوسائل الإنتاج ، وطبقة عمالية غير مالكة ، ولكي تعيش فهي مضطرة لبيع قوة عملها . كما عملت الرأسمالية على تقسيم العالم إلى "شمال وجنوب" ، أي عالم متقدم ، رأسمالي ، يملك الآلة العسكرية الجبارة والقوة الاقتصادية القادرة على إخضاع الجنوب الذي لا زال تحكمه العلاقات الإقطاعية الزراعية ، وتسيطر عليه أنظمة حكم ملكية وعشائرية متحالفة مع الاكليروس وفقهاء وممثلي الفكر الديني ، وهذه النظم لا تستطيع أن تنافس رأسمالية قائمة متطورة صناعيا وعلميا وسياسيا ، أي بقي الجنوب – إلا القليل من البلدان - تخيم عليه الروابط التي تعيق تطوره الاقتصادي والسياسي والثقافي .
فالأيديولوجية الرأسمالية التي تطورت إلى الإمبريالية ، باقية ما دامت تنهب خيرات الشعوب الأُخرى ، ما دامت دول الجنوب في الصف الثالث والأخير وبعيدة عن التطور الصناعي ، وغير قادرة على الاكتفاء الذاتي .
كما أن الرأسمالية بنهبها لخيرات الشعوب الأُخرى تخلق نوعا من الرفاه الاقتصادي لشعوبها على حساب الشعوب المنهوبة ، وهذا ما يكون بمثابة مسكن للاحتجاجات العمالية والفئوية .
كما تتناسب الرأسمالية مع الحرية الفردية والأنانية التي زرعتها الرأسمالية في أفراد المجتمع ، كما أن انتهاج الديمقراطية التي تفترض التنوع السياسي والفكري تستوعب كل أشكال الانفلات واللامبالاة ، وأيضا أشكال التمرد التي تحدث من آن لآخر نتيجة للأزمات الاقتصادية المتكررة التي تفرز مجموعات مثل " دعوات المحافظة على البيئة " أو " إحتلوا وول إستريت " ، فهذا الآراء والأفكار ليس لها القدرة على زعزعة الأسس الاقتصادية التي تقوم عليها الرأسمالية .
لهذا فالأيديولوجيا الرأسمالية باقية ما دام هناك نظاما اقتصاديا رأسماليا اخطبوطيا تسيطر عليه الشركات العابرة للحدود والقارات ، وما دامت هناك نظما اقتصادية متأخرة ، زراعية استهلاكية ، وغير قادرة على الاكتفاء الذاتي الصناعي .