مجزرة كفر قاسم ليست خللاً في السياسة وانما السياسة بعينها!


عصام مخول
2016 / 10 / 29 - 14:57     



لفت نظري مؤخرا وأنا أصغي الى محاضرة الصديق والمناضل الكبير د. يوسف عراقي طبيب مخيم تل الزعتر، ابن حيفا المقيم في النرويج، يروي في الذكرى الاربعين للمجزرة، يوميات الحصار بتفاصيلها كما سجلها في كتابه "يوميات طبيب في تل الزعتر"، لفت نظري أن نجاة د. يوسف عراقي من المجزرة، بعكس منطق الاحداث هناك، كانت حدثا أنقذ رواية الملحمة بتفاصيلها، برغم قناعة الجزارين القاطعة بأنهم اتخذوا كل الاجراءات اللازمة لإخفاء الجريمة والتكتم على المجزرة. فالمجزرة لا تولد الا وآليات إخفاء الادلة وتشويشها معها. فمن طبيعتها أنها إذا فضحت وكشفت خباياها فقدت مفعولها وتعثر تحقيق اهدافها.
كان ذهني وأنا أصغي الى رواية ملحمة تل الزعتر، يتنقل بين تل الزعتر وكفر قاسم.. فرصد المجزرة هنا وكشف خباياها، ورصد المجزرة هناك، هو المقدمة الاولى لمقاومة نتائجها.
تملكتني مقولة مفادها - أن من أجل ارتكاب مجزرة يفترض أن تتوفر ثلاثة شروط: ضحية، ومجرم، وملايين الناس ينظرون في الإتجاه المعاكس. ليصبح التغلب على الشرط الثالث، من خلال الكشف عن المجزرة وشد الانظار اليها هو المقدمة الضرورية لمواجهتها.
في مساء التاسع والعشرين من تشرين الأول 1956، اكتملت هذه الشروط على مداخل قرية كفر قاسم، وتمّ ارتكاب الجريمة المروعة، وتمّ إخفاؤها عن الجمهور، ومنعت أوامر الرقابة العسكرية النشر عن المجزرة قرابة شهر كامل. إلا أن المجرمين، حين خططوا لإخفاء آثار المجزرة، لم يأخذوا في الحسبان أن يدخل القائدان الشيوعيان، النائبان توفيق طوبي وماير فلنر إلى المشهد.
وفي حين كانت كفر قاسم الذبيحة تلعق جراحها، من وراء حصار وإغلاق عسكري مطبق على القرية ومنطقتها، وصل القائدان الشيوعيان طوبي وفلنر عبر طرق جبلية ووعرية، في تحدّ سافر للجيش، والتقيا المواطنين. وتدريجيا، بدأت تنكشف صورة كاملة على الفظائع التي ارتكبت وتفاصيل المجزرة المروعة كما صاغها توفيق طوبي في مذكرته التاريخية.
قاد النائبان فلنر وطوبي، ومعهما ديمقراطيون إسرائيليون آخرون، معركة شعبية واسعة، لتمزيق القناع عن سياسة التستر التي فرضتها حكومة بن غوريون للتعتيم على المجزرة، وعلى مجرّد حدوثها وعلى تفاصيلها. وتدريجيا، تعاظمت المعركة قوة وتسارعا، وقادت في نهاية المطاف إلى اضطرار المؤسسة للكشف عن حقيقة المجزرة، وإلى وصول صرخة الضحايا وعائلاتهم إلى الرأي العام المحلي والعالمي، لتبقى لطخة على جبين المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة.
إن الكشف عن الجريمة وفضحها، والإدانة الواسعة لها، والمطالبة بمعاقبة المجرمين القتلة- عملت كلها على تقوية عزيمة الجماهير العربية، وشد أزرها في معركة البقاء المتواصلة، التي لم تتوقف. وبدلا من أن تتحوّل المجزرة إلى مصدر إيحاء لرحيل جماعي مذعور، فإن الحزب الشيوعي عرف كيف يحوّل مجزرة كفر قاسم، بمثابرة كفاحية عنيدة، لتصبح "نقطة أرخميدس" في نضال الجماهير العربية من أجل التجذّر في أرضها، والبقاء في وطنها، ومن أجل المساواة التامة في الحقوق المدنية والقومية.
إن كفر قاسم- كانت وستبقى نقطة الإنطلاق في تحليل البعد الكارثي على المجتمع الإسرائيلي، الكامن في "أفكار الترانسفير" و "الخطر الديمغرافي"، والتنكر لشرعية مواطنة المواطنين العرب

**عقلية المجزرة ما زالت ماثلة في علاقة الدولة بمواطنيها العرب
ستون عاما مرّت وما زالت مجزرة كفر قاسم ماثلة وفاعلة ومتفاعلة، ليس جزءا من التاريخ فقط، بل جزءا من السياسة والعقلية السائدة في اسرائيل، ومن علاقة الدولة بمواطنيها العرب، تمزج بين التاريخ والسياسة، وتحتل موقعا بارزا في كليهما.
وبالرغم من أن تاريخ الشعب الفلسطيني مرصوف بالمجازر وجرائم الحرب، التي ارتكبتها الحركة الصهيونية وحكومات اسرائيل، إلا أن مجزرة كفر قاسم من بينها جميعا، هي أبرز المجازر التي ارتكبتها الدولة بشكل مبيت ومخطط بحق مواطنيها العرب المسالمين، وهي المجزرة التي حفرت في وعي الأقلية القومية العربية في اسرائيل، وفي وعي المؤسسة السياسية الإسرائيلية الحاكمة، معادلات مؤسِّسَة في علاقة دولة إسرائيل بالمواطنين العرب وبشرعية وجودهم في وطنهم وبشرعية مواطنتهم.
وإذا كانت مجزرة كفر قاسم حدثا مؤسِّسا في علاقة دولة اسرائيل العدائية تجاه مواطنيها العرب الفلسطينيين، فإنها كانت في الوقت نفسه حدثا مؤسسا في مراكمة الوحدة الكفاحية للجماهير العربية وبناء وعيها و إصرارها على التصدي لعقلية المجزرة واقتلاع شجرة السم العنصرية.
إن المجزرة بكونها مجزرة، ليست في جوهرها خللا في إدارة الحرب العدوانية، وإنما هي من صلب المشروع العدواني، وربما كانت أكثر عناصره تخطيطاً وأكثر أهدافه وضوحاً وحرصاً على التستّر عليها وعلى تبرئة ساحة مرتكبيها.
ومجزرة كفر قاسم بدورها، لم تحدث بسبب تعثر التطورات الميدانية، وليس بسبب حدوث بلبلة داخل صفوف القوة العسكرية التي نفذتها، ولا بسبب خروج التطورات الميدانية عن السيطرة وعن المخطط المرسوم لها، لكنها حدثت بالضبط لأنها جزء من صلب هذا المخطط ومن جوهر السياسة الرسمية تجاه الجماهير العربية الفلسطينية الباقية في وطنها بعد النكبة في خمسينيات القرن الماضي وبهدف اجبارها على الرحيل.
ومثلما جرت المجازر المرعبة في التاريخ الحديث في ظل حروب عدوانية إرهابية قادتها سياسات فاشية استغلت الحروب لارتكاب مجازرها بهدف تحقيق اهداف سياسية، من غيرنيكا الاسبانية، الى ماي لاي الفيتنامية، الى تل الزعتر والى صبرا وشاتيلا الفلسطينية اللبنانية، فإن مجزرة كفر قاسم كانت في المفهوم الاسرائيلي، مركباً عضوياً في العدوان الامبريالي– الاسرائيلي والبريطاني والفرنسي على مصر عبد الناصر، وكانت اضافة الى أهداف الحرب الاقليمية وطابعها الامبريالي العالمي، ترمي الى استغلال فرصة انشغال الرأي العام المحلي والعالمي بالعدوان الثلاثي وتداعيات الحرب، من أجل "تصحيح" نتائج نكبة الشعب الفلسطيني واستكمالها من خلال تنفيذ ترانسفير، يخلّص اسرائيل من الوف مواطنيها العرب الفلسطينيين الذي لم يطالهم التهجير فبقوا "خطأً" في قرى المثلث الجنوبي ودفعهم الى خارج حدود دولة اسرائيل.
حتى أن جنود حرس الحدود الذين أطلقوا نيرانهم على صدور الأطفال والكبار في مداخل كفر قاسم، لم يشعروا بالحاجة حتى إلى البحث عن مبرر لجرائمهم. لقد كانت هذه بكل بساطة مجزرة ارتكبتها الدولة بدم بارد بحق مواطنيها تنفيذا لأمر عسكري مقتضب وحاسم يقول : "أحصدوهم"!




**أكتوبر 1957 – قرار فاصل ولحظة انعطاف


إن أكثر اللحظات التي ارتبطت بمجزرة كفر قاسم وتداعياتها درامية كانت القرار الذي بادر اليه الشيوعيون وأصدقاؤهم بالدعوة لاعلان الاضراب العام للجماهير العربية، والتظاهر والاعتصام في الذكرى السنوية الاولى للمجزرة عام 1957. كان التجاوب مع هذا الاضراب وخروج المظاهرات والمسيرات الطلابية ومنظمات الشبيبة الشيوعية الى الشوارع، والصدامات التي جرت مع البوليس في شوارع الناصرة، واعتداء الشرطة وحرس الحدود على إميل حبيبي، بعد أن اعتدت بالضرب على توفيق طوبي وتمزيق ثيابه لمنعه من دخول كفر قاسم، من دون ان تشفع له حصانته البرلمانية, كان هذا الصدام سيحسم المعركة للمدى البعيد – هل ستستوعب الجماهير العربية بقيادة الشيوعيين دروس المجزرة ورسائلها فيخنعوا! كما تمنت حكومة بن غوريون.. أم أن هذه الجماهير ستختار المواجهة لاسقاط سياسة الخوف، وتحدي سياسة المجازر ودب الرعب في النفوس؟ وسرعان ما أخذ الرد يتراكم والتحدي يتعمق.
وبرز إن نفسية الجماهير العربية الباقية في وطنها، المثقلة بالجراح وسياسة الاضطهاد القومي، أخذت تتبلور كقوة مكافحة موحدة تتحدى عقلية المجزرة وتتصدى لسياسة إرهاب الدولة تجاهها. وأخذت تتبلور كقوة وطنية وديمقراطية أساسية تلقي بوزنها كاملا على الساحة الاسرائيلية في المعركة ضد سياسة الحرب والعدوان والاحتلال من جهة، وضد العنصرية والتدهور الفاشي من الجهة الاخرى بالتعاون مع القوى التقدمية اليهودية في اسرائيل.
لقد كان ذلك ممكنا بفعل وجود قيادة سياسية شجاعة ومسؤولة ومجربة، قاد ت عملية تثوير الجماهير العربية الخارجة من هول النكبة، الى جراح المجزرة المروعة بشجاعة ومسؤولية، ورسّخت قناعة الجماهير المقهورة بان أقصر الطرق وأقلها كلفة في المواجهة مع عقلية المجزرة وسياسة الاضطهاد القومي والتمييز العنصري والتخويف وإرهاب الدولة، هو طريق النضال والمشاركة الشعبية السياسية الواسعة، والتصدي للظلم من خلال المقاومة الشعبية وبناء مقومات الوحدة الكفاحية، والثقة بأن الكف قادرة على ملاطمة مخرز الاضطهاد القومي في المعارك الشعبية العادلة، حين تمارس هذه الكف نضالها كأقلية قومية تبني أطر وحدتها الكفاحية .
إن مراكمة هذا الحراك، ونقل الجماهير الشعبية من موقع ضحية المجزرة التي لا خيار أمامها غير استجداء الجزارين وطلب رحمتهم على مداخل كفر قاسم في اكتوبر 1956، الى موقع مقاومة المجزرة، اكتملت بعد عشرين عاما في ملحمة يوم الارض الخالد في 30 آذار 1976، حين سقط شهداء يوم الارض وهم يواجهون بالحجر آلة القمع الرسمية، يتصدون لمجنزرات حرس الحدود واليات الجيش ونيران الشرطة بصدورهم العارية ووعيهم الوطني والتقدمي، وقاماتهم المنتصبة التي تطاول عنان السماء، دفاعا عن ارضهم وعن بقائهم فوقها ودفاعا عن كرامتهم الوطنية والانسانية.
واذا كان ضحايا المجزرة قد سقطوا في مداخل كفر قاسم في غفلة من الزمن والضمير، فإن الطريق الى يوم الارض الخالد كان يمثّل انتصار الجماهير العربية في اسرائيل على المجزرة انتصاراً تاريخياً واعياً، وينزل الهزيمة بعقلية المجزرة وإفشال اهدافها.