ناهض حتر، قتل الغريب…


محمد فرج
2016 / 10 / 27 - 23:07     



الأحداث المأساوية ليست مدعاة للحزن الإنساني فحسب، الفاجعة تصل بالعقل إلى أعلى مراحل اليقظة الهادئة بعد تلقي الموجة الأولى العاتية من الصدمة وانطفاء المخ الانفعالي "الأميجدالا"، عندها نصل إلى أعلى مراحل العقلانية والرؤيا والشجاعة كذلك، فلليأس شجاعته، وللهم والألم شجاعة مغامِرة أيضاً.

الأحداث الفردية هي صور سريعة مقتطعة من فضاء عام بكامل وعيه وتكوينه، الفاجعة التي تطال فرداً هي تعبير عن الفاجعة الجماعية التي تحدث الآن وهنا. لم يكن انتحار ماياكوفسكي إلا تعبيراً عن أزمة الحب ومفهومه كما يراه الإنسان الروسي آنذاك، واحتجاج الملهوفين بحثاً عن نتائج سريعة وسحرية للثورة الاشتراكية في روسيا. ولم يكن انتحار همنجوي إلا تعبيراً عن جراح حرب طالت العالم بأكمله وتعبيراً عن انحياز جهة للحب في مواجهة السلاح الأعمى، ولم تكن مواجهة فرج فودة إلا تعبيراً عن حقد جهة على تخلف المصريين وهرولتهم خلف الخرافات بعد أن كانوا على أعتاب التقدم قبل عقدين من الزمن من تاريخ اغتياله شخصياً. أما اغتيال ناهض حتر فهو التعبير عن نفق الظلام الذي سيطول لا لشيء إلا لأنه، كما سواه من الأنفاق، محكوم لقوانين التاريخ والزمن.

لقد حاولت أن أجعل من هذه المقالة سياسية بامتياز، تتحدث عن العلمانية ومشروع المقاومة وأزمة اليسار وشعارات المدنية، إلا أنني أخفقت في ذلك، منحازاً لدلالات الحدث، ولم يكن لفكرة أن تسيطر علي بقدر ما فعلت أحقادي على “الغربة”، ولا أتحدث هنا عن غربة اليسار والقوميين والمقاومين عن واقعهم المعاش، بل أتحدث عن الغربة المعممة، وبالتحديد أكثر عن الغربة التي تتحرك في مدارات القاتل، غربته هو وقومه.

دافع القاتل عن إله لا يعرفه (وهذا لا يعني انحيازي للإله الذي يعرفه)، وعن نبي يجهله (وهذا لا يعني أيضاً انحيازي للنبي الذي يعرفه)، وهاجم ضحية لا يعرفها هي الأخرى، بسبب “جرم” لا يعرفه، أشهر مسدسه غريباً عن كل تلك الأشياء، فلماذا قتل إذن؟ سيكون تشبيهاً سطحياً ولكنه مفيد إذا ما بحثنا عن القاتل في قصة الأرنب الذي جثم تحت شجرة ونام، وبغتة سمع ضجة مرتفعة، وانطلق يعدو، فلحقت به الأرانب البرية فسألته (لماذا تعدو بسرعة؟)، فأجاب “العالم حانت نهايته”. ويتكرر السيناريو مع الأيل والفيل وكل أنواع الحيوانات الأخرى، حتى ركضت المملكة الحيوانية بأكملها بسرعة، يقيناً بنهاية العالم.

الغربة الأعمق كانت عن مفهوم الموت، ولو لم تكن هذه الغربة حاضرة، لكان القتل أصعب بكثير. ولا سبيل لفك هذه الغربة إلا عند داروين وستينجلر وساغان.

لا يا سادتي لا تفكروا في فك اغتراب الذئاب المنفردة، لقد كفرتُ بتثقيف الجموع فرداً فرداً منذ زمن، فكروا في قتل الراعي وكسر قصبة الأناشيد، لا بد من زيارة السياسة هنا. عن تيار الإخوان المسلمين أتحدث!!

يفسر سيد قطب آية “لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” على أنها نداء للقتال الدائم، لا بد من معارك دائمة، وقتل دائم، حرام أن تجف رائحة الدم وفي يد مسلم سيف، لا بد دائماً من وجود غريب يقتل ويموت.

الغربة والصورة متلازمتان، لو ما رسم كتب، لربما لم يحدث القتل، لأن مشاهدة الله الغريب، ليست كما القراءة عنه، فالقراءة عنه في مجتمع لا يقرأ تبقي الغربة في حالة من السكون، أما الصورة فتوقظها، يسدل الستار عن الغريب الذي نريده أن يبقى غريباً مختبئاً، ومخفياً بحجم غربتنا عن مفهومه ومفهوم الموت، وعن أنفسنا أيضاً.

لذلك ربما منهم من يحرم التصوير، كي لا تستيقظ الغربة عن الذات، وما العودة إلى الدين إلا هروباً من فك خيوط الغربة والشك، لن يكون ذلك إيماناً بأي حال، وإنما الملاذ الآمن من الشك وممن احتملوه وأطلقوا للعقل مغامرات لها جناتها و جحيمها.

وقف واحد من البوذيين في المعبد، فشعر بالبرد الشديد وعندها أنزل إحدى صور بوذا، وأضرم النار فيها، فاستشاط حارس المعبد غضباً: “كيف تجرؤ على إحراق الصورة الخشبية للبوذا؟”. فأجابه : “إنني أفتش عن الساريرات المقدسة (وهي الوديعة المعدنية التي توجد في الجسم البشري بعد إحراق الجثة). فاستغرب الحارس ذلك “كيف يمكن لك جمع الساريرات من البوذا الخشبي؟؟”. فأجابه الرجل: “هل تسمح لي إذن بإضرام النار في الصورتين الباقيين؟”.

ظلم الإنسان نفسه حين أسلم روحه لرجال الدين أطباءً لها، فما كان إلا أن وقعوا في أيدي حفاري قبور، وبأجر!

نشأت الأديان والأساطير بسبب الغربة، الغربة عن الطبيعة والعجز عن مواجهتها بالأدوات المعرفية المحدودة، ومع تطور الأدوات المعرفية، بقي للراعي مصلحة في الإبقاء على حالة الرعب البدئية، الغربة البدئية، لذلك كان لا بد من إفقار الفكر، وكان لا بد من المغامرة المجنونة في ربط الأخلاق بالدين، وتعريض البشرية بأكملها للخطر، من خلال وضع الأخلاق على أسس مهزوزة.

لم يكن أمام الراعي من حل سوى تعميم الغربة، وتحويل المغتربين إلى عبيد للقتل والتدمير، وإحالة المشككين إلى أهداف مشروعة للقتل. إن الدين بنسخته التسلطية يعنى بإقرار الإنسان لسلطة عليا وغير مرئية “غريبة”، وهذه السلطة تستحق الإجلال والعبادة وتكلف المغتربين بقتل المشككين.

ذلك ليس حكراً على الدين الإسلامي، ففي لاهوت كالفن: (إن اتضاعنا هو رضوخ غير متكلف من ذهن مغمور بإحساس فادح بشقائه وفقره). إننا نعيش قصة الطوفان في سفر التكوين بعد أن ندم الرب على خلق الإنسان وقرر أن يمحوه عن وجه الأرض ومعه البهائم والدواب وطيور الهواء، أصبح الله نفسه عندها غريباً عن مخلوقاته، فكيف بوكلائه؟

لم يمت ناهض لأنه كان غريباً كـ “مسيحي”، مع أنه لم يكن كذلك، ولم يمت لأنه كان غريباً كـ “يساري”، مع أنه كان كذلك، لم يمت لأنه كان غريباً، كل ما في الأمر أنه استشهد على يد الغرباء عن أنفسهم، ولتلك الغربة معمل كبير، وإداريون وورق مقدس.

لقد كان فعل القتل هروباً إلى الله الكامل القادر بنقص عبيده وضعفهم المزمن، هروباً للعبيد من عجزهم في مواجهة الكلمة الماكرة، فلقد نسوا أن يطلبوا الله بعضاً من المكر!

ليس العجز إيماناً يا سادتي، فعبيد الهوى عادة ما يتحولون إلى سادة اليوغا!