الماركسية والدين


محمد الحباسي
2016 / 10 / 23 - 11:40     

تحتل قضية الدين اليوم، كما الأمس1، مكانة هامة في السجال السياسي والفكري . فعلى مستوى فكري لا يزال البحث قائما حول حقيقة الدين وكنهه وتختلف الاجابات عن سؤال" مالدين؟" باختلاف المناهج وزوايا النظر حيث نميز بين اتجاهين رئيسين كما في كل المسائل البحثية النظرة المثالية من جهة والنظرة المادية من جهة أخرى. أما من وجهة نظر سياسية فيطرح السؤال حول دور الدين في تنظيم الحياة السياسية وفي علاقة بمشروعية السلطة السياسية هل هي مشروعية تيوقراطية تستند الى سلطة ما فوق بشرية: الى الدين واللاهوت أم هي مشروعية ديمقراطية تستند الى ارادة البشر واختيارهم؟.
عن هذين السؤالين تعتبر الماركسية النظرية التي قدمت الاجابة الاكثر علمية والأكثر اتساقا من حيث استنادها الى المنهجية المادية الجدلية في مقاربة الظواهر والمسائل. وقبل أن نخوض في التصور الماركسي للدين لابد لآأن نتوقف على دواعي الانشغال بهذا الموضوع الان وهنا. وهذه الدواعي هي بنظرنا عديدة ومتنوعة ولكن يبقى أهمها :
أولا: حالة الامتداد الشعبي الذي تعرفه حركات الاسلام السياسي بنسخها المتغيرة بدء من الحركات الاخوانية التي وصل العديد منها الى الحكم في البلدان العربية الاسلامية كمصر وتونس بعد الثورة وقبل ذلك وصولها الى الحكم في السودان والمغرب وهي حركات تعتمد أسوب التمدد التدريجي والمناورة السياسية للتموقع والاستلاء التدريجي على السلطة عبر التمكن من مفاصل المجتمع والدولة...ووصولا الى حركات الاسلام السياسي الراديكالية ك"القاعدة" و"داعش" التي تنتهج العنف والإرهاب كأسلوب مباشر للاستيلاء على السلطة وإقامة نظام الخلافة وتحكيم منظومة الشريعة الاسلامية. وتشترك هذه الحركات كلها في تبني مقولة الاسلام هو الحل واعتماد مقاربة قروسطية شمولية للسلطة تستند الى فكرة الحاكمية وترمي الى اقامة نظام الخلافة ولا تختلف فيما بينها الا في الاسلوب والتمشي للوصول الى هذا الهدف الاستراتيجي الجامع بينها.
ويعود انتعاش الظاهرة الاسلامية باستمرار الى عدة أسباب متداخلة ذاتية وموضوعية يعتبر الرئيسي منها سقوط المعسكر السوفيتي منذ بداية تسعينات القرن العشرين وانتشار النموذج الرأسمالي الاحادي المرتكز على العولمة الرأسمالية وعلى الليبرالية المتوحشة وقد أدى ذلك الى تعميق الهوة بين الدول الامبريالية والدول التابعة التي لم تجن سوى مزيدا من التبعية والتفقير ونهب مقدراتها بعد أن انخرطت طوعا أو كرها في السياسات الرأسمالية لليبرالية المتوحشة وعملت بوصفات الاصلاح الهيكلي التي تسطرها وتشرف على تنفيذها المؤسسات المالية العالمية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي وكان لهذه التداعيات أن أججت حالة الحنق والغبن لدى الفئات المهمشة والمفقرة ضحية النظام العالمي الجديد تحت رعاية الولايات المتحدة الامريكية فوجدت في الحركات الدينية، التي تنتعش في محاضن البؤس والفقر والتجهيل، الاطار لتجسيد رفضها واحتجاجها على أوضاعها البائسة. وقد ساعدت الدول الكبرى الحركات المتغلفة بالدين على التواجد والانغراس وسط الجماهير البائسة لتشوه وعيها وتجرها الى محاور وهمية وجعل الصراع يتم على أسس عقائدية وطائفية بعيدا عن محور الصراع الطبقي والنضال ضد الاستعمار بما من شأنه أن يبقي على مصالح الطغم الرأسمالية المالية والمصالح المحلية المرتبطة بها قائمة. وسعت الولايات المتحدة الامريكية قائدة النظام العالمي الجديد عبر سياساتها الدولية والاقليمية الى تأجيج العواطف الدينية للمسلمين من خلال تحويل صراعها ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان الى صراع بين الاسلام والشيوعية خدمة لاجنداتها ومصالحها وقد ساعد في تعميق هذا الاستقطاب وصول الاسلامين في ايران الى الحكم بعد التفافهم على ثورة 1979 ضد نظام الشاه الاستبدادي وهو ما أعطى حافزا جديدا لانتعاش الحركات الأصولية في المجتمعات العربية الاسلامية . وقد رافق هذه السياسات الامبريالية المعادية للشعوب تجنيد الايديولوجيا الاستعمارية من اجل تشويه وعي الشعوب وحرفها عن محاور الصراع الحقيقية من خلال نشر الايديولوجيا المهللة لنهاية التاريخ مع الايديولوجيا الرأسمالية وتحويل الصراع بين الامبريالية والشعوب الى صراع بين الحضارات"، بين العالم الحر والعالم المتخلف مما مهد لتأجيج الصراع بين الحضارت والاديان وانتشار النظريات "القومية" الفاشسية كل ذلك خدمة للمطامح البربرية للامبريالية في اضعاف المجتمعات وتفتيتها لإحكام السيطرة على مقدراتها وخيراتها وإبقائها في التخلف.
كما ساعد على تمدد وانتشار مثل هذه الحركات عامل اخر هو انحسار تنظيمات وأحزاب اليسار التي تمثل التعبيرة الطبقية الموضوعية لهذه الفئات بسبب محاصرتها من قبل الامبريالية العالمية وعبر أنظمتها العميلة حتى تضمن احكام قبضتها على الطبقة العاملة والفئات الكادحة والمفقرة وتحول دون اهتدائها الى تعبيرتها السياسية الثورية وأداتها النضالية للتحرر من سطوة الاستعمار و الاستغلال الرأسمالي. وهي نفس السياسة التي توختها الانظمة العميلة حيث شجعت تنامي الظاهرة الاصولية لسد الطريق أما الاحزاب الثورية التي أصبحت ترعب الكمبرادور وتهدد عرشه فهرع الى احياء البنى التقليدية الرثة وفتح الباب على مصراعيه أمام حركات المتاجرة بعواطف الناس ومعتقداتهم مما يجعل غضب ورفض الفئات المهمشة والمفقرة التي لا تكف عن التوسع يحول الى غير وجهته الحقيقية وتمتصه هذه الحركات الرجعية والظلامية.
ويتعلق الدافع الثاني بأسلوب التشويه والشعبوية التي تنتهجها الاحزاب الاسلاموية تجاه اليسار من خلال اتهامه بالكفر والإلحاد وهي تشويهات تشترك فيها مع الاحزاب اليمينية العصرانية والحداثوية والتي ترمي من وراء ذلك الى عزل الأحزاب اليسارية في الدول العربية والإسلامية عن الطبقة العاملة والشعب ووضع جدار معنوي يحول دون الوصول الى الطبقات الكادحة والمفقرة لفضح عدوها الطبقي وتسليحها بالبرامج والأدوات النضالية التي من شأنها أن تخلصها من أنظمة العمالة والاستغلال التي ترزح تحتها. وقد أثبتت التجربة أن حركات الاسلام السياسي التي وصلت الى السلطة لا يتجاوز علاقتها بالدين نطاق التوظيف الماركنتلي والتسويق التجاري الفج وهي التي تنتهج برامج وسياسات أكثر وحشية من سياسات اليمين الحداثوي ولا أدل على ذلك من تقاسمها السلطة اليوم في تونس مع الاحزاب اليمينية الطفيلية في اطار ائتلاف حكم ينهل من نفس المرجعية الليبرالية المتوحشة التي ثار الشعب التونسي على خياراتها، وهو ما يفضح الجوهر الطبقي المعادي للشعب والوطن لأحزاب الاسلام السياسي رغم ما تلتحف به من رداء ديني . وقد مثلت تجربة الحكم التي خاضتها الحركات الاسلامية الفاشية ممثلة في تنظيم داعش والحركات السلفية المرتبطة به فرصة لكشف حقيقة هذه التنظيمات و طابعها الفاشي والقروسطي من خلال ممارستها البربرية والوحشية من ارهاب وحرق واغتيال وسبي وغيرها من الممارسات الوحشية التي تنتمي الى العصر القروسطي المتوحش. وهو ما من شأنه أن يقدم درسا اضافيا للشعوب العربية والاسلامية حول حقيقة هذه الحركات الفاشية المعادية للحرية وللانسانية رغم تسترها بالدين.
أما الدافع الثالث الذي يفسر انشغالنا بهذا الموضوع فيتعلق بالانحسار الكبير الذي يعرفه مفهوم العلمانية كقيمة فلسفية كونية وإنسانية وكإطار لخوض الصراع المدني والديمقراطي وفضح أعداء الشعب والديمقراطية وحسم العلاقة بين الدين كشأن فردي عقائدي والسياسة كشأن مجتمعي وتعاقدي . اذا لا معنى للديمقراطية والحداثة دون العلمانية كشرط ضروري للتقدم والتحرر الوطني والاجتماعي. كل هذه الخصال جعلت العلمانية دائما في مرمى سهام الرجعية والظلامية التي تزعم زورا انها تعني الالحاد والكفر وكذلك القوى السياسية البرجوازية الرثة التي أصبحت تتنصل من العلمانية وتقدمها على انها مطلب غير واقعي لا يتماشى وخصوصية المجتمعات العربية الاسلامية علاوة على اعتبارها حلا ظرفيا خاصا بدول أوربا الغربية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين ولم يعد صالحا لهذا العصرمما يفرض أقلمتها من أجل ملائمتها مع التطور والخصوصيات المحلية. وهي ادعاءات لا تمت للحقيقة الموضوعية بصلة ، ذلك أن العلمانية لم تكن يوما تعني الالحاد أو معاداة الدين ومعتقدات البشر بل هي حل موضوعي أفرزته التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمسألة النظرة الى العالم ولمسألة تنظيم الحياة السياسية الحديثة وذلك من خلال الفصل بين الدين والسياسة باعتبار أن هذه الاخيره هي شأن دنوي بحت لا يجب اقحامه في عالم المقدس والماورائيات. وتعتير العلمانية أكبر ضمانة لاحترام الدين كعقيدة وكممارسة شعائرية باعتبارها ترتكز على مبدأي حرية الضمير والمعتقد ومبدأ الحق في القيام بممارسة الشعائر والطقوس كشأن فردي دون تدخل من السلطات العمومية التي يجب ان تبقى محايدة تجاه كل المعتقدات والأديان والطوائف وتضمن الحق في التدين وممارسة القناعات وكذلك الحق في الالحاد دون أن تنتهج الدولة عقيدة ايديولوجية أو دينية معينة.أما الادعاء كون العلمانية هي حل راديكالي متطرف يجب التخلي عنه والاكتفاء بمفاهيم اكثر مرونة كمدنية الدولة وديمقراطيتها فهو ادعاء يكشف ارتباك ونفاق البرجوازية التي اضحت طبقة رجعية معادية للشعب وللتقدم وتخلت عن كل القيم التقدمية التي دافعت عنها زمن صعودها الثوري ولما كانت مصالحها الطبقية تقتضي ذلك أما بعد أن وصلت الى السلطة فقد أصبح همها احكام القبضة على الطبقات الكادحة وتغيير الاستغلال القديم باستغلال جديد فتنكرت لكل القيم الثورية بما في ذلك العلمانية بعد أن أيقنت أن طريق العلمانية هو طريق تقويض عرشها االمعمد بالاستغلال والاضطهاد. فأصبح شغلها الشاغل هو الانحراف بهذا الطريق بكل ما أوتي لها من وسائل حتى تحافظ على نظامها الاستغلالي وسلطتها الاستبدادية. وقد ساهم هذا التنواطئ من قبل البرجوازيات الليبرالية العميلة في استغلال حركات الاسلام السياسي للامكانيات الديمقراطية المتاحة من أجل الانتشار والتمدد في الاوساط الشعبية متنهجة أسلوب الدمغجة والدجل الديني في ظل تراجع الجهاز المفاهيمي العلماني الراديكالي والمتكامل الذي من شأنه وحده أن يفضح طبيعتها الاستبدادية والرجعية.
كل هذه الدوافع تجعلنا نولي اهتماما كبيرا بموضوع الماركسية والدين وسيكون مقاربة ذلك من خلال الاشكالية التالية: ماهو موقف الماركسية من الدين؟
يمكن الاجابة عن هذا السؤال من خلال المدخل الذي انطلاقنا منه في مقدمة هذا العمل فالماركسية نظرية فلسفية حزبية متكاملة تمثل المنطلق الفلسفي والسياسي للحزب الثوري الحزب الماركسي اللينيني يهتدي بها كمرشد عمل في قيادة الطبقة العاملة والشعب من أجل التحر الوطني والاجتماعي وتوطيد الاشتراكية. وهي فلسفيا وباعتبارها فلسفة مادية معادية لكل الاديان ولكنها مادية جدلية تنطلق من الواقع من أجل تغييره وتتبنى نظرة متكاملة للعالم. أما سياسيا فهي تعتبر الدين مسألة ثانوية باعتبار أن المحدد في نظرتها للاشياء هي المعارك الملموسة على المستوى الاقتصادي والاجتماعية والتي تعتبر االشرط الضروري لتخليص الشعهب من كل أشكال الاستلاب الروحي والواقعي.
1-فكريا وفلسفيا: الماركسية ضد كل الاديان
الماركسية فلسفة شاملة ومتكاملة للعالم تستند الى المنهجية المادية الجدلية والمادية التاريخية وفي هذا الغرض يقول أنجلس في كتابه "لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية": " ان المسألة الكبرى الأساسية لكل فلسفة وخاصة الفلسفة الحديثة هي العلاقة بين الفكر والوجود. وقد انقسم الفلاسفة حسب تبنيهم لهذه الاجابة أو تلك الى معسكرين كبيرين، أولئك الذين يؤكدون أولوية الفكر على الطبيعة، ويعترفون بالتالي في نهاية المطاف بحدوث العالم... وهؤولاء يشكلون معسكر المثالية. والاخرين الذين يعتبرون الطبيعة القوة الأصلية وهم ينتمون الى مختلف مدارس المادية"3. وتعتبر الماركسية فلسفة مادية وهي أكثر الفلسفات تطورا واكتمالا باعتبارها فلسفىة مادية جدلية فهي تطوير وارتقاء لكل الماديات السابقة بدء من الماديين الاغريقيين كديمقريط وأبيقور وصولا الى الماديين الفرنسيين في القرن الثامن عشر كلاميتري وغولباخ وديدرو والمادي الألماني الذي سبق ماركس وأنجلز لودفيغ فيورباخ وغيرهم من الفلاسفة الماديين الذين ارتبطت ماديتهم بظروفهم التاريخية ومدى تطور وسائل الانتاج في عصرهم.
وتعتبر الماركسية الصيغة الأرقى والأكثر نضجا للمادية التي أصبحت مادية جدلية وتمكنت لذلك من الاجابة عن كل الأسئلة التي طرحها عصرها بعد أن اسستفادت من انجازات الاقتصاد السياسي الانقليزي والفلسفة الفرنسية والاشتراكية الطوباوية للقرن الثامن عشر كما اعادت تأسيس الجدل الهيغلي على الارض ليصبح جدلا ماديا.
أما بخصوص الاسس التي تقوم عليها الفلسفة الماركسية فيمكن اجمالها في المبادئ التالية:
1- العالم المادي موجود بشكل مستقل عن الوعي
2-معرفة العالم ممكنة والسيطرة على الطبيعة والالمام بقوانينها أمر ممكن وفي مستطاع البشر حتى ولو لم تكن كاملة، فالعالم بالنسبة للمادية الجدلية لاتوجد فيه أشياء يستحيل على الانسان معرفتها بل كل ماهناك أنه فمة أشياء مازالت مجهولة بالنسبة للانسان ولم يتوصل الى فهمها وتفسيرها وهو واصل لامحالة الى اكتشافها سلاحه في ذلك العلم والعمل.
3-البشر جزء من الطبيعة لكنهم يشكلون جزءا متميزا باعتباره الكائن الأكثر تطورا من حيث قدرته على التفكير الذي هو نتاج لجهاز مادي، الدماغ، وهو وليد تطوره الذي لعب فيه العمل الدور المحدد. وهذا التفكير يعكس التصورات التي يكونها الانسان عن نفسه وعن واقعه تبعا للظروف المادية التي يعيش فيها وهو يتطور بتطور تلك الظروف.
4-العالم المادي لا ينشأ من الفكر البشري والعكس هو الصحيح فالفكر البشري ينتشأ من العالم المادي وهو مايعبر عنه ماركس حين كتب جملته الشهيرة " ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي بل أن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيه"4. وفي مقام اخر يعبر عن نفس الفكرة بأكثر تفصيل: "لا تستطيع الأحوال القانونية والأشكال السياسية أن تفسر نفسها بنفسها ولا عن طريق ما يدعي التطور العام للعقل البشري، ان أساسها بالعكس في ظروف الحياة المادية ... في انتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن إرادتهم وهي علاقات انتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الانتاجية المادية. ويشكل مجموع علاقات الانتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم عليه صرح قانوني وسياسي وتتماشى معه أشكال اجتماعية. فأسلوب انتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية بوجه عام. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. فعندما تصل قوى المجتمع الانتاجية المادية الى درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع أحوال الانتاج القائمة وبالتعبير القانوني مع أحوال الملمكية التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت. وتتغير هذه الأحوال التي هي قيد على الأشكال التطورية من القوى الانتاجية. وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية. فتعديل القاعدة الاقتصادية يجر في أذياله قلبا سريعا بدرجة أكثر أو أقل لكل الصرح العلوي الهائل. وعند دراسة الانقلابات التي هي من هذا النوع يجب دائما التمييز بين القلب المادي الذي يحدث في أحوال الانتاج الاقتصادية والتي يمكن تقريرها بدقة عالية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفلسفية أو بكلمة واحدة الأشكال الايديولوجية التي يدرك الناس في ظلها هذا الصراع ويجاهدون في سبيل فضه. اذا لم يكن بالإمكان الحكم على فرد طبقا لما يراه هو عن نفسه، فلن يكون في الامكان الحكم على حقبة مشابهة من الثورة، وانما بالعكس يجب تفسير هذا الوعي بمتناقضات الحياة المادية في أحشاء المجتمع القديم. وهذا هو السبب الذي من أجله لا تكلف البشرية نفسها الا بمهام تستطيع تحقيقها."5 فماذا عن الدين؟
باعتبارها فلسفة مادية جدلية فان الماركسية لا تفسر الدين انطلاقا من الدين ذاته بل من الظروف المادية التي نشأ فيها أي من خلال "متناقضات الحياة المادية في أحشاء المجتمع القديم". الذي كان في ظله الدين هو شكل الوعي الايديولوجي المسيطر. ان الماركسية هي ضد كل الاديان باعتبارها وعيا ايديولوجيا زائفا لضمان هيمنة طبقات الاسياد في المجتمع الاقطاعي. فالدين هو شكل من أشكال الفلسفة المثالية المرتبطة بظرفية تاريخية معينة ولا شك أنه ارتبط في ذلك السياق التاريخي بتطلعات انسانية للتحرر من الاضطهاد والاستغلال ولكنه في عصرنا يعتبر وعيا رجعيا لابد مكن محاربته وعدم مهادنته. والدين يعتبر فلسفة شاملة ارتبطت بمرحلة طفولة الانسانية التي طغى عليها خوف الانسان نتيجة جهله لقوانين الطبيعة فرد هذه الاخيرة الى قوة فوقية متافيزيقية هي الله أبدعها وصورها في مرة واحدة بكل مافيها من عناصر وظواهر بينما ترى الماركسية خلافا للنظرة اللاهوتية أن العالم أزلي وغير مخلوق. ان الدين يرى أن الطبيعة ساكنة، ثابتة ماضيها وحاضرها ومستقبلها متماثل وكل مافيها من ظواهر وتحولات هو في نظر الدين مجرد حوادث متفرقة ومعزولة عن بعضها البعض ومن فعل الخالق. وعلى عكس ذلك تبين الماركسية تهافت وسذاجة هذا التصور وتعتبر أن الطبيعة أزلية وأزليتها في حركتها وهي وفقا لقوانين الجدل المادي كل مترابط وبالتالي موحد ووحدتها في ماديتها.
وبخصوص النظرة الى الانسان، يعتبر الدين هذا الأخير صنيعة الله الذي صوره على شكله ذلك ومنحة العقل لتحصيل المعرفة ولكن هذه المعرفة تظل جزئية ومحدودة أمام المعرفة الالهية الكلية والمطلقة. أما الماركسية فتعتبر أن الله هو صنيعة الانسان وليس الله هو خالق الانسان وأن هذا الأخير هو نتاج للطبيعة وأنه متى أصبح واعيا بالضرورة وقوانينها اهتدى الى الحرية واستطاع استكشاف قوانين الطبيعة والسيطرة عليها واكتناه قوانين المجتمع وتحويله من مجتمع استغلالي الى مجتمع انساني.
وقد جاء الاكتشافات العلمية المتتالية لتؤكد صحة وجهة نظر الماركسية وتوجه ضربات قوية للدين جعلت سلطته تتراجع بعد أن بين العلم زيف أكثر الروايات الدينية.( قانون الجاذبية، قانون التطور البيولوجي...) ان الماركسية مناقضة للدين ومعادية لكل الأديان كما لكل فلسفة مثالية باعتبارها تمثل وعيا مقلوبا لعالم مقلوب.
وتجسد المقولة الماركسية التي جاءت في كتابه نقد فلسفة الحق عند هيغل حقيقة الدين " ان الدين، في الواقع هو وعي الذات وتقدير الذات لدى الانسان الذي لم يعثر بعد على ذاته، أو أضاعها من جديد، لكن الدين ليس كائنا مجردا جاثما في مكان ما خارج العالم. الانسان هو عالم الانسان، الدولة، المجتمع. وهذه الدولة والمجتمع ينتجان الدين، الوعي المقلوب للعالم، لانهما بالذات عالم مقلوب.الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقه في صيغته الشعبية. مناط شرفه الروحي، حماسته، جزاؤه الأخلاقي تكملته المهيبة، أساس عزائه وتبريره الشامل. انه التحقيق الخيالي لكينونة الانسان، لأن ليس لكينونة الانسان واقعا حقيقيا. اذن، فالنضال ضد الدين هو بصورة غير مباشرة نضال ضد ذلك العالم الذي يشكل الدين عبيره الروحي.ان الشقاء الديني هو تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو من جهة أخرى احتجاج عليه. الدين زفرة الانسان المضطهد، قلب عالم بلا قلب.كما أنه روح عالم بلا روح. انه أفيون الشعوب.
ان تجاوز الدين بوصفه سعادة وهمية للشعوب يعني المطالبة بسعادتها الفعلية ومطالبة الشعوب بالتخلي عن الاوهام حول وضعها يعني مطالبتها بالتخلي عن وضع هو في حاجة الى أوهام. فنقد الدين هو اذن نقد وادي الدموع الذي يمثل الدين هالته"6
في هذه الفقرة المكثفة والمختزلة لكثير من المعاني يحدد ماركس حقيقة الدين باعتباره شكل ايديويولوجي تصنعه الدولة والانسان حتى يجد فيه الانسان عزاءه الروحي وتعويضه عن الاظطهاد الواقعي باعتباره أفيون مسكن. كما يبين ماركس ان نقد الدين لا يجب أن يستهدف الدين في حد ذاته بل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجته ومحاربة الاوهام الدينية تعني محاربة ذلك الوضع المقلوب الذي يحتاج الى أوهام حتى يستمر في خداعه.
فالدين اذن هو أفيون ومصدر عزاء وتبرير يخفف على الانسان المضطهد الذي يجد فيه تحقيقا وهميا لكل ما حرم منه في الواقع نتيجة الاستغلال الطبقي وهو قوة تعويض وهمي للإنسان المحروم العاجز .. انه سلاح في يد الطبقة الحاكمة لادامة سيطرتها على الطبقات المستغلة و هو، على حد قول لينين، احد "اشكال القمع الروحى الذى ينيخ بوطأته على جماهير الشعب ، المثقلة فوق طاقتها بعملها الدائم من اجل الآخرين ، وبالعوز والعزلة . ان عجز الطبقات المستغلة فى صراعها ضد المستغلين يؤدى بشكل حتمى تماما للاعتقاد فى حياة افضل بعد الموت كما ان عجز البدائى فى معركته ضد الطبيعة يولد الاعتقاد فى الآلهة ، والشياطين ، وماشابه . ان هؤلاء الذين يكدحون ويعيشون فى فاقة طوال حياتهم يعلمهم الدين ان يكونوا خاضعين وصبورين وهم فى الحياة الدنيا ، وان يجدوا السلوى فى امل المكافأة الالآهية . اما هؤلاء الذين يعيشون على عمل الآخرين فيعلمهم الدين ان يقوموا باعمال البر والاحسان فى الحياة الدنيا ، وهكذا يقدم طريقة رخيصة لتبرير كامل وجودهم كمستغلين ويبيعهم بسعر معقول تذاكر التمتع بنعيم السماء . الدين افيون الشعب . الدين احد انواع المشروبات الروحية ، التى يغرق فيها عبيد رأس المال صورتهم الانسانية ، وتطلعهم لحياة جديرة بالانسان لهذا الحد او ذاك".7
لكن كيف نشأ هذا الوهم أول الأمر وكيف تطور؟
كإجابة عن هذا السؤال تعتبر الماركسية الاديان كلها مهما كان شكلها تعددية كانت أم أحادية كمرحلة من مراحل تطور الفكر الانساني. ففي المرحلة البدائية الأولى لم يكن الانسان يؤمن بالالهة ومع بداية ظهور اللغة ظهرت الاديان وقد سبقت ذلك مرحلة السحر والشعوذة والاسطورة. وباعث ايمان الانسان بالدين كان نابعا من عجزه البدائي أمام قوى الطبيعة في ظروف تاريخية بدائية كانت في ظلها وسائل الانتاج متخلفة ومحدودة. فقد واجه الانسان البدائي طبيعة قاسية كان من الصعب عليه التغلب عليها فقام بعبادتها دفعا لشرورها وجلبا لرضائها أو لحمايته ومساعدته. وهكذا عبد الانسان في البداية كفه باعتبارها وسيلته الوحيدة للحصول على طعامه وعبد الحيوان الذي كان يعيش على صيده، وفي مراحل لاحقة يمكن أن نعتبرها أكثر تقدما عبد الشمس أو القمر أو النجوم وفقا لما أوحاه له تفكيره البدائي حول الطبيعة والقوى المسيرة لها. يقول أنجلس في هذا الصدد: " ان كل دين ليس إلا الانعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الخارجية التي تسيطر على وجودهم اليومي "8. في بداية التاريخ كانت قوى الطبيعة هي الخاضعة لهذا الانعكاس ولكن التطور أدى الى بروز شكل اخر من التأليه على السطح. فمع ظهور الملكية الخاصة التي كانت نتاجا لتجمع الثروة لدى أقلية من كبار القوم وشيوخ القبائل وجدت هذه القوى في الدين خير أداة لتبرير استغلالها للطبقات المستغلة وانضاف الى التدين الناتج عن الجهل بقوى الطبيعة تدين ناتج عن جهل بالقوى الاجتماعية.يقول أنجلز معرجا على ذلك: " لم تلبث أن دخلت الميدان الى جانب القوى الطبيعية، قوى اجتماعية، قوى تنتصب أما البشر تبدو غريبة كل الغرابة وفي البداية غامضة ملغزة كذلك هيمنت عليهم بنفس مظهر الضرورة الطبيعية."9
وقد عرفت العقيدة الدينية تطورا من عبادة الهة متعددة الى عبادة اله واحد مرورا بشكل وسيط هو الالهة الواسطة. وقد عبر المرور من الالهة المتعددة والأرضية الى الأديان التوحيدية السماوية عن مرحلة نضج التجربة الانسانية وتطورها مقارنة بالمرحلة السابقة حيث أدى التطور الفكري الحاصل الى اضفاء نوع من التجريد والتأملية على فكرة الله والارتقاء بها من الواقع المحسوس الى المطلق المنزه.كما عبرت الأديان التوحيدية عن مرحلة توحيد القبائل في دولة امبراطورية وهكذا جاء الاسلام مثلا موحدا بين القبائل وخلق كيان امبراطوري على أنقاض الامبراطوريتين البيزنطية والساسانية.
ولم يكن بامكان الانبياء أن يجتذبوا اليهم الجماهير الواسعة الى الدين الجديد الا باعتماد ايديولوجية تخدم مصالح الاغلبية المسحوقة والمضطهدة من العبيد. فالنبي موسى استطاع أن يقود الجماهير البائسة والمضطهدة من العبيد بوعده لهمك بالخلاص من العبودية الفرعونية ونفس التمشي اعتمدته الديانتين المسيحية والاسلامية اللتين توجها في بداية الدعوة الى العبيد والمضطهدين ضد السادة كبار القبائل وقد احتوت هذه الاديان حركات الاحتجاج التي رافقت نهاية المرحلة العبودية وبداية المرحلة الاقطاعية والتي اتخذت مثلا في الجزيرة العربية قبيل نزول الاسلام شكل التصوف الحنفي أو الصعلكة الشعرية. وسواء في اليهودية أو المسيحية أوالاسلام أصبح قادة الدعوات كسب تعاطف الفئات المهمشة والضعيفة ومساندتها. ولكن الديانات التي بدأت كحركة ثورية تلبي حاجيات المجتمع التاريخية سرعان ما تتأقلم مع التكوين الطبقي للمجتمع وتصبح أداة ايديولوجية بيد الطبقة المهيمنة تستند اليها في اضطهاد الطبقات المضطهدة. وبما أن هذه الأخيرة لا يتسنى لها موضوعيا أن تطرح على نفسها من المهام أكثر مما تسمح به ظروفها التاريخية فان معارضتها للطبقات الحاكمة باسم الحكم الالهي تتخذ بدورها غلافا دينيا هو في جوهره تعبير عن صراعات اجتماعية فتعتمد قراءات للنص الديني تخدم مطامحها وأهدافها التحررية. وقد عبر أنجلس عن هذه الفكرة في كتابه حرب الفلاحي معتبرا أن الدين " ليس دين المجتمع ككل وليس دين طبقة مسيطرة فقط بل تستعمله كل طبقة في حزبها ضد الطبقات الأخرى لحماية مصالحها"10.فالدين هو معطى تاريخي يتأثر بالصراعات الاجتماعية الدائرة وهكذا مثلا استند أنصار معاوية ابن أبي سفيان ممثل الارستقراطية الأموية على القران في حربه ضد جيش علي ابن أبي طالب الذي يعبر عن مصالح السواد الاعظم من فقراء المسلمين وهكذا اعتمد كلا الطرفين على تفسير مغاير لنفس المرجعية الدينية وهو ما تعبر عنه مقولة علي بن أبي طالب " القران انما هو خط مستور بين دفتين لا ينطق وانما يتكلم به الرجال" وهو نفس الذي ينطبق على الصراعات التي شقت الفئات والمذاهب الاسلامية طوال كامل فترة الخلافة حيث نجد دائما قراءات رسمية تستند الى حرفية النص تحافظ على مصالح الطبقة الحاكمة وقراءات معارضة تستند الى التأويلات العقلانية التي تتماشى وغاياتها التحررية. ولا يزال امامنا كثوريين مهام كثيرة لعقلنة الموروث الديني والحضاري وعرضه على محكمة العقل التاريخي انسجاما مع طبيعة الثورة التي عرفها بلادنا كثورة تجمع بين المهمات الديمقراطية البرجوازية والمهمات الديمقراطية الشعبية ذات الأفق الاشتراكي وقد قامت البرجوازية الغربية بالجانب الاول من المهام في الدول المتقدمة التي عرفت ثورات صناعية وديمقراطية قامت بها بورجوازياتها الوطنية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أما بلداننا التي لم تشهد مثل هذه الثورات فلا تزال المهام الديمقراطية البرجوازية عالقة وهي مهام مطروحة على أحزاب الطبقة العاملة لا على بورجوازياتنا التابعة والطفيلية.
وقد اوضح أنجلز أن الصراعات التي تتخذ صبعة دينية هي في جوهرها صراعات طبقية حيث يقول: "ان المسألة قبل كل شيء كانت مسالة مصالح مادية طبقية أكيدة تماما كالمصادمات الداخلية التي اتخذت في ذلك العصر طابعا دينيا، واذا كانت مختلف الطبقات وحاجاتها ومطالبها قد تسترت بقناع الدين فذلك لا يبدل من الأمر شيئا ويمكن تفسيره بشروط العصر". 11
وهكذا استندت سلطة الخلافة الأموية والعباسية على الفهم الرسمي للاسلام وهو فهم نصي يتأسس على مفاهيم الاستسلام والجبرية للحفاظ على سلطتها وفي المقابل استند معارضو السلطة الرسمية على القراءات العقلانية للاسلام للتنديد بالسلطة الرسمية الجائرة والظالمة وقد اتخذ الصراع تارة شكل حركات فكرية معارضة وطورا شكل حركات احتجاجية واجهت سلطات الخلافة وأقامت انظمتها البديلة . وفي مضمار الحركات الفكرية برز عديد الاعلام والحركات الفكرية التي عبرت عن مصالح الطبقات المقموعة كابي ذر الغفاري صاحب قولة " عجبت لمن لا يجد في بيته ما يسد الرمق ولا يشهر سيفه في وجه الحكام" وكذلك المعتزلة التي قالت بقدرة الانسان على الاختيار وحريته ومسؤليته على افعاله كما أكدوا أن كلام الله ليس ( بقديم ) أي ليس من الصفات المعادلة للذات وإنما هو حادث أو مخلوق ككل شيء مخلوق في الكون.
وكذلك المعري المعروف بقولته الشهيرة " لا امام سوى العقل" وابن سينا العالم الفذ الذي اعترف بالوجود الموضوعي للطبيعة وابن رشد الذي " يرى أن العالم المادي لانهائي فى الزمان ولكنه محدود مكاني ، وهو يرفض التصورات اللاهوتية عن خلق العالم من لا شيء " ولم يرفض أبداَ وجود الله ولكنه يقول بأن الله والطبيعة معاً موجودان منذ الأزل ، فلم يكن هناك زمن وجد فيه الإله قبل أن توجد الطبيعة ، ويقول أيضاً أن الله هو المصدر الازلي للواقع ، في حين تشكل المادة الأساس الوحيد للوجود والمصدر الأزلي للمكان ونذكر كذلك وإخوان الصفا الذين ركزوا على البعد الانساني بين جميع الاديان ، والفلسفة عندهم هي أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة (غازي الصوراني، الفلسفة وتطورها التاريخي، مقال منشور بموقع الحوار المتدن،الحوار المتمدن-العدد: 2723 - 2009 / 7 / 30 المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية12
أما الحركات الاحتجاجية الثورية فييمكن ان نذكر الثورة البابكية ضد السلطة العباسية والتي امتدت من 201هج الى 223هج وثورة الزط ( 206 هج) وثورة الزنج ( 255هج) وثورة القرامطة (264هج -274هج) وثورة الحشاشين. وهي ثورات تمرد على سياسة السلطة المركزية ( الخلافة) نادت كلها بتحقيق العدل الاجتماعي وشاركت فيها النساء والرجال ووصل وتمكن بعضها الى تأسيس دويلات على جزء من اراضي الامبراطورية الاسلامية وقامت بمشركة وسائل الانتاج بالأسلوب الذي تسمح به الظروف التاريخية لهذه الحركات.وقد جبهت هذه الحركات بقمع فكري وعسكري من قبل السلطة الرسمية حيث اتهم قادتها بالكفر والزندقة واتهمت حركاتهم بالدعوة الى اقامة نظم اشتراكية في النساء كما تم التنكيل برموزها وأنصارها من قبل جيش الخلافة بعد أن تم اخمادها.
ان هذا الجانب النير من التاريخ الاسلامي لا يعترف به المتأسلمون ويتمسكون بالقراءات الموغلة في الرجعية والتي كانت تعبر عن مصلحة الاسياد أما الثوريون فانهم يعتبرون أنفسهم تواصلا لكل رموز مقاومة القهر والاستغلال والاستبداد جاء في كتاب ضد الظلامية لحمة الهمامي ان الماركسينن الينيين الحقيقيين هم توا صل لكل هؤلاء الذين شكلوا منارة العرب في العصور السالفة "ولكننا تواصل لهم بمعنى أننا نحن الممثلون الحقيقيون للقوى الرافضة للاستغلال في عصرنا مثلما كانو هم في عصرهم ، مع الفارق أن بيننا وبينهم قرونا من الزمن وأن العدل الاجتماعي في عصرنا أصبحت قاعدته في التطور المادي للمجتمع البشري وأصبحت هناك نظرية صحيحة ( الاشتراكية العلمية) تحدد كيف يتحققن بينما كان هذا الشعار في عهد أبي ذر الغفاري وأمثاله من التقدميين شعارا مثاليا، غير ممكن التحقيق لعدم توفر الشروط الموضوعية والذاتية لذلك مما جعل الغلبة تكون للطبقات التي كانت تمثل طبقات عصرها"13.
وقد اعتبر ماركس وانجلز الغلاف الديني الذي اتخذته عديد الحركات الثورية في القديم وعيا زائفا لواقع حقيقي واقع ارادت الطبقات المستغلة تغييره وتحقيق مطامحها في التحرر وتحقيق العدل الاجتماعي وهي محاولات انتهت اما بالهزيمة وإخماد الحركات الاحتجاجية من قبل السلطة المركزية أو بتحول هذه السلطة التي أسستها هذه الحركات بدورها الى سلطة طبقية واستغلالية باعتبارها سلطة بشرية رغم غطائها الديني.
يستفاد من هذا التحليل أن الماركسية والدين تصوران متضاربان لا يمكن التوفيق بينهما وأية محاولة من هذا النوع ستؤدي الى افراغ الماركسية من علميتها لخدمة أغراض انتهازية تنم عن ضيق افقها البرجوازي الصغير. يقول لينين: "ترتكز الاشتراكية الديمقراطية في مجمل نظرتها للعالم على الاشتراكية العلمية. ان الأساس الفلسفي للماركسية كما أعلنه ماركس وأنجلس مرارا هو المادية الجدلية وهي مادية بلا جدال ملحدة ومناهضة بلا اصرار لكل الأديان"14 وفي مقام اخر " أولا بالنسبة للاشتراكية الديمقراطية نفسها: أولا بالنسبة للماركسية أولا بالنسبة للحزب العمالي (...)الماركسية هي المادية وبصفتها تلك فهي معادية للدين بقوة لا رحمة فيها. تماما مثلما كانت مادية القرن الثامن عشر ومادية فيورباخ هذه مسألة لا يرقى اليها الشك"15. هكذا كان لينين على غرار ماركس وأنجلس معاديا للدين ومشهرا بكل المواقف الانتهازية المهادنة ولكنه وبنفس الحدة كان يحذر باستمرار من المواقف الفوضوية التي تعتبر ان الجهل الديني يعود الى الدين في حد ذاته وتستهدف الدين في حربها بدل الاساس المادي للدين أي الظروف الاقتصادية والاجتماعية للدين معتبرا أن أي دعاية ضد الدين تكون منفصلة عن الواقعه الذي أنتجه ستكون دعاية في صالح البرجوازية وخدمة مجانية تقدم لها. فالماركسية وان كانت مناهضة لكل الاديان في مبادئها الفلسفية والاجتماعية وترمي الى تقويضها فهي تتجنب الوقوع في اليسراوية وتناول الصراع ضد الدين بشكل مثالي متساءلة عن وجود الله من عدمه ورد الاعتقاد فيه الى جهل المؤمنين ونقص ثقافتهم وتحويل المعركة ضد الدين الى معركة بين الايمان والالحاد بل لابد من ملازمة الموقف الثوري الذي يتناول الصراع ضد الدين من موقع مادي جدلي فلدين حسب عبارة لينين هو " انعكاس للقمع الاقتصادي في المجتمع" والى هذا القمع يجب ان نوجه كل التنا في القتال.فوجود الدين اذن كبنية فوقية مسيطرة او كجزء من البنية الفوقية هو بالنسبة للماركسيين نتيجة للاستغلال الطبقي الواقعي ويرتبط بالتالي الصراع ضد الدين بالنضال ضد القاعدة المادية التي يقوم عليها الدين. ان مايهم الماركيين بدرجة أولى هو تجاوز هذه القاعدة وارساء اخرى،اشتراكية، تقوم على عدالة حقيقية تنتفي معه كل اسباب بقاء الدين. وعلى هذا الاساس يجب العمل في فترة الاعداد للثورة على تجنب كبل ما من شأنه أن يمس بالمشاعر الدينية للعمال والكادحين وتوحيدهم على أساس البرنامج الاقتصادي والاجتماعي المرحلي لحزب الطبقة العاملة والحرص على تثقيف العمال في معمعان النضال الطبقي الملموس لأن ما يتعلمه الكادح في غمار الصراع الطبقي الملموس هو أنفع الف مرة من التثقيف النظري في الصراع ضد الدين, يقول لينين في مقاله حول الدين والاشتراكية: " سوف يكون من ضيق الأفق البورجوازى الصغير ان ننسي ان نير الدين الذى يثقل على البشرية هو نتاج وانعكاس فحسب للنير الاقتصادى داخل المجتمع . لايمكن لأى عدد من الكراسات ولا لكميات من الوعظ ان تنير البروليتاريا ، ان لم تستنير بصراعها الخاص ضد القوى الظلامية للرأسمالية . الوحدة فى الصراع الثورى الواقعى للطبقة المضطهدة من اجل خلق جنة على الارض هى اكثر اهمية بالنسبة لنا من وحدة الرأى البروليتارى حول الجنة فى السماء .
وقد تعرض لينين الى انعكاسات المسألة الدينية على الانتظام بالحزب واستخلص انه" وعلى اساس ذلك يستخلص لينين انه "لاينبغى ان نمنع البروليتاريين الذين مازالوا يحتفظون بآثار التحيزات القديمة من ان يلتحقوا بحزبنا . سوف ندعوا دائما للنظرة العلمية للعالم ، ومن الجوهرى بالنسبة لنا ان " نكافح " عدم الاتساق عند تنويعات من ال "مسيحيين" . ولكن لايعنى هذا على الاقل ان توضع المسألة الدينية فى الصدارة ، حيث لاتنتمى لهذا الموضع على الاطلاق ، كما لايعنى هذا اننا سنسمح لقوى الصراع الاقتصادى والسياسي الثورى الحقيقى أن تنقسم بناء على آراء من الدرجة الثالثة او افكار لامعقولة ، تفقد على اى حال بسرعة كل اهميتها السياسية وتكنس كنفاية بحكم مسار التطور الاقتصادى ذاته."16
فالتعامل مع الوعي الديني للعمال يجب أن يجد نقطة الارتكاز في جعل الغاية الاولى هي توحيدهم على أساس برنامج الحزب الاقتصادي والاجتماعي والقيام تدريجيا وبصفة دؤوبة بتثقيفهم وتربيتهم على أساس النظرة المادية الجدلية للعالم حتى يتخلصوا تدريجيا من رواسب تربيتهم الاجتماعية التي تلقوها في ظل نظام الاستلاب والقمع الروحي والمادي. ويجب أن يضع الحزن نصب عينيه أن مهمته تكمن في ضم الكادحين الى الحزب هو لتثقيفهم وفقا لروح برنامجه الثوري وليس لكي يقفوا ضده. وهنا يجدر الاشارة ان التعامل مع الارث الديني في مسألة التنظم يجب أن يراعي ظروف الصراع الطبقي الواقعية المختلفة ومستوى التنظم فإذا كان التعامل يجب ان ينبني على مرونة كبيرة في المنظمات الجماهيرية للحزب فانه يجب تشديد المعايير كلما تعلق الامر بالإطارات القيادية للحزب المركزية والجهوية والمحلية باعتبار ان الحزب هو فصيلة الطليعة المتملكة لقوانين الحركة ولقوانين الثورة والتي ستقود الطبقة والشعب الى الحكم .وعلى هذا الاساس وبناء على تقييم التجربة السابقة وما افرزته من ظهور بوادر حقيقية لتراجع المستوى الفكري والإيديولوجي خاصة بالعناصر الجديدة الملتحقة بالحزب ارتأى المؤتمر الوطني الرابع للحزب المنعقد في 26 و27 جوان 2014 والذي رفع شعار بلشفة الحزب ان يتم تعديل النظام الداخلي باشتراط تبني الماركسية اللينينية والمادية الجدلية كنظرية متكاملة في منح العضوية للحزب.
وفقا لما تقدم يمكن القول أن الماركسية وان كانت معادية للمواقف اليسراوية من قضية الدين والتي تريد حسم المسألة الدينية بالطرق القيصرية والبيروقراطية عن طريق القرارات الادارية الفوقية وتعتبر هذا الأسلوب اعتداء على حرية الكادحين وعلى مشاعرهم الدينية وترى أن الحل ليس في انتهاج الاسلوب القمعي الذي ينم عن سطحية وثورجية ساذجة بل لابد من اتباع اسلوب تنظيمي تربوي بين الأوساط الكادحة، فهي أيضا تقف ضد الطرح اليميني الانتهازي الذي يدعو الى مهادنة الدين بدعوى أنه قضية خاصة والإحجام عن نشر الفكر المادي. وفي هذا الصدد يقول لينين: " الدين بالنسبة لحزب البروليتاريا الاشتراكية ليس قضية خاصة. ان حزبنا هو جمعية مناضلين واعين وطليعيين يقاتلون في سبيل تحرر الطبقة العاملة. هذه الجمعية ( الحزب) لا يستطيع ولا ينبغي أن تظل غير مهتمة بغياب الوعي، بالجهل والتجهيل المغلفة بصفة اعتقادية دينية. اننا نطالب بفصل الكنيسة والدولة لكي نحارب الضباب الديني بأسلحة فكرية محضة وبأسلحة فكرية فقط"17 ( لينين، نصوص حول الدين...)هكذا اذن تمثل الدولة الائكية الشرط الضروري لانتشال الطبقة العاملة من القمع المعنوي المسلط عليها واقتلاع جذوره المادية التي يقوم عليها.
2-الدين والدولة: اللائكية هي طريق الديمقراطية والتحرر
ان النظر في مسألة اللائكية يتطلب منا بداية التمييز بين مستويين من التحليل يتعلق الأول بالجانب النظري والفلسفي لهذا المفهوم والجانب الثاني بالبعد السياسي المباشر لهذا المفهوم.
فلسفيا، لابد من التاكيد على أن اللائكية هي مبدأ متفرع عن مبدأ اشمل وهو العلمانية(بفتح العين) وتعد اللائكية ترجمة للعلمانية في المجال السياسي.والعلمانية مشتقة من العالم أي العالم الدنيوي في مقابل العالم الاخروي وهي نظرة شاملة ومتكاملة فلسفية،أخلاقية سياسية وسلوكية وبموجبها يصبح الانسان سيد مصيره بعد أن تخلص من كل أشكال الوصاية الماورائية التي توجه ارادته سواء كانت هذه الوصاية تمارس على الابدان أو على الأرواح.
وان كان لهذا المفهوم جذوره القديمة مع كل التيارات والمذاهب المادية التي تعطي الأولوية للعالم المادي فانه لم يتبلور بمفهومه العلمي النهائي الا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر اثر التحولات الاقتصادية والاجتماعية والفلسفية التي عرفها الغرب انئذ مع دخول عصر النهضة والحداثة. ومثلت العلمانية المقولة الايديولوجية الأساسية التي بنت عليها البرجوازية الصاعدة كل بنائها الحقوقي والفكري.فقد غيرت الثورة الصناعية وبروز قوى وعلاقات الانتاج الرأسمالية التقدمية مقارنة بنمط الانتاج الاقطاعي أسلوب الحياة التقليدي وقلصت من نفوذ الكنيسة ومن نفوذ الجماعة على الفرد وجاءت بمفهومي حرية الاستقلالية أي استقلال الفرد عن المجموعة في حياته الخاصة وفي نشاطة الاقتصادي وحرية المشاركة أي مشاركة الفرد في الشأن العام ويلخص مبدأ حرية تقرير المصير كل هذه الدلالات المختلفة العلمانية. لكن مع فقدان البرجوازية الحاكمة لطابعها الثوري وتحولها الى طبقة رجعية أصبحت تتنكر لكل القيم التقدمية التي تكونت في عصرها بما في ذلك مفهوم العلمانية فأصبحت الاشتراكية ايديولوجيا وفلسفة الطبقة الثورية الجديدة طبقة العمال هي الحامل للواء تحرير الانسانية جمعاء وهي الحافظ للمنجز الانساني النير والتقدمي على غرار قيمة العلمانية كما أضافت لهذا المفهوم أبعاد جديدة اذ لا معنى لحرية تقرير المصير اذا تم مقاربتها مقاربة فردية ومجردة بعيدة عن الواقع الملموس فعمقت الاشتراكية الابعاد الاقتصادية والاجتماعية لمفهوم العلمانية وأثرتها بعناصر جديدة على غرار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الاستغلال والفاقة المادية والمعنوية ورسمت بذلك أفقا أرحب لتحرر الانسانية.
وقد اعتمدت كل التجارب العلمانية في مشروعها على التعليم حيث تم علمنته وعقلنته مناهجا ومضامينا، كما تمت مع مرحلة الاشتراكية التأكيد على مفهوم تكافؤ الفرص والمساواة الفعلية في ممارسة الحقوق الاساسية والتعلم فتم ربط لائكية المناهج والمضامين بالزامية التعليم ومجانيته.فلا علمانية ولا تقدم دون سياسة تعلمية تقوم على المنهج العلمي والعقلاني النقدي وفي ظل ظروف من المساواة وتكافؤ الفرص.
أما الجانب الثاني والمتعلق بالائكية في بعدها السياسي المباشر فيتعلق بالفصل بين الدين كشأن فردي وعقائدي والسياسة باعتبارها شأنا وضعيا وتعاقديا. والدولة الائكية هي الدولة التي يتساوى فيها كل الافراد مهما كان انتمائهم الديني والمذهبي ومهما كان جنسهم أولونهم باعتبار ان الصراع فيها يكون على قاعدة الرؤى والتصورات المواطنية في ابعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، في حين تلتزم الدولة بالحياد التام ازاء كل الاديان وتضمن حق الجميع في الاعتقاد بدين معين من عدمه كما تلتزم بعدم انتهاج اي ايديولوجيا أو معتقد ديني أو تصور مذهبي. وتعتبر اللائكية الشرط الضروري لانتقال الدول العربية والاسلامية الى عصر الحداثة وخروجها من نفق القرون الوسطى وتجاوز حقبة الاقتتال الديني والطائفي التي تتردى فيها منذ قرون. فالسلطة السياسية التي سادت تاريخيا العالم الاسلامي ممثلة في الخلافة كانت دائما سلطة زمنية وطبقية ولكنها وظفت الدين لتبرير استبدادها وهيمنتها وهو ما لا تريد حركات الاسلامي قبوله وتواصل في تبني قراءة أحادية تمجيدية للتاريخ السياسي للاسلام. وهي حتى وان قبلت بالديمقراطية فان تعاطيها مع ذلك تم دائما بطريقة براغماتية ونفعية لا ستغلال ما تتيحه من فرص للهيمنة على الدول وعلى المجتمعات باسلوب ديمقراطي وقد أدى ذلك في كثير من الدول العربية والاسلامية الى تأسيس ديمقراطية مناقضة للديمقراطية تتم على اساس طائفي ومذهبي وما أدى الى السقوط في دوامة من الاقتتال والتباغض المذهبي عطل ويعطل نهوض هذه المجتمعات والمفارقة أن أغلب حركات الاسلام السياسي التي تحلم بالخلافة وترفض الديمقراطية والعلمانية باعتبارها منتوجا غربيا كافرا لا تتوانى على الالتجاء للمؤسسات المالية الدولية للحصول على القروض والمساعدات مقابل مزيد تعميق تبعية الدول وتفتيتها على اساس طائفي ومذهبي وتفقير شعوبها بما ينسجم وأهداف الدول الكبرى في المحافظة على مصالحها الاستعمارية عبر مصادرة سيادة الدول واضعافها. ان اللائكية هي الاطار الانسب لفضح حقيقة كل الاحزاب المتسترة بالدين وبيان جوهرها الطبقي والعميل.
ينبغي على الاحزاب الثورية عدم الخلط بين الجانب الفلسفي التي يتعلق بالحزب والجانب السياسي الذي ينعكس من خلال برنامجه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وعلى هذا الاساس اعتبر لينين انه من السذاجة السياسية ان يتضمن برنامجنا الدعوة الى الالحاد، فالايمان بالعلمانية من قبل الاحزاب الثورية يجب ان يترجم في برامجها من خلال التنصيص على احترام عقيدة الشعب لان هدفها ليس محاربة هذه العقيدة بل محاربة الاضطهاد والاستغلال والفقر والهيمنة الاستعمارية على بلادنا أما عقائد الناس وقناعاتهم فهي مسائل شخصية تخصهم وينبغي احترامها وهو ما يفرض علينا ان نتصرف بروح المسؤولية الواعية تجاه شعبنا حتى ننجح في اقناعه ببرنامجنا الذي يخدم مصالحه وذلك بتجنب كل ما من شأنه أن يمس من مشاعره ومعتقداته في سلوكنا وخطابنا على غرار بعض التصرفات الرعناء التي لا تنم الا عن ضعف فكري وسياسي من قبيل الاجهار بالحاد والتباهي بذلك أو التجاهر بالافطار في رمضان وغير ذلك من التصرفات الصبيانية وغير المسؤولة التي لا تفضي إلا لعزلنا عن الطبقة والجماهير الشعبية وتقديم خدمات مجانية لفائدة أعداء الشعب.
ان نضالنا السياسي هو موجه الى سياسات التبعية والتفقير ولا يهمنا في شي عقيدة الناس فكون شعب ما مسلم أو معتنق لأي ديانة أخرى فذلك لا يتناقض مع انتصاره للحرية والمساواة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهنا لابد من التمييز بين الجانب العقدي للاسلام والجانب التشريعي ممثلا في الاحكام المنظمة للعلاقات بين البشر والمستمدة من النص الديني وهي أحكام وقواعد جاءت في ظرف تاريخي معين وفي نمط انتاج اقطاعي يتمير ببساطة المعاملات ومحدودية مستوى الحياة، ومن يريد حصر الايمان في تطبيق بعض احكام الشريعة كما وضعها عدد من الفقهاء انما يحكم على المسلمين والمسلمات بالتخلف عن عصرهم ويرفض قانون التطور وتغير الاحوال فكما أن المسلمين الاوائل قد شرعوا لأنفسهم ما يتماشى وحاجياتهم في عصرهم فمن حق المسلمين اليوم أن يضعوا هم ايضا التشريعات الملائمة لعصرهم ولمصالحهم. وقد لخص برنامح حزبنا كل هذه العناصر في جانبه المتعلق بفصل الدين عن الدولة والسياسة حيث جاء فيه أنه يناضل من أجل ضمان تحقيق الأهداف التالية:
- ممارسة المواطنين والمواطنات لشعائرهم الدينية وقناعتهم بكل حرية دون تدخل البوليس والإدارة أو أي طرف أخر حزبا أو مجموعه لإكراههم على اتباع مذهب أو قناعة ما، وعدم توظيف الدين ودور العبادة لتفتيت وحدة الشعب والتفريق بين افراده وحرمانه من حقوقه الأساسية.
- ضمان المساواة بين كافة أفراد الشعب على أساس مبدأ المواطنة القائم على الانتماء الى تونس دون تمييز بسبب الجنس أو العقيدة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو السياسي.
- حماية الدولة لحرية العقيدة وتوفير مستلزمات ممارستها لكافة المواطنين: توفير المساجد وعدم غلقها أمام الناس...
- ايكال ادارة الشؤون الدينية الى هيئة مستقلة ومنتخبة، تنظمها وتسهر عليها دون تدخل في الشأن العام.
فمعركة العلمانية واللائكية هي معركة الثوريين وقد تم تحقيق عدة مكاسب في هذا الجانب في دستور 2014 الذي ولئن لم يتضمن التنصيص على مبدأ علمانية الدولة فقد تضمن فصلها الثاني تأسيسها على قيمتي الطابع المدني والديمقراطية وهي مبادئ يمكن الاستناد لتوسيع المكتسبات ، في الواقع والقانون، اكثر ما يمكن في هذا الجانب بما يمكن من توفير الاطار المناسب لخوض الصراع مع الاحزاب الرجعية وفضح جوهرها الرجعي المعادي للشعب والوطن بعد أن نزيل عنها الضباب الديني الذي يضلل الكادحين عن طريقهم الحقيقية.