الحلقة الثانية - ما هو السبب في ضعف و أنهيار الحركة الشيوعية و اليسار السياسي بوجه عام في العراق


بهاءالدين نوري
2016 / 10 / 15 - 21:30     

ما هو السبب في ضعف و أنهيار الحركة الشيوعية و اليسار السياسي بوجه عام في العراق
وهل من علاج ام انه الانهيار الابدي ؟
- الحلقة الثانية -
2- بدأت المرحلة الثانية من تأريخ الاتحاد السوفيتي بانتصار الاتجاه الستاليني في الصراع الدائر داخل الحزب ، بعد أن كشف خروشيوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي عن اخطاء و تجاوزات ستالين و طرح مهمة اصلاح الوضع .
فما هو الاتجاه الستاليني " او الستالينية " ؟
هي منظومة من الافكار واساليب العمل خاصة ببناء لون من الاشتراكية ، مستوحاة من افكار ماركسية ولا ماركسية – فوضوية ، و مرتبة على اساس الجمود العقائدي ، يتحكم فيها الشخص القائد مطلق الصلاحية و تتشوه فيها الديمقراطية ، ويتسلط فيها جهاز البوليس السري ، ويشاع الفساد الاداري والمالي ويباح للامعيين في الحزب والدولة الاستمتاع بأكداس من الامتيازات الشخصية غير المشروعة والاهمال لمشاكل بسطاء الناس من الشغيلة .
وينمحي الفرق في معظم الجوانب بين هذا النمط من الحكم الاشتراكي ( ونموذجه الآن كوريا الشمالية ) وبين نمط الحكم الفاشي البورجوازي ( نموذجه حكم هيتلر و موسوليني ) أو الحكم الديكتاتوري الفاشي في البلدان المتخلفة ( نموذجه حكم صدام حسين في العراق و آل الاسد في سوريا ) .
كان من مصلحة الاتجاه الستاليني ، بعد تعرضه للادانة من قبل خروشيوف ، ان يتجنب اثارة الضجة عن السبب الحقيقي لما قام به ضد خروشيوف ، فاكتفى المتآمرون بذكر أخطاء الاخير و نقاط ضعفه لتبرير ازاحته في عملية شبه انقلابية . ولم ينتبه الشيوعيون المخلصون للاتجاه الاشتراكي الصحيح الى جوهر ماحدث ، بل تراءى لهم ان ماحدث لم يكن اكثر من اجراء حزبي روتيني ردا على اخطاء من لدن خروشيوف . ولم يعلن احد ان هذا الاجراء ضد خروشيوف و ولاحلال برجنيف ، الزعيم الستاليني المغفل المولع بكيل المديح و التصفيق له ، محل خروشيوف لايعني شيا سوى ارجاع الحزب الى الوضع الذي كان يسود قبل رحيل ستالين ، مع فارق واحد هو ان خروشيوف طرد و ترك ليجلس في بيته ، دون ان يعدم كما كان معتادا ايام ستالين . بيد ان ازاحته و ضعت الحزب السوفيتي في مفترق الطرق و رجحت كفة الستالينيين في الصراع و وفرت لهم فرصة ذهبية لتعزيز مواقعهم .
لاحظ خروشيوف على ارض الواقع السوفيتي منجزات كبيرة ، كما لاحظ أيضا سلبيات وتجاوزات كثيرة . وكان محقا في تشخيصه لمسؤولية ستالين عن هذه السلبيات . لكنه لم يتوصل الى الربط بين هذه السلبيات والتجاوزات الخطيرة و بين ما قام به لنين قبيل رحيله من صياغة القوانين العامة للثورات الاشتراكية ، و بالتالي تقديم تلك القوانين و التوجيهات الى جميع الشيوعيين في روسيا وكل العالم ككتاب سماوي لايحق لاي شيوعي ان يعترض عليه أو يخالف احكامه . و يتراءى لي ان خروشيوف اسند الاخطاء و التجاوزات الى شخص ستالين بمفرده دون ان يحسب الحساب لنشوء و تنامي العقلية الستالينية في صفوف الحزب السوفيتي الحاكم طوال ثلاثين ثنة من زعامة ستالين وما اسفر عنه من انتشار تلك العقلية . وكانت نتيجة ذلك ان لم يفلح خروشيوف في نشر الوعي الكافي حول النهج الستاليني المتنامي في تنظيمات الحزب والاستعداد الضروري للتصدي له.
شيء آخر لم ينتبه اليه خروشيوف ( ولا كربجوف لاحقا ) حول دور المخابرات السوفيتية ( ك گ ب ) في هذا الصراع الخفي داخل الحزب . انا لااملك معلومات كونكريتية عن دور المخابرات السوفيتية الواسعة المتنفذة في تلك الفترة . لكن المرء يتساءل : اذا كانت المخابرات قد شكلت وانفق عليها الكثير لكي تحمي النظام الاشتراكي فأين كانت هي من عملية ازاحة خروشيوف بهذه الطريقة المريبة و لماذا لم تقدم اي شيء حول ما جرى ؟ انني أميل الى الراي القائد بان المخابرات كانت مهيأة لخدمة و صيانة الاتجاه الستاليني في الحزب و في النظام طيلة زعامة ستالين . ويمكن القول انهم تربوا بالعقلية الستالينية ، بالدرجة اساسية . ولم يرق لرجالها ، او لغا لبيتهم ، ماقاله خروشيوف ضد ستالين في مؤتمر الحزب عام 1956 . و لهذا لاغرابة في ان ينحازوا الى التيار الستاليني ضد خروشيوف ولدعم برجنيف .
واهم مااثار انتباهي وزاد من شكوكي حول تورط المخابرات في الانحياز الى الاتجاه الستاليني و لعرقلة عمل خروشيوف ومن ثم عمل ميخائيل كربجوف في محاولاتهما لاصلاح النظام السوفيتي ... الخ ، كان تصرفات آخر رئيس للمخابرات السوفيتية فلاديمير بوتين . فبعد بضع سنوات من رئاسة يلسن استقال هذا الرئيس و قدم رئيس المخابرات بوتين الى الناس قائلا على شاشة التلفاز :-
- انا أترك منصب رئيس الحكومة ، و اقدم هذا الشخص المؤهل للرئاسة .
ألا يدل ماعرضه يلسن على ان العلاقة بينه وبين بوتين لم تكن بنت يومها و أن هناك اتفاقا مسبقا بين الرجلين على موعد لتسليم زمام الحكم من يلسن الى بوتين ، هل من الخطأ ان يستنتج المرء من ذلك بأن المخابرات كانت ضالعة في اسقاط النظام الاشتراكي واستيلائها هي على الحكم؟
ومهما كان دور المخابرات وحجم مساهمتها في اسقاط النظام السوفيتي فأن السبب الاساسي للسقوط كان في دور الاتجاه الستاليني .
* * *
كان انهيار النظام السوفيتي خسارة لاتعوض بالنسبة للشغيلة و للمجتمع البشرى باسره ، وينبغي التوقف على هذه المسألة الخطيرة . بصياغته للقوانين العامة للثورة الاشتراكية ووجوب الالتزام بها في كل مكان و زمان ، ارتكب لنين خطأ تأريخيا كبيرا . فهو لخص تجربة الحزب البولشفي في روسيا حرفيا ، وحولها الى قوانين عامة كما لو كان الوضع السياسي العالمي موجودا في عمق الثلوج المتراكمة بمجاهل سيبريا و يبقى على حاله دون اي تغيير ، و الزم بذلك الاحزاب الشيوعية كلها بأن ينفرد كل حزب بالقيام بالثورة الاشتراكية عبر الثورة المسلحة و ينفرد بحكم المجتمع و يمارس حكم الاستبداد باسم ( دكتاتورية البروليتاريا ) . و بصياغته لهذه القوانين قسم لنين الديمقراطية الى نوعين فسمى احدهما (( دكتاتورية البروليتاريا )) وسمى الثاني ((دكتاتورية البرجوازية)) في حين ان الديمقراطية وحدة لاتتجزأ ، وهي نتاج التطور الحضاري للمجتمع البشري ، وليست هبة من البرجوازية أو من البروليتاريا ، ولايصح حصرها بفئة اجتماعية و حرمان فئة اخرى من التمتع بها . في العصور اليونانية الغابرة أفتى الفلاسفة و المثقفون بأن فئة العبيد غير مشمولين بالديمقراطية . لكن ذلك كان قبل الفي سنة ولم يكن في ظل التقدم العلمي – التكنيكي الحديث في القرن العشرين . من المؤكد ان البرجوازية حاولت وتحاول تكييف الديمقراطية في قوالب منسجمة مع مصالحها السلطوية – الاقتصادية . لكن مثل هذه المحاولات اصطدمت و تصطدم بمقاومة الفئات الواعية من المجتمع . وعلى اي
حال فان الحياة لم تزك اي لون من الديمقراطية سوى ما يمارس الآن في البلدان الاوروبية المتطورة ، مع مافيها من شوائب و نواقص . ولم تنجح في واقع الحياة ما سمي (( الديمقراطية الموجهة )) أو ما طبقه السوفيت على ارض الواقع ولم تزكه الحياة .
ان صياغة القوانين العامة للثورة الاشتراكية وفرت الأسس النظرية لما اصطلح على تسميته ب( الاتجاه الستاليني )) الخاطئ الذي قاد الى سقوط النظام السوفيتي في 1991 . ولو بقي لنين حيا لكان من المحتمل ان يدرك خطأه في وقت لاحق و يبادر الى العلاج . لكن ستالين عرضها ، بعد رحيل لنين ، ككتاب سماوي مقدس لايجوز التفكير ، مجرد التفكير ، بمس اي شيء من مضامينه . و لقد راقت هذه القوانين لستالين شخصيا ، الذي لم يكن مؤهلا لقيادة الحزب و النظام ، والذي لم يفهم اهمية الديمقراطية داخل الحزب و المجتمع الاشتراكي ، وتحول في ظل هذه النظريات الخاطئة الى دكتاتور فردي في نظام اشتراكي توتاليتاري يتحكم فيه الحزب بالبرلمان المنتخب فيجعل منه هيأة تابعة لقيادة الحزب وليس ممثلين للشعب ، والسلطة الفعلية ، ويتحكم فيه القائد الفرد بالحزب و يحق له ان يصفي من يراه (( معارضا )) أو مشكوكا في ولأئه.
لم يكن هناك ، طيلة عهد ستالين ، من يتجرأ على توجيه الانتقاد الى شيء ما من الماركسية اللنينية بتلك الصيغة التي قدمها بعد رحيل لينين ، لكن الوضع تغير بعد رحيل ستالين في 1953 . فاكتشف نيكيتا خروشيوف ، بعد ان أصبح سكرتيرا للحزب في الخمسينات ، الخلل و الاخطاء و عرضها على المؤتمر العشرين للحزب ، وبدأ العمل الاصلاحي ، ولم يفلح اذ تغدى به الستالينيون قبل ان يتعشى بهم .
وفي الثمانينات اكتشف ميخائيل كربجوف ، عندما استلم قيادة الحزب ، تلك الاخطاء و رسم برنامجا ( البروسترويكا ) للعلاج . لكنه هوالآخر لم يكتشف الرابط بين القوانين العامة للثورة الاشتراكية وبين الاتجاه الستاليني الذي ادى الى سقوط النظام السوفيتي . واذا كان النظام السوفيتي قد بقي اشتراكيا في حالته المرضية بعد ازاحة خروشيوف ، فان ازاحة كربجوف اقترنت بسقوط الاشتراكية و عودة الراسمالية الى الحكم . ويعود ذلك الى ان البرجوازية الروسية كانت ضعيفة حين ازاحة خروشيوف . لكن وجود الستاليني بريجنيف على كرسي القيادة طوال عشرين عاما حول رحم النظام السوفيتي الى معمل لتفريخ الاثرياء البرجوازيين في ظروف اتساع الفساد المالي _ الاداري . وعندما حاول الستالينيون في 1991 ازاحة كربجوف في شبه انقلاب تحركت البرجوازية الصاعدة ، مستفيدة من عزلة النظام وازاحت كربجوف الساعي للاصلاح والستالينيين الذين كانوا ضد الاصلاح . وتربع على كرسي النظام الجديد البرجوازي الشيوعي المرتد بوريس يلسن .
وثبت على ارض الواقع بطلان النظرية القائلة باستحالة العودة من الاشتراكية الى الرأسمالية . والسبب واضح . فالنظام ، راسماليا كان ام اشتراكيا ، كائن حي و معرض – شأن سائر الكائنات الحية – للاصابة بالمرض . والمريض قد يشفى و قد يموت . المستحيل هو العودة من التكنيك الحديث ( كالتركتور و الدراسة ) الى التكنيك البدائي ( كثور الحراثة و الحران الخشبي و المنجل اليدوي )
كان بالامكان تلافي سقوط النظام السوفيتي فيما لو قدر خروشيوف او كربجوف خطورة تنامي الاتجاه الستاليني و حول النضال ضده الى حركة جماهيرية في الحزب و بين الشغيلة ، بعقد سلسلة من الاجتماعات الحزبية - الجماهيرية يكشفون فيها تجاوزات ستالين و فرديته و مخالفة ذلك لمبادئ الحزب و للديمقراطية و العدالة ، و يرفعون يقظة الشيوعيين ، مدنيين و عسكريين ، في الاتحاد السوفيتي و في بلدان اشتراكية اخرى ضد من اساءوا الى مبادئى النظام الاشتراكي و دعوة اعضاء الحزب جميعا الى التصدي لكل حركة تخريبية وانتهازية مشبوهة . كان القيام بما اسبقت امرا ممكنا لأي من خروشيوف أو كربجوف ، وكان يوفر الحصانة له و للنظام . لكن أيا منهما لم يعرف شيأ عن هذا الوضع اللاطبيعي في الحزب قبل ان يصبح سكرتيرا له . ولم يمرا بتجربة عملية من هذا القبيل ، بل لم يقرءا اسبقا مجرد القراءة عما وجداه ، ولهذا لم يتقنا التعامل مع المشكلة لتلافي الفشل . ويلام كربجوف لانه كان عليه دراسة ماحدث لخروشيوف سابقا . ويستخلص دروسه .

* * *