جدل الحريّة و الضرورة - 4


علي عامر
2016 / 10 / 13 - 00:59     

حول قضيّة (الشيء في ذاته)

معروف أنّ الفلسفة تنقسم إلى مدرستين كبيرتين رئيسيتين , الماديّة والمثاليّة , الماديّة تعتقد بأزليّة المادة وأسبقيتها على الوعي , والمثاليّة تعتقد بأسبقيّة الوعي على المادة , و المثاليّة قسمان , فهناك المثاليّة الذاتيّة التي تعتقد أنّ وعي الذات هو ما يخلق العالم , والمثاليّة الموضوعية التي تعتقد بوجود وعي مطلق موضوعي كان سابقاً على وجود العالم.
ومعروف أيضاً أنّ الفلسفة تنقسم من حيث إجابتها على سؤال إمكانيّة المعرفة , إلى موقفين رئيسيين أيضاً.
فالماديين والمثاليين الصحاح (أو المنسجمين) , يعتقدون بإمكانيّة المعرفة , بقدرة الوعي البشري على إدراك الواقع وقوانين حركته.
وهناك عدداً من الفلاسفة يشكّون ويشككون في إمكانيّة معرفة العالم , مثل هيوم وكانط .
ما هو المشترك عند هيوك وكانط؟
يجيب لينين : "إنّهما يفصلان مبدأياً الظواهر عمّا يظهر , الإحساس عن المحسوس , (الشيء من أجلنا) عن (الشيء في ذاته)".
أولاً: كيف دحض هيجل (الشيء في ذاته)؟
تفيد مقولة (الشيء في ذاته) عند كانط , بعدم قدرة الوعي على إدراك الأشياء , فكل ما ندركه هنا , هو ظاهر الشيء , الذي ينعكس إلينا من خلال الحواس . أمّا إدراك ماهيّة الشيء , فهو أمر مستحيل , فالماهيّة عند كانط , مجرّدة بلا حراك , وتوجد بعيداً عن الظاهر , وبالتالي من المستحيل إدراكها , وماهيّة الشيء هي نفسها الشيء في ذاته.
فكانط وبناءاً على مذهبه النقدي , فصل بين الظاهر والماهيّة , وبالتالي فصل بين قدرة الوعي على معرفة كلاهما , فقال بالقدرة على معرفة الظاهر , وباستحالة معرفة الماهيّة .
هذا بالنسبة للمدرسة النقدية , أمّا النقد الجدلي للمدرسة النقدية , فجاء على يد هيجل , الذي أثبت أنّ معرفتنا للظاهر على أنّه ظاهر , تعني أننا نعرف الماهيّة في نفس الوقت , لأنّ الماهيّة هي التي تظهر , فهي لا تختفي وراء الظاهر" بل هي تبرز نفسها من خلال الظاهر" , فالظاهر هو ظهور الماهيّة , لذا فإدراكنا مثلاُ لأشياء الموجودة يعني إدراكنا لماهيّتها . فالظاهر متحد مع الماهيّة في هوية واحدة . والماهيّة لا توجد في أي ملكوت آخر , ولا في أي سماء أخرى بل توجد في صلب الظاهر نفسه. كما أنّ الماهيّة توجد وجوداً فعلياً , وهذا الوجود الفعلي هو الظاهر. فظاهر (الشيء في ذاته) هو وجوده الفعلي.
وطبيعة الماهيّة الجدلية والنشطة والفعّالة , تجعلها في صيرورة مستمرة نحو ظهور أكثر , وتستمر في سعيها نحو الظهور , إلى أنْ تنقلب الماهيّة نفسها إلى ظاهر , وينشأ لهذا الظاهر الجديد ماهيّة جديدة.
فما هو عصي على المعرفة اليوم , لا بد أن ينمو ليصبح واضحاً جلياً غداً .
ثانياً: كيف دحض انجلس كلّاً من كانط وهيوم , وكل اللاأدريين وكل التشكيكيين مرّة واحدة وإلى الأبد؟ كيف أجاب انجلس على السؤال الذي طرحه , "هل يستطيع فكرنا أن يعرف العالم الواقعي وهل نستطيع في تصوّراتنا ومفاهيمنا عن العالم الواقعي أن نكوّن انعكاساً صادقاً عن الواقع؟"
يقول انجلس:"إنّ أعظم دحض حاسم لهذه الشعوذات الفلسفية ولجميع الشعوذات الأخرى (اللاأدرية والتشكيكيّة) هو التطبيق العملي , وعلى الأخص التجربة والصناعة , فإذا استطعنا أنْ نبرهن على صحة فهمنا لظاهرة طبيعية معيّنة بخلق نفس هذه الظاهرة بأنفسنا , باستحصالها من شروطها , وباستخدامها , فوق ذلك , في سبيل أغراضنا وأهدافنا , فبذلك تُحَل نهائياً مقولة كانط بشأن (الشيء في ذاته) الذي لا يمكن إدراكه".
ثمّ يضرب انجلس مثلاً من الكيمياء.
"المواد الكيميائية المتكونة في الأجسام النباتية والحيوانية ظلّت مثل هذه (الأشياء في ذاتها) إلى أنْ أخذت الكيمياء العضوية بتحضيرها (في المختبر) الواحدة بعد الأخرى , وبذلك أصبح (الشيء في ذاته) (شيئاً من أجلنا)".
وهذا دليل عملي ملموس لا يمكن إنكاره أو رفضه , على تحوّل الشيء في ذاته إلى شيء من أجلنا.
وبذلك جاءت إجابة انجلس الجذرية على سؤال فلسفي أساسي , من خارج دائرة الفلسفة , من واقع التجربة والتطبيق.
استنتاجات أساسية وضعها لينين :
1- "توجد الأشياء بصورة مستقلة عن وعينا , بصورة مستقلة عن إحساسنا , خارجاً عنّا"
فكوننا عرفنا شيئاً اليوم , لا يعني أنّ الشيء لم يكن موجوداً في الأمس , بل يعني أننا لم نكن نعرفه بالأمس.
2- "لا يوجد ولا يمكن أن يوجد قطعاً أي فرق مبدئي بين الظاهرة والشيء في ذاته" .
3- "الفرق يقوم ببساطة , بين ما صار معروفاً , وبين ما لم تتم معرفته بعد"
4- أي كلام خلاف هذا هو "كلام فارغ , شعوذة , تلفيق".
5- "في نظرية المعرفة , كما في جميع ميادين العلم الأخرى , تجب المحاكمة بطريقة ديالكتيكية , وهذا يعني أنّه يجب علينا لا أن نفترض معرفتنا ناجزة وثابتة ولا تتغيّر , بل أن نحلل ونبحث بأي طريقة تظهر المعرفة من اللامعرفة , بأي طريقة تصبح المعرفة غير الكاملة غير الدقيقة , معرفة أكمل وأدق".
6- وبديهي وجود ملايين ملايين الأمثلة التي تفيد بتطوّر المعرفة البشرية , وبصيرورة اللامعرفة نحو المعرفة , وبتقديم إجابات لأسئلة لم تكن تملك إجاباتها , وبتحوّل (الشيء في ذاته) غير المدرك والمجهول , إلى (شيء من أجلنا) معروف ويكمن تسخيره لأغراضنا , بحيث أننا وبكل ثقة نستطيع أن نجزم أنّ معرفة كل شيء {ممكنة}.
وبنفس القياس , ندرس مقولة (الضرورة العمياء : الضرورة في ذاتها) وإدراك الضرورة .
فكوننا لا نعرف بدقة القوانين التي تحكم حركة الطقس وتقلباته مثلاً , أو حركة فقاعات الصابون في حوض سباحة , لا يعني أنّ تلك الحركات تخضع للفوضى والصدفة ولا تخضع للضرورة والقانون , بل يعني بالضبط أننا لم ندرك بعد تلك الضرورة , فالصدفة ليست إلّا تلك الضرورة التي مازالت عمياء.