{كل ما هو معقول واقعي , كل ما هو واقعي معقول}


علي عامر
2016 / 10 / 13 - 00:59     

يقول انجلس عن موضوعة هيجل الشهيرة:
{كل ما هو واقع هو معقول , وكل ما هو معقول هو واقع}
"هذه الموضوعة كانت , في الظاهر تبريراً لكل ما هو موجود , كانت بَرَكَة فلسفيّة للاستبداد , والدولة البوليسيّة , والقضاء الملكي , والرقابة . هكذّا فكّر فريدريك ولهلم الثالث , هكذا فكّر رعاياه ."
يشير إنجلس هنا , إلى الفهم الرجعي الميكانيكي المحافظ لتلك المقولة الشهيرة عند هيجل , فكل ما هو واقع هو معقول , تعني أنّ العقل يقبل الواقع كما هو , ثمّ كل ما هو معقول هو واقع , تعني أنّ الأفكار المعقولة ستصبح حتماً واقعاً , وبما أنّ كل ما هو واقع هو معقول , بكل ما في هذا الواقع من ظلم أو استعباد , فالمعقول إذنْ يحوي بداخله الظلم والاستعباد , وهذا المعقول سيصير واقعاً من جديد وبطريقة حتمية , حسب الشطر الثاني من العبارة , مما يضعنا في حلقة مفرغة من الواقع وإعادة انتاج نفس الواقع.
يرفض إنجلس هذا الفهم الرجعي الآلي لعبارة خرجت عن فيلسوف جدليّ بامتياز , بل عن فيلسوف الجدل هيجل . ثم يحاول أنْ يعرض فهمه الثوري لعبارة الفيلسوف الألماني العظيم.
فكيف فهم انجلس العبارة ؟
1- يقول: " لكن كل ما هو موجود , ليس على الإطلاق – عند هيجل – واقعاً من كل بد (واقعاً بالضرورة) . فإنّ ما يميّز الواقع لا ينطبق عنده إلّا على ما هو ضروري في الوقت نفسه. "الواقع في تطوّره يتكشف ضرورة".... ولكن ما هو ضروري يبدو أخيراً معقولاً " .
2- يقول : " أنّ الدولة البروسيّة القائمة في ذلك الوقت لا تعني بالتالي إلّا ما يلي : أنّ هذه الدولة معقولة وتناسب العقل , بقدر ما هي ضرورية . وإذا كانت في نظرنا فاسدة , ولكنّها تستمر في الوجود , بالرغم من فسادها , ففساد الحكومة يجد تبريراً وتفسيراً في فساد الرعايا . "
3- يقول : "فإنّ كل شيء كان واقعاً فيما مضى , يصبح في مجرى التطوّر غير واقع , ويفقد ضرورته وحقّه في الوجود , و صفته المعقولة , ومحلّ الواقع المحتضر يحل واقع جديد صالح للحياة".
4- يقول : " وهكذا , تتحوّل موضوعة هيجل هذه , بفضل الديالكتيك الهيجلي نفسه , إلى نقيضها , فكل ما هو واقع في مجال التاريخ الانساني يغدو مع مرور الزمن منافياً للعقل ..."
5- يقول: "وكل ما هو معقول في رؤوس الناس , محكوم عليه بأنْ يغدو واقعاً مهما كان مناقضاً للواقع المتصوّر القائم ... {فكل ما هو قائم يستحق الزوال}".
ولكن هذه العبارة كانت قد وردت عند هيجل بطريقة مقلوبة.
عبارة هيجل : "المعقول واقعي , والواقعي معقول".
ما هي حقيقة العبارة عند هيجل؟
بالنسبة للشطر الأوّل: "كل ما هو معقول واقعي".
تعني : "أنّ ما هو عقلي يتحقق , لأنّ العقل نشط".
في تأكيد على الإمكانيّة الحتميّة لتغيير الواقع , في حال امتلاك نظرية معقولة حقيقية.
بالنسبة للشطر الثاني: "كل ما هو واقعي معقول"
فهي تؤكد على امكانيّة فهم الواقع الحتميّة , فالواقع مفهوم , أي قابل للإدراك والانعكاس في العقل , ولكن هذا الانعكاس ليس انعكاساً سلبياً خاملاً , ولكنه انعكاس حيوي نشط وفعّال , فلأنّ الواقع نشط , فالعقل نشط , فالعقل لا يستقبل الواقع كما هو , بل يعالجه فكرياً , فيقبل من الواقع ما هو عقلاني وضروري ويحقق ماهيّة العقل وهي الحريّة , ويرفض منه ما هو غير عقلاني , أو عارض , هذه العمليّة الجدليّة التي تحدث في العقل , لم يخترعها العقل بنفسه , و لم ينتجها العقل بملئ إرادته , بل حتّى هذه العملية نفسها هي انعكاس لعمليات الواقع وطبيعته الجدلية في وعي الانسان , فوعي الانسان تعلّم هذه العملية النقديّة التطوريّة من الواقع نفسه , الذي يحكمه قانون الجدل والتطوّر . فالواقع لا ينعكس بظاهره فقط في وعي الانسان , بل ومع هذا الظاهر ينعكس أيضاً كل الحركة الدفينة تحت الظاهر بقوانينها ونظامها.
وبكلمات صريحة , فعبارة هيجل الشهيرة تفيد بالإمكانية الحتمية لتحقق النظرية الثورية العلمية الحقيقية , بحتميّة تغيير الواقع , ومن ثم بحتميّة إدراك هذا الواقع إدراكاً جدلياً نشطاً , بحيث يستخلص من الحاضر عناصر المستقبل , ويزيح عنها عبئ الحاضر المحتضر المتعفّن بدفنه , إزاحة ثورية , فالواقع نفسه نتاجاً للعقل نتاجاً لما هو معقول. كما تؤكد العبارة على حقيقة الواقع والفكر الجدليتان , فكلاهما يحكمهمها مبدأ الحركة و التطوّر , من الناحية الداخلية , كما يحكمهما هذا المبدأ في علاقتهمها ببعض.
إذن فانجلس يتفق جوهرياً مع هيجل في هذه المقولة , ولكنّه يختلف معه في نقطة الانطلاق , فبينما ينطلق هيجل من الوعي إلى الواقع ثم العكس , ينطلق إنجلس من الواقع إلى الوعي ثمّ العكس.