خاطرة في مفهوم السلطة


محمد فيصل يغان
2016 / 10 / 8 - 21:33     

خاطرة في مفهوم السلطة
حسب ماركس "ليس وعى البشر هو ما يحدِّد وجودهم، بل، على العكس، يُحدِّد وجودُهم الاجتماعى وعيَهم. وعند مرحلة بعينها من التطور، تدخل قوى الإنتاج المادية فى المجتمع فى صراع مع علاقات الإنتاج القائمة، أو- ما ليس سوى تعبير قانونى عن نفس الشيء- مع علاقات الملكية التى كانت تعمل ضمنها من قبل. ومن أشكال تطوُّر القوى المنتجة هذه تتحوَّل هذه العلاقات إلى قيود عليه. عندئذ تأتى فترة الثورة الاجتماعية. ومع تغيُّر الأساس الاقتصادى تتحول البنية الفوقية الهائلة بكاملها بسرعة إلى هذا الحد أو ذاك". نفهم هذه المقولة كتعبير عن جدلية الضرورة و الإرادة البشرية، قوانين تطور المجتمعات من جهة و الثورة كتعبير عن الإرادة الحرة من جهة أخرى.
كما كتب ماركس "البشر يصنعون تاريخهم الخاص، غير أنهم لا يصنعونه كما يرغبون، إنهم لا يصنعونه تحت ظروف اختاروها بأنفسهم، بل تحت ظروف خاصة موجودة، ومعطاة، مباشرة ومنقولة من الماضى" و هو دلالة على نفس العلاقة الجدلية.
علاقات الانتاج و توزيع العمل و الملكية كلها اشكال مؤسسية للسلطة ظهرت عند درجة معينة من التطور تطلبت حضور السلطة الدائم يقول ماركس: (يدخل البشر فى سياق الإنتاج الاجتماعى الذى يقومون به فى علاقات محدَّدة مستقلة عن إرادتهم) أي أنها سلطة تمارس عليهم كأفراد من الخارج. السلطة هي الاطار الاشمل لدراسة حركة المجتمع، كل اوجه نشاط البشر هي تمثيل لهذه السلطة بشكل أو آخر.
أي أن الاجتماع البشري، أي دخول الفرد في علاقة مع أفراد آخرين يفقده بدرجة أو أخرى فردانيته و استقلاله و حريته. يصبح الفرد ليس من وجهة نظر الآخرين فحسب، بل من وجهة نظره هو لذاته جزءا من كل، أي أن هويته تتحدد بموضعه في الكل و كما قلنا سابقا لا معنى للهوية بدون حضور للآخرين، فاذا كنت تملك هوية فأنت إذن واقع تحت سلطة. بالهوية انت معرف و مصنف ومحدد، و انت تنصاع تلقائيا و تتصرف طبقا لهذه الهوية، أي طبقا لرغبة السلطة المفروضة عليك. بدخول الفرد في هذه العلاقة السلطوية مع الآخرين كمتطلب للبقاء أولا و متطلب لتجاوز الحالة الحيوانية إلى حالة الانسانية ثانيا، (كل ما يميز الانسان من قدرات الوعي هي نتاج الكل و يمتلكها فقط حين يكون جزءا من هذا الكل: فكونه جزء من كل يكسبه بعدا جديدا يتجاوز ذاته كفرد، يكسبه هوية انسانية). كما ورد في الملاحظة المقتبسة من ماركس أعلاه، فإن هذه العلاقات مستقلة عن إرادة الأفراد و مفروضة من الخارج، من الكل بصفته ظاهرة طبيعية لها قوانينها المقرة بحتمية، بمعنى أن لا ظاهرة تنشأ و تستمر إن لم تنشأ معها و بنفس اللحظة قوانينها الضرورية لظهورها و الكافية لبقائها و تطورها. أما القوانين الداخلية الحاكمة لعلاقة الأجزاء ببعضها و علاقة الجزء بالكل، فهي محكومة بعلاقتها بالقوانين الخارجية التي تحكم علاقة الكل كوحدة وجود بالمحيط الخارجي.
إن التجليات المادية لهذه القوانين الحاكمة لظاهرة الجماعة البشرية هي ما نعنيه بمصطلح سلطة، و بالأخص الداخلية منها عند الحديث عن السلطة السياسية و التي من كونها مستقلة عن إرادة الأفراد، تنبع صفة القدسية التي نصبغها على السلطة و على شرعيتها النابعة من مصدر مفارق لا قدرة لنا على مجابهة (رغباته) و (إرادته)، و هكذا يكون الانصياع للسلطة هو (الحق و الحقيقة) و هو (الخير) و معارضة السلطة تصبح (غيا و تزويرا) و هي (الشر)، أليس معنى كلمة شيطان في اللغات السامية القديمة هو المعارض؟ ثم ألا تتقاطع في اللغة معاني السلطة و المرجعية و الشرعية؟
من هنا أيضا أهمية الشرعية للجهة الممارسة للسلطة، فالسلطات قد تمارس غصبا و على أساس شرعيات هشة سرعان ما تنفضح فتنهار الجهة الممارسة للسلطة و تندثر. هذا بالأخص في حالة ممارسة السلطة بناء على شرعية يدعي امتلاكها الأفراد ذوي الهيمنة بصفتهم الفردية، أ و المؤسسات التي لا تملك بالواقع جذورا ممتدة في مصدر الشرعية، أي الأصل المقدس أو تجلياته الدينية.
إذن السلطة هي مصدر الهوية، هي التي تمنح أو تصادر هذه الهوية من الأفراد. و الهوية السلطوية هذه هي الهوية الفعلية القائمة في الواقع، و السلطة تمارس و في كل الأحوال من قبل الجميع، و كما يقول ميشال فوكو ( السلطة في كل مكان و من كل اتجاه). فالسلطة حالة قائمة ما بين الأب و الإبن، الزوج و زوجه، الرفيق و رفيقه، الجار و جاره، حتى في الغياب المادي للآخر فإن سلطته تبقى بشكل ما قائمة، فهي إرادة هذا الغائب و هي جزء من إرادة الجماعة بالتالي فهي مشرعة من قبل الجماعة و من قبل الطبيعة المادية و الاجتماعية، و يمكن للغياب المادي لصاحب السلطة/الإرادة أن يمنح إرادته صفة القدسية و المرجعية. أي أن السلطة هي أحد أشكال وجود الجماعة الممتد زمانا و مكانا، هي الشكل الموجي المرافق للشكل الجسيمي إن شئنا الاستعارة من الفيزياء. اما الهوية على المستوى الفردي فليست سوى تفويض السلطة من الجماعة للفرد، تفويض تبقى فيه ملكية رقبة السلطة بيد الجماعة تسترجعها حين تشاء و ملكية منفعة السلطة بيد الفرد يمارسها بما فيه منفعة الكل و تطبيقا لإرادة الأصل المقدس فلا فصام و لا اغتراب، بل ازدواجية ديناميكية متناسقة مع الطبيعة و قوانينها. و الأشكال المادية لممارسة السلطة هذه هي العناصر و الرموز الثقافية الخارجية المشتركة بين الإفراد لاشتراكهم في مصدر شرعية هويتهم السلطوية، فهم بالنهاية من خلال الممارسة ينفذون إرادة واحدة، إرادة المصدر المقدس. هذا التفويض للسلطة بطبيعتها المزدوجة هو أكثر ما يكون وضوحا في حالة ملكية وسائل الانتاج و الثروة (ملكية رقبة و ملكية منفعة) كما أوضحنا في مقال سابق، و أيضا في اللغة و ممارستها، فمن المستحيل أن يدعي فرد ما امتلاك اللغة بل فقط بمارسها ضمن محددات الجماعة أي بنحوها و قواعدها الموضوعة جمعيا. إن الهوية و قد أعجزت بتعدد وجوهها و تجلياتها الفلاسفة و علماء النفس و الاجتماع عن صياغة مفهوم جامع و محدد لها، فقد اقتصرت محاولاتهم لفهمه و دراستها على تقديم نماذج مثالية مجتزاه لأغراض تبريرية أيديولوجية أو غايات بيداغوجية. فالفهم الأقرب للصحة للهوية لا يتحقق دون استقصاء طبيعتها السلطوية الناتجة عن تقاطعات الممارسات السلطوية داخل المجتمع عموديا و أفقيا في ذوات الأفراد. و مستويات التقاطع هذه بتعددها تنعكس بتعدد شكلي للهوية من فردية الى ثقافية الى سياسية إلخ.
من هذا المنطلق، تبدو الهوية على أنها تحجيم و اختزال للفرد من قبل السلطة. بمعنى أن السلطة قد فرضت شكلا وجوديا واحدا على الفرد رغم استعداده أنطولوجيا لتقمص أيا من سلسلة لا متناهية من الهويات الممكنة. إلا أن هذه النظرة الى الهوية و كأنها نقيض لحرية الفرد و اجتزاء لإمكاناته الانسانية ما كان لها أن تُطرح في مجتمع سليم. ففي الحالة المثالية و حين تكون السلطة شرعية تماما، أي نابعة من الأصل المقدس، و الانصياع لها طوعي من قبل الأفراد بلا حاجة لقمع وأو إكراه، يكون الفرد في تناغم مع الجماعة و ذاته في تناغم مع هويته. في هذه الحالة المثالية لا يُطرح سؤال الهوية، فهي معرفة أيجابا، من الداخل كما من الخارج، و ليس هناك آخر ليطرح تعريفا سالبا لهذه الهوية من الخارج. أما في ظل مجتمع اغتصبت فيه السلطة و زوٌرت فيه إرادة الجماعة و تم تنميط الأفراد في مجموعات و هويات فرعية (طبقة، طائفة، جنس) يظهر الآخر و يغيب التناغم مع الجماعة و يحل بدلا منه القمع و يغيب تناغم الذات (الهوية من الداخل) مع الهوية النمط المفروضة من الخارج و يحل بدلا منه الإكراه و تنشأ أزمة الهوية على المستوى الفردي و الجماعي. و كما أسلفنا، فإن الجماعة ليست مصدرا للسلطة و الهوية فقط، بل أيضا هي مصدر الوعي، والوعي هو القدرة على السؤال و من ثم ما بين السؤال و الملاحظة يستخرج الوعي نموذجا نظريا يصبح بذاته موضوعا للملاحظة و التساؤل. حين يقع التناقض في الهوية، يلاحظه الفرد بوعيه و يطرح السؤال ويبدأ رحلته بالبحث عن حل، عن مشاعة مقدسة جديدة تكون مصدرا لشرعية السلطة و منح الهوية في مواجهة السلطة الممارسة عموديا من فوق، من الدولة (. هكذا يعاد بناء الأساطير و السرديات الكبرى المؤسسة للجماعة أو الجماعات الفرعية و ابتداع تراث أسطوري لا تاريخي، فتندلع الصراعات بدرجات مختلفة من الحدة تتناسب و درجة الانهيار الحاصل في المجتمع) و عن تعزيز لفردانيته في مواجهة السلطة الممارسة عليه أفقيا، من المؤسسات المجتمعية المدنية.
إذن السلطة ضرورة و لا بد منها لبقاء و تطور المجتمع على أن تكون شرعية، و في الحالة المثالية للسلطة كاملة الشرعية لا حاجة للقدرة على ممارسة القوة، فالسلطة حسب الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان هي "حق الحكم وفرض الأوامر من جانب الحاكم، وواجب الطاعة والخضوع له من جانب المحكومين" أي لا حاجة لإكراه. و كلما ابتعدنا عن الحالة المثالية للسلطة (الشرعية) ظهرت الحاجة لممارسة القوة و الإكراه باضطراد لنصرة إرادة على أخرى. في البدء، و في مرحلة الجماعة المتجانسة و الأقرب إلى الأصل المقدس، تكون ممارسة السلطة أفقية، ولا تتمظهر عموديا إلا بأشكال مؤقتة. أما في حالة الجماعة المتراتبة عموديا (طبقات) و المنقسمة عموديا (طوائف) تمارس في كل الاتجاهات أفقيا عبر ما يمكن تسميته المؤسسات المدنية، و عموديا عبر الدولة و مؤسساتها التي أصبحت الآن دائمة الحضور المادي.
إذن سؤال الهوية أو أزمة الهوية لا تطرح إلا حين تنحرف السلطة عن شرعيتها الطبيعية، و تمارس القوة لفرض التنميط على الأفراد، أي إعادة تشكيل هوياتهم بما يتناسب مع إعادة توزيع حقوق سلطوية مجتزاه لصالح الفئة المهيمنة و الغاصبة للشرعية. إن السلطة في المجتمع المثالي لا تفرض التنميط، بل تتيح التعدد الطبيعي، أي ما يتلاءم مع طبيعة الجماعة كظاهرة طبيعية تحكمها قوانين طبيعية. و هذه الملاحظة تطرح بالضرورة سؤال الحرية، و فيما إذا كانت الحرية تشتمل على حرية خرق قوانين الطبيعة و بالتالي تعريض الظاهرة الطبيعية و وجودها للخطر. و الجواب بإيجاز هو أن هذا السؤال لا يمكن له أن يطرح في المجتمع المثالي و لا أن يخطر على بال أفراد هذا المجتمع، هذا السؤال تماما كسؤال الهوية، لا يطرح الا في حالة المجتمع المُأزم و الذي اغتصبت فيه السلطة من شرعيتها الطبيعية.
عودة الى مسألة الشرعية و السلطة، و التي لم تكن ظاهرة كمشكلة في زمن المشاعة، فالمشاعة كانت فعلا مصدر الشرعية و السلطة على المستوى المؤسسي كانت تتمظهر بشكل مادي كمؤسسة مؤقتا فقط و لحين انجاز مهمة تقررها المشاعة ثم تعود و تذوب في جسد المشاعة بعد انتهاء المهمة، و تبقى السلطة المفوضة على المستوى الفردي و ممارستها اليومية مصدر حركة الجماعة. و هذه هي الحالة التي تخص المجتمع الشيوعي المثالي و الذي يبشر به الشيوعيون، أي مجتمع بلا دولة بصفتها مؤسسة سلطوية دائمة. و على هذا المحور تدور كل أدبيات فكر الثورة عموما و الشيوعية خاصة، فهي تنطلق من حقيقة أن الشرعية قد سلخت عن مصدرها و مالكها الطبيعي (الجماعة) نتيجة ظهور تقسيم العمل و الملكية الخاصة و ما يتبعهما من صراع داخلي (للهيمنة) و الاستحواذ على كل الموارد بما فيها السلطة، هكذا نرى عبر التاريخ أن السلطة انتقلت من كونها حق طبيعي للجماعة البشرية ينصاع لها الجميع طوعا، الى حق حصري لفئة أو طبقة تفرضها على الجميع بالقوة و قسرا. أما الهيمنة التي عزلناها بين قوسين فهي تماما ما يقصده انطونيو غرامشي، أي كسب اعتراف طبقات المجتمع المستغَلة و المضطهَدة (مصدر الشرعية كونها المنتجة لوسائل الحياة) للطبقة العاملة بدورها القيادي و التمثيلي و تفويضها في ممارسة الحقوق التي تمليها هذه الشرعية. أي أن الخطوة الأولى هي فضح لا شرعية الدولة القائمة و المستفيدين منها. أما الخطوة الثانية فهي السيطرة على مصادر القوة و ممارستها ضد الطبقات المعارضة في الفترة الانتقالية أو ما يسمى بدكتاتورية البروليتاريا إلى حين تثبيت مجتمع لا طبقي تختفي فيه الدولة كشكل مادي دائم لتمظهر السلطة و لا تعود للظهور الا تحت أشكال مؤقتة مرتبطة بمهمة ما. هذه هي الخطوط العامة لاستراتيجية السعي للسلطة أيا كانت الجهة الساعية، سواء أحزاب دينية أو قومية، نزع الشرعية من الدولة القائمة و من ثم الاستحواذ على السلطة بتفويض من مصدر الشرعية.
يمكن اختزال التعريفات المتداولة للدولة عموما بما يلي: الدولة هي كيان ذو مؤسسات قادرة على فرض سيادة هذا الكيان على شعب محدد في منطقة جغرافية محددة. هذه التعريفات لا تشير ولو بالتلميح الى السلطة و شرعيتها كما بيناها أعلاه، كناتج للعلاقات الطبيعية التي تحكم الجماعة البشرية من الداخل و من الخارج، اي القوانين التي بناء عليها توجد الجماعة و تستمر كظاهرة طبيعية. هذه التعريفات تتعامى عن السلطة و لا ترى الا جانبها الغير أصيل، جانبها الذي يطرأ حين تستلب السلطة و يغيب مصدرها، أي القوة و أدوات ممارستها و موضوعها و حيزها الجغرافي. و هكذا تبدو الدولة ككيان لا تاريخي أسطوري و بالنتيجة مقدس (كل مقدس أسطورة و لا تاريخي) تحل محل الجماعة المقدسة أو الجد الأكبر أو الإله كمصدر للشرعية و صاحبة للإرادة الجمعية، و هي أخيرا غاية بذاتها كما ذهب أرسطو و من بعده هيجل. هذه التعريفات تتمحور حول الطابع القسري و القمعي للدولة بعد أن أصبحت أمرا واقعا، و تجنب كلمة سلطة المتضمنة بعدا أخلاقيا أو تبريرا أخلاقيا، و استبدالها بكلمة سيادة الدالة على حق يفرضه قانون (وضعي إن جاز التعبير) و القدرة على ممارسة القوة لفرض (إرادة) صاحب هذا الحق.
و كلمة إرادة تعيدنا للبداية، لمصدر السلطة و طبيعتها. فسلطة الجماعة هي ارادتها الجمعية و التي تجد الخضوع طوعا من الأفراد المنتمين لها، و تفويض السلطة (عموديا) هو في الحقيقة تفويض (لتنفيذ) الإرادة و هو تفويض كما أوضحنا مؤقت بزمان محدد لإنجاز مهمة محددة و بمكان معين. أي أن (جهازا ما للدولة) يتحقق ماديا في الواقع و من ثم يتلاشى بعد انجاز المهمة. هذا الجهاز يمتلك إرادة جزئية، الجزء الذي فوٌض له من الجماعة لتنفيذ إرادتها المقررة، و قوة فرض هذه الإرادة نابع من التفويض نفسه لا من جهاز قمعي. الأصل أن يفوض تنفيذ الإرادة المقررة لا الإرادة نفسها.
مع تطور الجماعة البشرية و تعقد طبيعة الحياة و متطلباتها، بدأت تظهر الحاجة الى حضور دائم لبعض أشكال السلطة ماديا و في الواقع. فمع ظهور و ترسخ الملكية الخاصة مثلا كان لا بد للمجتمع أن يحل الصراع على الملكيات و أن يسيطر عليه أي أن يتم سلب السلطة كما تم سلب الخيرات المادية، إن قوانين الطبيعة تنص على أن مالك القدرة فقط يستطيع أن يمارس القوة بما يتناسب و قدرته، هكذا بدأ الاستقطاب داخل المجتمع في طبقات، أغناها ماديا أقدرها سلطويا، فكان أن سلبت إرادة الأغلبية لصالح أقلية تحت مسميات و مبررات و أيديولوجيات معروفة عبر التاريخ، من تزوير الإرادة الإلهية بتواطؤ المؤسسة الدينية إلى تزوير الإرادة الشعبية عبر الانتخابات و الصناديق بتواطؤ رأس المال.
من اللحظة التي لا تعود فيها السلطة قائمة على الإرادة بشقيها الايجابي (ما تريده الجماعة) و السلبي (الانصياع الطوعي للأفراد) أي في اللحظة التي تغيب فيها السلطة الشرعية و تستبدل بالشكل المادي الدائم للسلطة و المتمثل بالدولة، لا بد للأخيرة أن تنبني و ترتبط عضويا بالقمع و العنف و استخدام القوة المتواصل. من لا يبحث عميقا في أصل السلطة و أصل الدولة، سيرى أن هذا الارتباط العضوي ما بين الدولة و العنف (طبيعيا) و بالتالي (شرعيا) كون هذه الدولة القمعية قد تم شرعنتها أيديولوجيا تحت مقولات من مثل (هدف الدولة تحقيق سعادة الأفراد) و (الدولة قائمة على عقد اجتماعي يعقده الأفراد بحرية) و أن (الدولة هي غاية سامية بذاتها). و لا يغير من هذه الحقيقة شيئا أن نقول مع بول ريكور أن الدولة تمتلك أدوات ناعمة عدا أدوات القمع مثل الاعلام و التربية و التعليم، فالإعلام الموجه و الخاضع لأصحاب الثروة أو دولتهم ، و التعليم الذي يزيف الحقائق و يدجن العقول هو أيضا عنف و قمع.