مُتْ فوراً


محمد عبد القادر الفار
2016 / 10 / 4 - 11:52     

لطالما تحاورنا عن تلك الشجرة التي تسقط في غابة منعزلة حيث لا يوجد كائن يمكن أن يسمعها، هل تصدر صوتاً؟ كان سؤال من ذلك النوع حريّاً بأن يفتح كل أنواع الحوارات حول طبيعة الحقيقة الموضوعية واستقلالها عن المراقب، وما يقود إليه ذلك من تصورات فلسفية وتفنيدات علمية وجدالات كوانتمية. هل يمكن حدوث شيء لا يشهده أحد؟ لقد كان دافعنا العميق وراء الاستغراق في تلك الحوارات هو الرغبة في التحرر. التحرر من الأحداث الصماء التي تحدث ميكانيكياً، رغم أنفنا، ورغم عقلنا، ورغم قلبنا، والتوق إلى إعلاء قيمة وعينا، كون الوعي المجرد يبدو لنا مستقلاً عن الزمان والمكان. والزمان والمكان قيدان. فالسجين يقهره المكان، والشيخ الكبير يقهره الزمان. ولكن بالانسحاب إلى الوعي المجرد، يدرك السجين حريته من المكان والشيخ حريته من الزمان.

من كل اللحظات الآن ...

من كل الأماكن هنا ..

من كل الناس .. أنا

أيعقل أنني طوال تلك السنين انا وسأبقى أنا .... أليس هذا حبسا...

أنغمس في الانا ... وأغفل عنها ...

وفي هذه اللحظة.... يبدو غريبا لي كيف أن كل شيء .. كل ما في الوجود بالنسبة ""لي؟!" هو اطلالة دماغ شخص واحد ...


هذه الأنا، قيدها الحقيقي هو ذاكرة الآخرين. إن معضلة الأنا هو أن قيمتها تبدأ مع وجود آخرين يدركونها، ولكن هؤلاء الآخرين في نفس الوقت هم أكبر قيد على تلك الأنا، بشهادتهم على هفواتها، وضعفها، وهشاشتها، وهزائمها المتكررة أمام الزمان والمكان وقوانين الكون الفيزيايئية والكيميائية والبيولوجية. وأخطاؤنا تؤلمنا لا لأثرها علينا فقط أو لأثرها على الآخرين، ولكن لأنها تفتح باب التعرض للأحكام من الآخرين. ومهما كنّا أقوياء، فإننا نفضل أن نتجنب أحكام الآخرين. وتلك الأحكام المتغيرة لا يصلّبها شيء مثل الذاكرة، خاصة لو تراكمت حوادث متشابهة، أو هفوات متتابعة. ولكن، حتى لو كان حدثاً منفردا، فكيف يُمحى ما لم تكن لنا سلطة على ذاكرة الآخرين، على الأقل ذاكرتهم التي تخصنا، ذكرياتهم بخصوصنا، والتي هي منبع لأحكامهم علينا.

فكّر بهذا ..."إن القلق على الانطباعات التي نتركها هو تقديس في غير محله للذاكرة، وهو يعيق خوض التجارب الجديدة، ويحجب رؤية الأبواب المفتوحة. التجارب المتجددة وليست الانطباعات ولا الذكريات هي ما يهم"...

ماذا كان ذلك؟ لقد تعوّدنا، أمام ذلك العجز عن التحكم في ذاكرة الآخر، على اللامبالاة. ونحن نصل في اللامبالاة حداً يجعلنا نتكيّف مع أحقر تصوّرات يشكلها الآخرون بخصوصنا، حتى لو احتفظوا بها مدى الدهر أو خلّدوها صوتاً وصورة وتسجيلا وكتابة. ورغبتنا في التحرر من الرغبة الذليلة في الصورة الناصعة، يجعلنا في المحصلة نكتسب قوة هائلة. فنحن نفعل كل شيء نريده بشكل مستقل تماما عن انفعالات الآخرين بما نفعله، ونعتمد في فرض ما نريده على قوتنا، لا على احترامهم أو تقبلهم. بل وبقوتنا نعاود نحن فرض معايير جديدة، تصبح ذكرياتهم الرديئة عنا وفقا إليها إطراء لنا.

ولكن المشكلة لا تنتهي هنا، فمن حيث شعرنا أننا تحررنا، اكتشفنا أننا لم نراوح نفس المكان، فنحن لا زلنا مهووسين بالآخرين. إن كل ذلك الفعل الهائل الناجم عن انتهاج اللامبالاة، هو استعراض قوة. استعراض أمام من؟ أمام الآخرين؟ لا زلنا مهووسين بهم. فنحن نستعرض لا مبالاتنا بهم. نستعرضها أمامهم، وهذا تناقض يفضي إلى عبثية تصديقنا ولو للحظة بأننا بالفعل تحررنا منهم ومن ذاكرتهم، ومن تصوراتهم.

فهل يكفي موت الآخرين كلهم، وفناء كل ذكرياتهم عنا، ليخلّصنا من عذابات تلك الأفعال التي حدثت أو الأقوال التي قيلت، ولم يعد بالإمكان العودة إليها ومحوها؟

حتى موت الآخرين وفناء ذاكرتهم قد لا يكفينا لنرتاح، وقد أفزعتني جملة واجهني بها أحد الذين تركت لديهم أسوأ الذكريات. قال لي: "لا شيء يُمحى في ذاكرة الكون". وهو بذلك يبشرني بأن ما قمت به لن يُمحى حتى بعد موته هو، فما فعلتُه مُثبت في مكان ما، حتى لو نسيه كل من شهده. فالكون في حد ذاته يشهده. والمختلف هنا، هو أن الكون محايد إزاء ذلك الفعل، فهو ليس كالآخرين، أي أنه لا يصدر عليّ الأحكام، ولكنه يخزّن ما حدث، فإذا جاء وعي جديد، وعي غير محايد، له انحيازاته وأحكامه، أمكنه استرجاع أفعالي من ذاكرة الكون المحايدة، وعندها سيحاكمني من جديد. حتى بعد أن أنسى أنا ما فعلته. فالكون المحايد يحتفظ –بحياد- بكل شيء، فيتيح تعريضه للأحكام مرة أخرى، من قبل من يحكمون، وينفعلون، ويشهتون، وينفرون. يتيح أن يجعلنا مرة آخرى عرضة للرفض، حتى لو لم نعرض أنفسنا على أمل القبول من جديد، ويجعلنا عرضة للنفور، حتى لو زهدنا في أن نُشتهى، وانسحبنا إلى غياهب الغياهب. لن ينسى أحد نقائصنا، سواء كانت نقائص اقترفناها، أو نقائص فرضت علينا.

إن تحررنا نحن، سبيله فقط هو أن ننسى نحن. ونسياننا نحن يكون بفناء ذاكرتنا نحن. ونتنازل أمام قهر ذاكرة الكون المحايدة، وأحكام الآخرين التي لا مناص منها. نموت فننسى من كنا، ونترك لهم أن يحكموا على من كنا إلى الأبد. وبعد أن ننسى، ونظن أن الذي كنّاه ما هو إلا آخر. سنحكم نحن أنفسنا، من موقع محايد متجرد، على ما اقترفناه، وما اقترفته قوانين الوجود في حقنا، على كل نقائصنا، وسننفر من ذلك الآخر الممل أو الضعيف، سنرفض آخراً هو في الحقيقة نحن، هو ما كنّاه. ويا لها من حرية.

أنت الآن.. عالق في ذاكرتك ... كل هواجسك، كلها بلا استثناء، ناتجة عن سيطرة ذاكرتك عليك ...
انس تتحرر ... مُتْ فوراً....



العقبة - 4 اكتوبر 2016