أزمة الفكر القوميّ


ييلماز جاويد
2016 / 9 / 26 - 00:13     

تتعمّق أزمة الفكر القومي بإشتداد الصراع بين قيادات الأحزاب والحركات السياسية التي تدّعي تبنّيها أهداف القومية المعيّنة وتحقيق غاياتها . لا فرق في هذا الإنحدار الفكري سواء عند الحركات القومية العربية أو الكردية أو أية ملّة أخرى .
في إطار القومية العربية ، تصاعد الفكر القومي بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ، التي فسحت فرصة للحريّات في البلدان العربية ، فتأسست على إثرها أحزابٌ وحركات سياسية ، سواء في إطار البلد الواحد أو عابر للحدود كحزب البعث العربي الإشتراكي ، وزادت وتيرة التصاعد هذه بعد الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالنظام الملكي في مصر ، وتبنّي قيادة جمال عبد الناصر للفكر القومي والدعوة إلى الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج . ولكن ، وعلى الرغم من تصاعد الفكر القومي الظاهري ، وكما كانت تظهره وسائل الإعلام ، فإن الفكر القومي العربي بدأ بالإنحدار ، منذئذٍ ، بسبب سياسات جمال عبد الناصر المضادّة للديمقراطية في الداخل ، ومحاولاته للتوسع الجغرافي ، بإسم الوحدة العربية ، ودعمه للإحزاب والحركات السياسية الداعية للفكر القومي ، ودفعها للعمل على دمج بلدانها بمصر. لقد كانت لعملية إرغام سورية للوحدة مع مصر نتائج سلبية واضحة على صعيد الشعب السوري . وكذلك ولّد دعم جمال عبد الناصر للأحزاب العراقية للعمل على قلب نظام الحكم الجمهوري من أوائل أيام قيام ثورة الرابع عشر من تموز ، وإنتهاءً بتزويد الإنقلابيين ، من جماعة عبد الوهاب الشوّف في الموصل ، بالأسلحة والإذاعة ، ردة فعل عنيفة ، بحيث أصبحت عبارة " بعثي " أو " قومي " شتيمة في الشارع العراقي . وقد كان للممارسات غير الديمقراطية للأحزاب والحركات السياسية في الحكم في جميع البلدان العربية ، التأثير الكبير على إبتعاد أبناء الشعب عن الأنظمة ، بالإضافة إلى تصاعد صراع المزايدات السياسية بين حُكّامها ، والتي بلغت قمتها عندما أقدم صدام حسين على غزو الكويت ، وإصطفاف جميع الدول العربية ، بقواتها العسكرية ، مع قوات التحالف التي كانت بقيادة الولايات المتحدة ، لمحاربة الجيش العراقي وإخراجه من الكويت .

وما يُقال عن فكر الحركات السياسية العربية يجري ، أيضاً ، على الحركات السياسية من القوميات الأخرى . فلو نظرنا إلى الحركات السياسية الكردية بصورة عامة ، في المنطقة ، نراها تتوحد داخل كل دولة من دول المنطقة في النضال من أجل الديمقراطية والإعتراف بحقها القومي المتميّز ولكن وحدتها تنفرط في تعاملها مع بعضها عندما تنال جهة منها حظوة ضد الأخرى . ففي العراق مثلاً كانت الأحزاب السياسية في حلف ستراتيجي عندما كانت في حرب مع الحكومة المركزية من أجل الإعتراف بحق الشعب الكردي في الحكم الذاتي أو الفدرالية ، ولكن ما أن إستتبت الأمور ، بعد فرض الحظر الجوي الأمريكي على الطيران العراقي في منطقة كردستان ، بدأ النزاع يدبّ بين قيادات تلك الأحزاب ، حتى أصبحت هناك حكومتان في كردستان واحدة في السليمانية وأخرى في أربيل ، ولم يمنع الشعور القومي ولا الإنتماء القومي والمبادئ المعلنة من أن يطلب أحد الأطراف المعونة من جيش صدام لسحق الطرف الآخر ، وما الموقف السياسيّ الغريب من حزب الإتحاد الوطني الكردستاني في التصويت ، في البرلمان لسحب الثقة من وزير المالية ، هوشيار زيباري ، إلاّ دليلاً إضافيّاً على الأزمة التي تعاني منها هذه الأحزاب القومية .
وما يمكن أن يُقال عن الحركات السياسية التركمانية ، أو الآشورية أو السريانية والكلدانية ، وحتى الصابئية المندائية لا يخرج عن هذا الإطار .

يعود صعود أو إنتكاس الحركات السياسية التي تدّعي القومية على مدى تمكنها من إثارة عواطف أبناء طائفتها ، ومدى تضرر مشاعرهم بالظرف السياسي المتأتي من ممارسات القوى السياسية الأخرى ( العدوّة ) سواء كانت تلك القوى داخلية أو خارجية . إن عواطف أبناء أية طائفة قد تُستثار وتتحوّل إلى قوّة ذات طاقة يمكنها أن تحدث تغييرات آنية ، إلاّ أن الحقائق الموضوعية التي تتعلّق بمصالح أبناء الطائفة الواحدة الحياتية والمعيشية والحاجات المادية ، وتباينها ، ستكون الحد الفاصل في توجيه فعل كل فرد . فالحركات السياسية القومية ترفع شعارات عامة وكبيرة لكنها تصغر في عين الفرد إزاء حاجاته المادية الحياتية ؛ فالفرد العربي في إحدى قرى أية دولة عربية ، والذي يفتقر إلى توفير لقمة عيش لأولاده لا تهمه إن كانت الوحدة من المحيط إلى الخليج ، و لا الفلاح الكردي الذي لا يملك طعاماً لعائلته و لا علفاً لأغنامه أو بذوراً يزرعها يهمّه إن كان يعيش في إقليم يحكمه حزب البرزاني أو حزب الطلباني المختلفان على كراسي الحكم والنفط والرسوم الكمركية . و العامل التركماني الذي يعمل يومين في الأسبوع ويبقى عاطلاً بقية الأيام ، و لا يكفيه ما يكسبه لتأمين إيجار بيته ، لا يهمه إن كانت كركوك تابعة للمركز أو الإقليم أو حتى إذا عادت وأصبحت ولاية من ولايات أردوغان العثمانية .

لقد أسقطت القيادات السياسية للحركات القومية الفكر القومي ، بتناحرها ، وعدم تمسكّها بمبدأ الدفاع عن حقوق الشعب بدون تمييز ، بل بجريها نحو تحقيق مصالحها الفئوية الضيقة ، ولذلك فإنها في كل يوم تخسر مواقع جديدة لصالح الحركات التقدمية المدافعة عن حقوق الشعب ، كما حصل في الكثير من الدول المتحضرة .