لا.. لفلسفة السمع والطاعة


فريدة النقاش
2016 / 9 / 23 - 10:15     

قضية للمناقشة: لا.. لفلسفة السمع والطاعة



حين أعبر عن احتجاجى وحزنى بسبب الأحكام التى صدرت يوم السبت الماضى ضد عدد من العاملين فى منظمات حقوق الإنسان، والتحفظ على أموال كل من جمال عيد، وحسام بهجت، وبهى الدين حسن، وعبدالحفيظ السيد، ومصطفى حسن فإننى لا أعلق على حكم قضائى إنما أريد أن أتوقف أمام الفلسفة والمنهج اللذين تأسست عليهما هذه القضية وصدرت الأحكام.
وأذكر أننى حين قابلت الرئيس “عبدالفتاح السيسي” ضمن مجموعة من المثقفين فى مارس الماضى طالبته فى كلمتى بإغلاق ملف هذه القضية 173 لسنة 2011 المسماة بقضية التمويل الأجنبي، بينما تساءل بعض الحاضرين عن التمويل الأجنبى الذى تتلقاه غالبية الوزارات المصرية، بل والدولة المصرية كلها، وفى هذا السؤال يكمن لب القضية وجوهرها، أى مسألة الديمقراطية والحريات العامة، إذ تتعثر مسيرة الوصول إليهما حتى بعد موجات الثورة المتعاقبة.
كافح المصريون على امتداد ما يزيد على القرنين من الزمان من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، واندلعت موجات الثورات والانتفاضات والهبات الشعبية، بينما كان الشعب المصرى يقاتل لإخراج الاحتلال من بلاده منذ نهاية القرن الثامن عشر ضد الحملة الفرنسية.
وفى القضية التى نحن بصددها لجأ بعض هؤلاء العاملين فى ميدان حقوق الإنسان إلى الالتفاف على قانون الجمعيات المقيد للحريات، وتأسيس منظماتهم على أساس القانون المدنى كشركات ومراكز، ذلك أن كل القوانين المقيدة للحريات فى مصر – وهى ترسانة – كما وصفتها الأحزاب الديمقراطية لا تزال قائمة وتضيف السلطات لها إذ أصدرت قانون تنظيم التظاهر، كما أنها بصدد إصدار قانون جديد للجمعيات الأهلية يراه العاملون فى ميدان حقوق الإنسان على نحو خاص أسوأ من القانون القائم.
ولا تتناقض هذه الوضعية فحسب مع أحد الأهداف الأساسية للموجة الأولى من الثورة فى 25 يناير 2011،أى الحرية، وإنما تتناقض مع الدستور الجديد الذى تتجاهله السلطة القائمة، ومع توقيع مصر على المواثيق والاتفاقيات الدولية التى تلزمها باحترام الحقوق والحريات وتعزيزهما فى كل من القوانين والممارسة.
ويروق للكثيرين أن يقارنوا بين الرئيسين “جمال عبدالناصر” و”عبدالفتاح السيسي”، وإذا كانت المقارنة صالحة من زاوية الموقف الوطنى لكل من الرئيسين، فإنها لا تجوز ولا تصلح فى كل من قضية الحريات العامة، وقضية العدالة الاجتماعية.
ولا تضع السلطة القائمة فى الاعتبار ذلك التغيير الهائل الذى حدث فى العالم على المستويات الدولية والإقليمية، والمحلية، فلم يعد بوسعها أن تقمع الحريات العامة، وتقايض عليها مع بعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية كما فعلت السلطة الناصرية، ناهيك عن أن السياسات الاجتماعية والاقتصادية القائمة تتناقض مع التوجهات الأساسية للناصرية فى هذا الميدان، وهنا يجرى طرح السؤال: على أى شيء تراهن السلطة القائمة وهى تواصل قمع الحريات العامة بينما ترتفع الأسعار كل يوم وتزداد طوابير العاطلين والفقراء ولسان حالها يقول مع محمود درويش، “حذار.. حذار من جوعى ومن غضبي”.
فى ظنى أن الرئيس “السيسي” الذى يردد كثيرا أن على الأوروبيين ألا يطالبوننا بأن نكون مثلهم فى قضية الحريات والديمقراطية، بينما تتقدم الهند على طريق التنمية والتفوق العلمى والتكنولوجى أساسا بسبب الديمقراطية كما قال سفيرها قبل أيام، وأمام هذا النموذج لا تستقيم فكرة أن العالم الثالث يحتاج إلى نموذج خاص للديمقراطية، ولطالما جرى استخدام قضية “الخصوصية” لإهدار الحريات العامة، أما الديمقراطية فهى أمن قومى كما وضح الأمر أحد النواب.
يراهن “الرئيس” إذن على الإنجازات والمشروعات دون منظومة أو رؤية شاملة تتسق مع متطلبات الموجات الثورية وأهدافها التى بلورها المصريون بشكل عبقرى فى عيش – حرية – عدالة اجتماعية – كرامة إنسانية – لا دولة دينية، إذ تبتعد السياسات العامة عن هذه الأهداف بمسافة كبيرة تكاد تطمسها.
وليست قضية التمويل الأجنبى فى حد ذاتها هى التى تزعج السلطات، فما يثير السخرية أن الحكومة “حفيت” من أجل الحصول على تمويل أجنبى من صندوق النقد الدولى والبنك الدولى والجهات المانحة ودول الخليج الصديقة وغيرها بكل ما يحمله هذا التمويل من شروط.
ولكن الحكومة والسلطة العامة التى تفرض وصايتها على المصريين كأنهم أطفال، لا تريد لمجموعات الشباب أن تصل إلى مثل هذا التمويل بنسبة تكاد تكون صفرا فيما تحصل عليه الدولة، وأن تعتمد عليه ولو جزئيا للدفاع عن الحريات العامة والمثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهى وحدها أى السلطة التى تقدر ما الذى يخدم مصلحة الشعب وما الذى يضرها، وليس على الآخرين “الأطفال” إلا السمع والطاعة لأنها هى التى تجيد “تربيتهم” فالوصاية والقبضة الأمنية هما لب فلسفتها.
وينسى القائمون على الأمر أن معادلة شباب غاضب وسلبي، وجمهور خائف ولا مبالى فى مواجهة البطش – ولو بالقانون – لم تعد سارية ولا ممكنة بعد موجات الثورة، فالشباب يحول غضبه إلى عمل، والجمهور الواسع لم يعد خائفا بنفس الدرجة بعد أن اكتشف قدراته المخزونة فى موجات الثورة، ومن المؤكد أن ما تم ليس هو القول الفصل فى قضية منظمات حقوق الإنسان والحريات العامة كافة، فقد بليت فلسفة السمع والطاعة.