الخاتم السحري


ابراهيم الحيدري
2016 / 9 / 22 - 10:00     




طرح غوتهولد افراويم ليسنغ Lessing G.A.(1729-1781) في مسرحية «ناتان الحكيم» موضوع التسامح والحوار بين الأديان والشعوب، وهو موضوع قديم وجديد في آن، يعالج العلاقة الأزلية القابلة للجدل والتأويل بين الشرق والغرب والتعايش بين الأمم والشعوب والحضارات وتأثير الأديان في المعتقدات وصدقيتها الأخلاقية. وقد اعتبرها النقاد أهم درس في التسامح الديني الذي أشعل جذوة النقد، مستكملاً بها أعماله التنويرية وبخاصة كتابه «تربية الجنس البشري» الذي يعد من الكتب الفلسفية والنقدية المهمة. وكانت مسرحيته ناتان الحكيم خاتمة مسرحياته الـ 15، والتي لا تزال تعتبر بحق من قمم ما وصل اليه الفن المسرحي في ذلك العصر والنموذج الأصل الذي سار على هديه كبار المسرحيين الألمان فيما بعد أمثال كلايست وغوته وغيرهما.
ويعتبر ليسنغ أحد أهم رواد الحداثة والتنوير في أوربا، ولعبت مسرحياته الكوميدية والتراجيدية دوراً مهماً في تطور المسرح النقدي في المانيا، وخصوصاً مسرحيته «ناتان الحكيم» التي صدرت عام 1779، التي كانت رسالة حب وتسامح ودعوة للحوار بين الأديان وتحذيراً من إطلاق الأحكام المسبقة وعدم التسليم الأعمى للعقائد. بهذه الأفكار التنويرية عبّر ليسنغ عما طرحه عصر التنوير من أفكار عقلانية حول العلاقة بين الدين والإنسان.
كما يعد ليسنغ أول ناقد ادبي الماني ترك بصماته على المستوى النظري وأسس مع موسى مندلسون مجلة «النقد الأدبي» التي نشر فيها كتاباته النقدية المتفائلة بعصر التنوير، مع لمسات مدهشة في التصوف وشعر الحماسة. وهو بهذا منظّر أدبي وكاتب مسرحي وناقد اجتماعي في مستوى رفيع وعالم لغوي واسع الاطلاع في الآداب والفنون وفي الاختلافات الأساسية بين الشعر والتصوير والرواية والمسرح، إلى جانب كونه عالم جماليات.
وتكمن أهميته في دوره الكبير في فلسفة التنوير من خلال كتاباته في تاريخ الأديان ونقده للإيمان التقليدي بالأرثودوكسية المسيحية ودخوله معارك مع اللاهوتيين المتعصبين باحثا عن أيمان جديد قائم على العقل وليس على النقل، مطالبا بتطبيق المنهج التاريخي النقدي لفهم النصوص الدينية المقدسة بشكل أفضل وداعيا الى "مسيحية العقل"، أي الايمان بالعقل الإنساني الذي يؤكد على ان اعمال الانسان هي الأساس وليس معتقداته وعباداته، حيث لا يمكن سجن الإله داخل نظام عقائدي لاهوتي، لأن ما يميز الانسان الخير من الشرير هو عمله النافع من اجل الخير وليس من اجل الثواب في اليوم الآخر.
كان ليسنغ في كل كتاباته يضع أسساً لنظرية معرفة للتسامح، منطلقاً من الاقتناع التام بأن البشر لا يستطيعون الوصول الى الحقيقة المطلقة، وما هو ممكن هو الاقتراب منها فقط، وبهذا يصبح مطلب التسامح مؤسسا على نظرية تؤكد ان المعرفة المطلقة محدودة عند البشر ولا يمكن الوصول اليها، وعلى المرء ان يجتهد للحصول على معرفة أعمق، ومن يتوهم انه يمتلك الحقيقة يفوّت على نفسه إمكان الاقتراب منها. فهو يقول: «إن ما يصنع قيمة الإنسان ليس الحقيقة التي يمتلكها أو يظن انه يمتلكها، وإنما ما يبذله من جهد صادق للوصول اليها».
الخواتم الثلاثة
كتب ليسنغ مسرحيته الشعرية الدرامية «ناتان الحكيم» عام 1779 في قمة عصر التنوير في ألمانيا لتكون قصيدة حب وتسامح وحوار بين الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، حيث تدور حوادثها في القدس إبان استعادة صلاح الدين لها في الحملة الصليبية الثالثة.
وناتان تاجر يهودي غني تحيط حياته ألغاز ملفوفة بأحزان تراجيدية محاطة بالسرية. لكنه كان يحاول دائماً ان يثبت، وفي كل مناسبة، انه ليس مجرد يهودي وحسب، فهو يتمتع بشخصية طيبة ونبيلة ومتسامحة. ولكنه تعرض الى الاضطهاد في إحدى الحملات ضد السامية، فقتل مسيحيون متعصبون زوجته وأولاده السبعة. وللتعويض عن فقدانهم تبنى طفلة مسيحية اسمها رشا. وعندما وصل الخبر الى البطريرك أمر بحرق ناتان. غير ان استرجاع القدس من الصليبيين كوّن فرصة لقاء وحوار بين السلطان المسلم صلاح الدين والبطريرك المسيحي وناتان التاجر اليهودي. وخلال الحوار يسأل صلاح الدين عن الدين الأفضل، فيتملص ناتان من الجواب، ولكنه يورد قصة الخاتم السحري الرمزية التي وردت في قصص ديكاميرون لبوكاشيو. وملخص القصة ان هناك رجلا يملك خاتما سحريا عجيبا يجعل حامله محبوباً عند الله والناس.وكان للرجل ثلاثة أبناء يحبهم بالدرجة نفسها. وقبل ان يموت بدأ يفكر، لمن يورث الخاتم السحري؟، ومن هو أفضل أولاده؟ ولحل هذه المشكلة قام بصنع خاتمين مشابهين له حتى يكون لكل واحد من أولاده الثلاثة خاتما. وبعد موت الأب بدأ الشجار بين الأخوة حول الخاتم الأصلي، حيث اعتقد كل واحد منهم انه يملك الخاتم السحري، وأن سلوكه هو الأفضل في الحياة. وعندما ذهب الاخوة الى القاضي، لم يستطع بدوره معرفة الخاتم الأصلي، وطلب من كل واحد منهم ان يبرهن على ان خاتمه هو الأصلي وذلك بأفعاله الخيرة وصدقه وتسامحه مع الآخرين.
ان قصة الخاتم السحري هي قصة الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، التي رمز اليها ليسنغ بحكاية الخواتم الثلاثة التي تعبر من خلال ترجيح العقل والحوار والتسامح إمكانية تقارب الأديان وتعايشها مع بعضها البعض تعايشا سلميا، لأن جميع الأديان تدعو الى الخير والفضيلة والمحبة والتقرب الى الله عن طريق فعل الخير والتحلي بالأخلاق الفاضلة. وهدف ليسنغ هو اكتشاف القيم المشتركة بين البشر، العابرة للحدود، التي ترسمها اختلافات الدين والثقافة. فالبشر لا يتلاقون بالدرجة الأولى كمنتمين الى أديان مختلفة، وإنما كبشر. ويسأل ليسنغ: «هل إن المسيحي واليهودي هو مسيحي ويهودي قبل ان يكون إنساناً؟». ولذلك يقول: «حرروا أنفسكم أولاً من قيود الأحكام المسبقة وابحثوا بينكم عن الحب الخالص»، فالدين الصحيح هو المعاملة الصادقة وليس الأقوال.
«فالناس على رغم الطرق المختلفة والغامضة التي يسلكونها في الحياة هم جميعاً
أقرباء وإخوة وأخوات... هم جميعاً أسرة واحدة».