محاضرات في الإقتصاد السياسي للرأسمالية - المحاضرة الثانية: السلعة. ج1


حاتم بشر
2016 / 9 / 21 - 11:10     

{{إن البداية وعرة في سائر العلوم، لهذا سوف يكون الفصل الأول، وخصوصا القسم الذي يشتمل على تحليل السلعة، على شيء من الصعوبة على الأفهام}}
كارل ماركس
ذلك ما سطّره ماركس في مقدمة الطبعة الألمانية الأولى لكتابه "رأس المال". ما أين تنبع، يا ترى، هذه الصعوبة التي يشير إليها ماركس؟ في الواقع أنها تنشأ من جهتين بينهما صلة وثيقة:
1-من جهة طبيعة موضوع البحث نفسه:
قلنا في المحاضرة السالفة أن "السلعة" تمثل، في المجتمع البرجوازي، "الخلية الإقتصادية" لهذا المجتمع، و"الشكل الأوليِّ" للثروة الرأسمالية. تماما كما أن ”الخلية تمثل الجسم في صورة دقيقة جدا، ويمكن أن ينظر اليها كنموذج حي نستطيع أن ندرس فيه-على مقياس صغير- أوجه النشاط التي تحدث في جسم الإنسان- كينيث ولكر “. ومن البديهي أن تكون "دراسة الجسم المُعَضْوَن(أي المركب من أعضاء) أسهل من دراسة الخلية التي هي عنصره الأولي-ماركس-".
2-من جهة أسلوب البحث:
إن أساليب الدراسة أو طرائق البحث تتحدد بطبيعة الظواهر المدروسة وقوانينها الداخلية. لهذا نجد أن لكل مجال من مجالات العلم أساليبه وأدواته التي تَخُصّه وتُخصّصه. وإن الطبيعة المائزة للأشكال الإقتصادية(السلعة، النقود..الخ) تستلزم بدورها أسلوبا بحثيا معينا. ويقول ماركس أنه لا يمكن لتحليل الأشكال الإقتصادية أن يلجأ إلى الميكروسكوبات التي يستعين بها علم الكيمياء مثلا. فما هي يا ترى تلك الأداة التي يستعين بها علم الإقتصاد السياسي على تحليل ظاهرات حقله؟ إنه التجريد.."التجريد هو القوة الوحيدة التي يمكنها أن تكون أداة له-ماركس-"..والحال، أن التفكير على صعيد المحسوس المرئي أسهل من التفكير على صعيد المجرد.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فإن الجهل بمباديء وقوانين ومقولات "منهج" أو "فن" البحث الذي يطبقه كارل ماركس في كل أعماله الإقتصادية والفلسفية والسياسية، أعني المنهج الدياليكتيكي المادي، لهو السبب الرئيسي في شكوى الماركسيين المتكررة من صعوبة فهم كتاب"رأس المال" عموما، وفصله الأول على وجه التخصيص. يقول لينين: "يستحيل استحالة قاطعة أن نفهم "رأس المال" لكارل ماركس-لاسيما الفصل الأول منه- ما لم ندرس منطق هيغل(=الدياليكتيك) ونفهمه بأكمله، ولهذا السبب فقد مضى نصف قرن من الزمان، ولم يفهم ماركس واحد من الماركسيين".
أما فيما يتعلق بخصوم الماركسية، فإنهم-بطبيعة الحال- لا يعترفون بعدم إلمامهم بمباديء وقوانين ومقولات المنهج الدياليكتيكي الذي يطبقه ماركس في كتاب "رأس المال"، بل إنهم- بغرض التستر على هذا الجهل المطبق- يتهمون كارل ماركس بالغموض والتناقض واللف والدوران والإرتباك والغيبية.. وما إلى ذلك..
إن موقف هؤلاء من ماركس، ليشبه موقف "شيشرون" من "هيراقليطس" :
فإن شيشرون، هو الآخر، قد تقَوُّل على هيراقليطس(أبو الدياليكتيك) واتهمه بـ"الغموض" و"الإبهام" و"الإعتام"..إلخ..إلخ. وإليكم رأي الفيلسوف الكبير هيغل في هذه الإتهامات:
"كلاّ! إنها "عتمة" ذهن شيشرون نفسه، يُسقطها على هيراقليطس!".
والخلاصة بإسراف الإختصار على حد التعبير المكثف الواعي لإنغلز: "..نحن لا نستطيع أن نستغنى عن هيغل".
والآن، إلى "السلعة"...

أولا: القيمة الإستهلاكية للسلعة.
السلعة، في أبسط معنى لها، هي شيء يشبع أو يلبي احتياجات انسانية معينة.
وإن فائدة السلعة أو نفعها، أي قدرتها على اشباع احتياجات انسانية معينة؛ هي ما نسميه بـ"القيمة الإستهلاكية".
إن فائدة الشيء المعين أو قيمته الإستهلاكية تكمن في خواصه الملموسة(خواصه الفيزيائية او الكيميائية..الخ). فكر في أي سلعة مهما كانت، ستجد أنها تحتوي على خاصية أو خواص معينة ملموسة نافعة أو ذات فائدة. وهذه الفائدة تتحقق فعلا أثناء إستهلاك الشيء. ومع تطور العلم والتقنية يكتشف البشر في الأشياء خواصا جديدة يقومون بإستغلالها في اشباع حاجاتهم.
وعندما نتأمل الثروة الإجتماعية، سنجد أنها في مجملها عبارة عن أشياء نافعة، عبارة عن قيم استهلاكية.

*نظرا لدقة وأهمية تحليل السلعة، رأيت تقسيم هذه المحاضرة إلى قسمين. عرضنا هنا الجزء الأول، وفي المحاضرة التالية الجزء المتمم.