باللغة المحتلة تمت صياغة الواقع المحتل


محمد بوجنال
2016 / 9 / 15 - 09:29     



صحيح أن العقل العربي ضحية اللغة المحتلة؛ فهو يؤمن ويعتقد بتصورات غير صحيحة على أنها صحيحة، وبشكل دوعمائي وأحيانا شبه دوغمائي دون الوعي بكونه كعقل وشخصية قد تمت فبركته عبر المراحل التاريخية التي راهنها وليس آخرها مرحلة النظام العولمي× يتساوى في ذلك مجمل مكونات الطبقة المتوسطة وباقي الجماهير الكادحة. وهذا يفرض علينا للفهم استحضار كهف أفلاطون حيث يعيش مجموعة من الأشخاص منذ ولادتهم؛ كهف لا يوجد به إلا أشباح من شدة ألفتهم رؤيتها منذ طفولتهم، أصبحوا يعتقدون أنها موجودات حقيقية؛ ولما تمكن أحدهم من التواجد خارج الكهف، اندهش باكتشافه عالما آخر هو عالم الموجودات الحقيقية؛ إلا أنه من شدة تعوده العيش مع الأشباح، رجع إلى الكهف ليعيش الأوهام التي اعتبرها حقائق وهو الوضع الذي يتطلب منه بذل المجهود العقلي للتمكن من التمييز بين عالمين: عالم وهمي، وعالم حقيقي. فلا شك أن العقل العربي على مستويي مجمل الطبقة المتوسطة والجماهير العربية الكادحة سقط ضحية هذا الوضع الذي دعمه وعمل على تحذيره الأب الرأسمالي وحلفائه بالمنطقة. فصحيح أن الأب الرأسمالي وحلفائه وكذا السابقون عليهم من الآباء كالإقطاعيين والسادة ووكلاء الديانات المسماة إلهية من يهودية ومسيحية وإسلامية، قد نجحوا في قلب الواقع العربي وفصله عن حقيقته. إنه الوضع الذي أصبح يتطلب مجهودا أكبر وبرنامجا نضاليا متوسط المدى قصد تغييره نظرا للتغلغل اللغوي الوهمي بمختلف مجالات هذه الشعوب إلى الحد الذي أصبح، منذ مدة، مناقشته مؤشر الزندقة والإلحاد. وبشكل أدق، فحقيقة واقع اللغة يتجسد ، لا في إلغاء العيني واللاعيني والتوظيف المنحرف للعلاقة بينهما، بقدر ما أنها العلاقة بين العيني واللاعيني، بين المجهول والمعلوم. وفي هذا المستوى، فأشكال الصراع في الواقع لم تبق أشكالا وهمية ومزيفة: الصراع بين الفئات، الصراع بين الطبقات، الاستغلال، التسلط،...الخ، بقدر ما أن أشكال الصراع ذاك تتحدد في الصراع مع الطبيعة: المادية والبشرية لاكتشاف قوانينها وتسخير ذلك خدمة واستجابة لحاجيات المجتمعات العربية؛ وبمعنى آخر، فهذه اللغة المتحررة هي علاقة صراع صحي بين المتعين والممكن وهي علاقة صراع لانهائي تتقدم وفقه الشعوب العربية كواقع متحرر من سيطرة الأب الرأسمالي وحلفائه. فاللغة إذن، كعلاقة متحررة، كصراع متحرر بين العيني والإمكان، في عالمنا العربي،هو ما لايقبله مهندسو الواقع الوهمي.
تباعا لما سبق، اقتضت المصلحة المادية للقوى المسيطرة اعتماد اللغة الوهمية لبناء واقع وهمي تعتقده الشعوب العربية حقيقيا. إنها اللغة التي وفقها تم التشكيل المحكم لعقل الشعوب العربية: فبمعناها المزيف ذاك، وبمساحتها المحتلة، تفهم الشعوب العربية (= مجمل الطبقة المتوسطة وكل الجماهير الكادحة ) معنى الأنظمة السياسية والدساتير والديانات والأخلاق والحياة والموت ومختلف المؤسسات التي تدير وتدبر وتؤطر وتنظم حياتها الإدارية والمادية والمعنوية واليومية. فالعالم العربي اليوم الذي يعيش مرحلة الفساد والدمار والتفكيك والاقتتال والمذابح أسس له الأب الرأسمالي وحلفائه بتوظيف اللغة في شكلها الوهمي، فأصبح المسلم يقاتل المسلم، وأصبحت الجماعة المسلمة تكفر غيرها من الجماعات المسلمة. هكذا، فقد أصبحنا أمام تعدد الديانة الإسلامية بتعدد هذه الجماعات. والآلية المعتمدة لديها كلها هي اللغة التي قلنا أنها تحمل الدلالات المفبركة والمنفصلة عن واقعها الحقيقي، دلالات وفقها كفرت الجماعات الدينية تلك بعضها البعض بالزندقة والخروج عن الديانة الإسلامية؛ وهو الموقف الأكثر تشددا إزاء باقي الجماعات بباقي الديانات، بل وإزاء كل ما هو غيرها متدينا كان أو غير متدين؛ فالجهاد فيهم كلهم واجب شرعا. هكذا، فوفق هذه الآلية، وهذه الدلالات الوهمية، أصبحنا في عالمنا العربي أمام ديانات إسلامية نبيها هو الأب الراسمالي وحلفائه وهدفها تنويم الشعوب العربية وإكسابها أشكال القمع الذاتي.
وهنا لا بد من استدعاء الأعمال والأبحاث السوسيولوجية لعلة انتماء الجماهير العربية لجماعات دينية وعلمانية وقبلية وإثنية أو قل تنتمي إلى جماعات متباينة ومنغلقة هي ما نقل وينقل لها، وفق آليات التربية والأخلاق الدلالات المزيفة والمحتلة للغة حيث أن زيفها ذاك يعتبر هو الحقيقة، وأن ما يسمى بالحقيقة ليس سوى وهما وتزييفا للواقع العربي الذي تعتبر الجماعة جزء لا يتجزأ منه؛ بانغلاق الجماعة يمنع أعضاؤها من التمرد عليها أو قل أن وظائفها كجماعة مرجعية يتمثل في التلقين اللغوي والديني والأخلاقي الذي هو التلقين بالنيابة عن الآباء الموغلين في القدم والذين راهنهم الأب الرأسمالي وحلفائه. هكذا يتم تشكيل الجماهير العربية التي تعادي الواقع الحقيقي وترفضه لتبقى سجينة طائفيتها وعصبيتها مع كل ما سواها. إنها الأرضية التي استغلها الأب الرأسمالي وحلفائه لتمرير تصوراتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والثقافية حيث أن القناعة والطاعة وغض النظر عن وفي الواقع المادي العربي وأشكال استغلاله هو ما يحدد فهمها وتفكيرها. إنها أرضية خصبة لخلق كل الظواهر التي يرى الأب الرأسمالي وحلفائه أهميتها. هكذا نرى من جهة، سهولة تقبل الشباب اليوم القيام بالعمليات الانتحارية تخلصا من هذا العالم الفاسد حبا في الانتقال إلى عالم السعادة؛ ومن جهة أخرى التنازل عن موارد الوطن المادية معتبرا ذاك رجسا من عمل الشيطان تقتضي الفضيلة إعطاءه مرتبة ثانوية؛ ومن جهة ثالثة الحماية الذاتية لأفراد الجماعة من عمليات التغيير لأن القبول بذلك خروج عن الجماعة وتمرد على عاداتها وتقاليدها وبالتالي تهديد لوجودها؛ ومن جهة رابعة اعتقاد قدسية أولى الأمر وهو ما سهل ويسهل الاعتقاد بصواب مواقفهم وتبرير تحالفاتهم مع الأب الرأسمالي. وعموما، فالجماعة هي الكهف الذي فيه تم ويتم تدجين الجماهير العربية بناء على تصور الأب الرأسمالي وحلفائه كما هو محدد في جدول الأعمال وهو راهنا تفكيك الدول وتشجيع الاقتتال بين الجماعات وتخريب العمران ونشر ثقافة العداء بين مكونات هذه الشعوب. ودلالات الوجود تلك اعتبرت هي الدلالة الصحيحة والشرط الأساسي لاستمرار الجماعة في الوجود. إنه الوجود الحقيقي كما صورته لهم اللغة الوهمية وأن غيره يعني كفرهم وتعرضهم للإنقراض. لذا، نسجل أهمي السوسيولوجيا في هذا المجال دون إلغاء باقي المجالات التي تتكفل فيها اللغة الوهمية، في أشكالها الشمولية، بضمان استجابتها للمصالح المادية للقوى المسيطرة.
قلنا أن المصلحة المادية فرضت على الأب الرأسمالي وحلفائه التأسيس لواقع عربي وهمي. هكذا تم تقديم الواقع العراقي والليبي والسوري واليمني وغيرهم للشعوب العربية التي آمنت بالواقع الوهمي ذلك والذي اعتبرته لغة وواقعا حقيقيين؛ وما يؤسف له أن الحراك العربي كان ،في جزء كبير منه، ضحية ذلك الوهم وهو ما سهل تقبل فكرة تخريب تلك الدول اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا؛ لغة وهمية (= واقع وهمي )، بها حددت الشعوب تلك، الأديان وحللت وحرمت ما جاء فيها وفق أشكال الاحتلال الذي تعرضت له اللغة تلك كما باقي مجالات المجتمعات العربية كونها شعوبا تلقت تربيتها باللغة الوهمية، وتتكلم اللغة الوهمية، وتفهم وتحلل وتركب باللغة الوهمية التي تمكنت من تحقيق الانجاز الفعلي لحجب الواقع العربي الحقيقي. وعليه، فقد أصبح الواقع العربي بالنسبة إليها واقعا مقلوبا: الوهمي أصبح هو الحقيقي، والحقيقي أصبح هو الوهمي. إنه الوضع المقلوب الذي منع ويمنع الشعوب العربية من الوعي بمعنى وجودها الذي منعته إياها اللغة الوهمية. فكان، وبقي، وما زال ضحية دلالات اللغة الوهمية أو قل حاملة فكرة أن الواقع الحقيقي هو واقع الاقتتال والتدمير والتكفير والفساد والاستبداد؛ أما غير ذلك فهو وهم. وفي كل ذلك، نسجل الاستجابة الفعلية للمصالح المادية والمعنوية للأب الرأسمالي وحلفائه بالمنطقة.