المآزق تحاصر البرجوازية: الولايات المتحدة مثالاً (2)


نجاة طلحة
2016 / 9 / 11 - 22:49     


أنجزت البرجوازية الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر فساعد ذلك في إحكام سلطتها الطبقية، لكن وبعد قرون من بداية النظام الرأسمالي، ورغم كل محاولات الترميم من تنسيق وإعادة برمجة، عجزت البرجوازية عن التحكم في الدورة الإقتصادية والتقلبات الدورية والسيطرة عليها لمنع الأزمات. كل الشواهد تؤكد أن المآزق التي تقلق مضجع الأنظمة البرجوازية الآن هي نتائج مباشرة ومآلات حتمية لتناقضات علاقات الانتاج الرأسمالي. هذه المآزق هي أشكال ظاهرية تُبلور تأزم التناقضات الجوهرية الكامنة في هذا النظام الذي يعاني من أعراض الإحتضار. النظام البرجوازي تُمسك بخناقه الأزمات من تضخم، وبطالة، كذلك الديون السيادية التي تتصدر قائمتها عالمياً دول الغطرسة الإمبريالية، وهي الأكثر إستدانة عالمياً، ثم مأزق إتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء الذي أحدث غلياناً أعيا المعالجات المؤقتة التي تطبقها الأنظمة وينذر بالإنفجار. نسبة لموقع الإقتصاد الأمريكي من الإقتصاد العالمي فإستعراض المآزق التي يمر بها خير معبر عن واقع الإقتصاد البرجوازي. الجزء الأول من هذا المقال ناقش مشكلة التضخم وأزمة الديون السيادية ويناقش هذا الجزء البطالة وإرتفاع نسبة الفقر وإتساع الفجوة في الدخل.

3) البطالة
وقبل أن ندخل في تفاصيل الواقع الماثل الآن فإن من الأهمية بمكان أن نحدد مكانة هذه الظاهرة في بنية الإقتصاد الرأسمالي، والدور الذي تلعبه كمكون أساسي لهذا النمط من الإنتاج. فالعمال العاطلين عن العمل وهم كما يسميهم كارل ماركس بالجيش الإحتياطي من العمال ضروري لإستخدامه عند الحاجة حسب مقتضيات الإنتاج وحركة العرض والطلب. لذلك فالبطالة هي من السمات الملازمة والأصيلة في علاقات الإنتاج الرأسمالي وهي من صميم مكوناته. لكن في العقود الأخيرة تفاقمت هذه العلة وأصبحت تضغط وتهدد النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة بسبب الغليان الذي تفرزه المعاناة من هذه المشكلة من ناحية، والأعباء الإضافية التي تضيفها الى الميزانية ممثلة في الدعم الذي تقدمه الحكومة للعاطلين عن العمل من ناحية أخرى. مع الأخذ في الإعتبار العجز المتواصل في الميزانية الذي شهدته الولايات المتحدة طوال السنوات الأخيرة.
معدلات البطالة الحقيقية في الولايات المتحدة تختلف تماماً عن تلك الإعلانات التطمينية التي تطلقها الحكومة والتي تعتمد على المعادلة التقليدية لحساب نسبة البطالة. بحسب بيرني ساندرس، بتضمين الأفراد الذين يعملون بأجر لبعض الوقت، أومن يعملون في وظائف على فترات متقطعة. والعمالة المُحبطة والتي تتمثل في أولئك الذين يرغبون في العمل؛ ولكنهم فشلوا في العثور عليه، فكفوا عن البحث عنه. ثم أولئك الذين يجبرون علي العمل بأجر قليل جداً أشبه بالعدم، بتضمين كل هؤلاء يقول ساندرز فإن نسبة البطالة في الولايات المتحدة هي 10%.
بينما تظل الأزمات الدورية المسئول الأول عن تفشي البطالة التي تعتبر على رأس قائمة الآثار السالبة المتمددة لهذه الأزمات فقد دخلت عوامل أخري لتزيد من معدلات البطالة في الولايات المتحدة. أول هذه العوامل هي أن الولايات المتحدة قد دفعت ثمن تزعمها لإتفاقيات التجارة العالمية والإقليمية كإتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا (نافتا) ومنظمة التجارة العالمية، بل وعلى وجه أصح، قد دفع العمال هذا الثمن. مستفيدة من الفرصة التي أتاحتها هذه الإتفاقيات، أرتحلت المصانع الأمريكية طلبا لليد العاملة الرخيصة. وتعتبر هذه الممارسة التي تفتقت عنها عقلية الجشع البرجوازي في وجهة التقسيم العالمي للعمل، عولمةً لإستغلال الطبقة العاملة. حسب موقع "سيتزن" فمنذ توقيع نافتا أُغلِق 60,000 مصنعاً وفُقِدت نتيجة لذلك 4.7 مليون وظيفة وبحسب آخر أحصائية فمنذ أن إنضمت الصين لمنظمة التجارة العاملية فقدت الولايات المتحدة حوالي 3.2 مليون وظيفة موزعة بين تلك التي فُقدِت بسبب هجرة المصانع الى الصين وتلك التي ألغيت بسبب غزو المنتجات الصينية منخفضة الثمن للأسواق. ويعادل ما فُقِد من وظائف بسبب هذه الإتفاقيات ربع عدد العاملين في الولايات المتحدة. سبب آخر فاقم من أزمة البطالة هو التقدم المضطرد للتكنولوجيا الذي تسبب في تشريد أعداد كبيرة من العاملين. كذلك الشره الرأسمالي لمضاعفة الأرباح بإستخدام العمالة الوافدة للولايات المتحدة عن طريق الهجرة غير القانونية. يستغل أرباب العمل هؤلاء الوافدين بتشغيلهم تحت ظروف وشروط عمل غير إنسانية، تحقيقاً لأرباح أعلى فينتج عن هذا الإستغلال تضييق فرص العمل للمواطنين. أخيراً وما هو أهم، تراجع الإنتاج البضاعي أمام الإستثمار في رأس المال المالي الذي بجانب تسببه في تفاقم أزمة البطالة سيغير من الخارطة الإقتصادية في الولايات المتحدة بشكل كامل ويدق إسفيناً أساسياً في نعش هذا النظام.
4) إرتفاع نسبة الفقر وإتساع الفجوة في الدخل
آخر ما يهم سلطة البرجوازية هو معاناة الأغلبية الكادحة وحقها في حياة كريمة. وكل ما يقدمه الرأسمالي للعامل هو في حدود الإبقاء عليه حياً ليواصل إمتصاص قواه وجهده. لذلك لم يكن هذا التفاوت الطبقي الحاد من باب الصدفة، فهو خاصية أساسية لعلاقات إنتاج المجتمع البرجوازي. ومن الشروط الأساسية للإنتاج الرأسمالي إتجاه الأجورالدائم للإنخفاض عكسا للإتجاه العام للأرباح. وبذلك تتحقق مقولة كارل ماركس "تراكم الثروة في قطب هو، بالتالي، في الوقت نفسه، تراكم للبؤس في القطب النقيض" (رأس المال) لكن عندما يصل الحال بمعاناة القوى الكادحة حداً ينذر بالإنفجار حيث تفقد البرجوازية القدرة على السيطرة السياسية والإجتماعية ويصبح قهرأولئك المسحوقين مستحيلاً، يشكل هذا الوضع فشلاً في تأمين الشروط العامة للإنتاج الرأسمالي وفي مقدمتها قوة العمل فيهدد بقاء النظام البرجوازي. هذا هو السبب الذي يجعل من إتساع الفجوة في الدخل وتعميق هوة الفقر خطراً يهدد النظام البرجوازي. لا يمكن للتدابير التي تتخذها الحكومة معالجة هذه الحالة المستعصية لأنها محكومة بالمحافظة على مصالح البرجوازية. لذلك فكل تدخلات الحكومة وكل محاولاتها لإعادة توزيع الدخل تؤدي الى إرتفاع معدل الربح وتعميق هذه الفجوة ليس إلا.
وتؤكد دراسة اقتصادية حديثة قامت بها مؤسسة "وول ستريت24/7 تنامي الفجوة بين دخول الأغنياء والفقراء في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقود الأخيرة، بل ذهبت هذه الدراسة الى أن الولايات المتحدة تتصدر القائمة على مستوى العالم. فقد زادت دخول الأغنياء بأكثر من الضعف خلال الفترة بين عامي 1979 و2011 في حين ارتفع متوسط أجور العاملين الأمريكيين بنسبة 6% فقط خلال نفس الفترة، ويتركز أكثر من نصف الثروة في أيدي 3% من كبار المستثمرين في الولايات المتحدة. كل الأزمات المالية التى ضربت الإقتصاد وما ترتب عليها من آثار البطالة والتضخم إنعكست على الفقراء وكل ما كان يهم الدولة البرجوازية هو تحفيز الإنتاج، فحتى تلك الإعانات التي قُدِمت للفقراء وعلى قلتها، كان المقصود منها تحريك السوق.
وبمقارنة بسيطة يمكن تقدير إمكانيات الحكومة، والتي يوجه معظمها للصرف على حروب اللصوصية والتي ترجع بالفائدة للقلة من الأثرياء، مقابل إمكانيات الطغمة المالية، نجد أن بعض الشركات الكبري كشركة آبل وشركة مايكروسوفت (كل على حدة) تمتلك أموالًا أكثر من أموال حكومة الولايات المتحدة، وذلك حسب الإحصائيات الرسمية.
حسب مكتب تعداد الولايات المتحدة فأن نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في ولاية مسيسبي بلغ 24%. وفي ولاية نيو مكسيكو حوالي 21.9% وفي ولاية لويزيانا 19.8%. ومما يوضح الفجوة الكبيرة في الدخول أنه وعلى الرغم من الثراء العام لولاية «تكساس» فإن معدلات الفقر فيها هي ضمن الأسوأ على مستوى الولايات المتحدة (17.2%). وبحسب وكالة الأنباء الفرنسية، يعيش أكثر من طفل من أصل خمسة في نيويورك وسط عائلة لا تملك ما يكفي لسد رمقها، كما أشار مكتب الإحصاء في عام 2012 إلى أن الفقر قد شمل نحو 47 مليون أمريكي، بينهم 13 مليون طفل، وإن درجة العوز جعلت أسر كثيرة تختار بين الغذاء ودفع فواتير الخدمات العامة أو الرعاية الطبية. هذا يحدث في أغنى بلد في العالم لكن الإجابة هي أنه وعلى الرغم من أن الناتج القومي الإجمالي للولايات المتحدة يعد الأول في العالم فإن ناتج الفرد يضعها في المرتبة الثالثة عشر وما يملكه واحد بالمائة من السكان يفوق ما تملكه البقية. نسبة كبيرة من السكان في هذا البلد الغني جداً يعيشون بين سندان الفقر ومطرقة الإرتفاع الجنوني للأسعار والذي يضاعف من المعاناة.
فاقمت أزمة 2008 والتي قد بدأت أصلاً بعجز المواطنين عن تسديد أقساط مساكنهم من مشكلة المشردين المزمنة فأصبحت تشمل بعض ممن كانوا يعتبروا من الطبقة المتوسطة قبل الأزمة. أكدت إحصائية جديدة صدرت عن وزارة الإسكان الأمريكية وفقا لمسح أجري لليلة واحدة داخل الأحياء الكبرى في الولايات المتحدة أن أكثر من 565 ألف شخص بلا مأوى وربعهم من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما وأن المدن الكبرى مثل نيويورك وسياتل ولوس أنجليس لازالت تعاني من ارتفاع أعداد المشردين.
أما على الوجه الآخر من العملة فالرفاه يعم الأثرياء، وفي هذا البلد الذي تعاني نسبة كبيرة من سكانه من الفقر والتشرد، فبحسب موقع "ذا – ريتشست" تصدرت العائلات الأمريكية قائمة الأشخاص الأكثر ثراء في العالم خلال العام 2014، بـ 440 مليار دولار، وجاء على رأس قائمة العائلات الأمريكية عائلة والتون بحجم ثروة قدرت بـ174 مليار دولار، وتلتها عائلة كوتش براذرز في المركز الثاني أمريكيًا وعالميًا بحجم ثروة قدرت بـ89 مليار دولار. لم يقف هذا الثراء شاهداً على المفارقة بين معاناة الفقراء وترف الأثرياء فقط بل وصل درجة أبتداع قوانين تحمي الأثرياء من أن تطالهم يد القانون. ففي سابقة خطيرة، في يونيو 2013 قتل مراهق يدعى إيثان كوش أربعة مارة أثناء قيادته السيارة تحت تأثير الكحول. أرجع محاموه سلوكه إلى تربيته المدللة الثرية، وإصابته بمرض الثراء الفاحش (أفلونزا) وأقنعوا المحكمة أنه في حاجة إلى إعادة تأهيل لا السجن. ولم يصدر حكم بالسجن بحق كوتش، ولكن فقط تم وضعه تحت فترة اختبار لعشر سنوات.
الحرية في النظام البرجوازي ميزة يتمتع بها الأغنياء على حساب معاناة الفقراء. فالقوانين التي توجه بواسطة اللوبيات للزج بالملايين من الفقراء في السجون، لتصبح الميزانية المرصودة للصرف على هذه السجون دخلاً للشركات التي تقدم الخدمات لهذا القطاع، تقض هذه القوانين الطرف عن تقاعس الشركات عن الإيفاء بإلتزاماتها نحو الدولة. تفننت الشركات العملاقة في التهرب من الضرائب وذلك بالإحتفاظ بثرواتها بعيداً عن الرقابة الضريبية. وفي تقرير لل"سي إن إن" عام 2015، فإن شركة آبل ومايكروسوفت وسيسكو وأوراكل تحتفظ بنحو 90 في المائة، وغوغل 60 في المائة من إجمالي إحتياطها النقدي بالخارج بعيداً عن الضرائب التي تفرضها السلطات الأمريكية. ففي هذا الإقتصاد الذي يقوم على الضرائب، تمتلك هذه الشركات الخمس وهي من أكبر شركات التقنية الأمريكية إحتياطاً نقدياً ضخماً يتجاوز 430 مليار دولار ، يتم التحفظ على معظمه خارج الولايات المتحدة، تقف شركة "آبل" في المقدمة بـ178 مليار دولار، بحسب تقرير صدر مؤخرا من "انفيسترز سيرفيسز".
القلق الذي سببته هذه الحقائق المذهلة قد حدى بالملياردير ورئيس شركة "كارتيي" للجواهر الفاخرة، يوهان روبرت، أن يحذر من مغبة إرتفاع أشكال اللّا مساواة في الولايات المتحدة بقوله "فجوة الثراء مرعبة.. وأخشى حربا طبقية في أمريكا" وهذا هو حقيقةً ما تخشاه الطغمة المالية. فالبرجوازية تعي تماماً مقولة ماركس أن الفقر لا يصنع ثورة إنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة، لذلك فهي تجتهد في تضليل الفقراء وتغبيش وعيهم.