المآزق تحاصر البرجوازية: الولايات المتحدة مثالاً (1)


نجاة طلحة
2016 / 9 / 10 - 10:24     

المآزق تحاصر البرجوازية: الولايات المتحدة مثالاً (1)
أنجزت البرجوازية الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر فساعد ذلك في إحكام سلطتها الطبقية، لكن وبعد قرون من بداية النظام الرأسمالي، ورغم كل محاولات الترميم من تنسيق وإعادة برمجة، عجزت البرجوازية عن التحكم في الدورة الإقتصادية والتقلبات الدورية والسيطرة عليها لمنع الأزمات. فالإقتصاد الرأسمالي العالمي لم يتخلص من أثار أزمة 2008 بل كل الدلائل تشير الى قرب دخوله في أزمة ركود إقتصادي جديدة. إنهيارات أسواق المال والأسهم والسندات وتتابع وعمق تلك الإنهيارات، والتراجع الحاد في أسواق الإستثمار عامة، هز الإقتصاد وأدخله في حالة من التباطؤ وأصابه بهشاشة أعاقت تعافيه. لكن البرجوازية لازالت تتذرع بالمبررات، مستبعدة الأسباب البنيوية للأزمات الإقتصادية وتبعاتها. فالإقتصاد الأمريكي الذي يعتبر في دور القيادة بل هو قطعة الدومينو الأساسية التي تتداعى لتداعيها كل إقتصادات العالم، لا زال يعاني، بل أن القائمين على أمره في حالة فزع بسبب إرهاصات الركود الواضحة. ما يجدر الإشاره اليه أن إقتصاديي البرجوازية هم الآن الذين يرفعون شارة الخطر بل يتخوفون من أن حالة النمو (على تعثرها وضعفها) قد إستمرت أكثر مما يجب، وقد حانت الآن فترة الركود الدوري. هذا مايجعل من قول البعض أن الرأسمالية قد تجاوزت تناقضاتها مدعاة للحيرة. نسبة لموقع الإقتصاد الأمريكي من الإقتصاد العالمي فإستعراض المآزق التي يمر بها خير معبر عن واقع الإقتصاد البرجوازي.
كل الشواهد تؤكد أن المآزق التي تقلق مضجع الأنظمة البرجوازية الآن هي نتائج مباشرة ومآلات حتمية لتناقضات علاقات الانتاج الرأسمالي. فقد عجزت آليات السوق (الآلية الأوتوماتيكية للسوق) تماماً عن تامين إستمرار النظام الرأسمالي أو إستقراره. هذه المآزق هي أشكال ظاهرية تُبلور تأزم التناقضات الجوهرية الكامنة في هذا النظام الذي يعاني من أعراض الإحتضار. أما ما تمر به الولايات المتحدة فهو مثال لفشل الإقتصاد السياسي بدايةً. إن خطل فكرة الإقتصاد السياسي الليبرالي (آدم سميث، ثروة الأمم) يمكن أن يُلخص في أنه لا يمكن أن يُبنى إقتصاد أمة على نظام تتناقض فيه المصالح ويقوم على المنافسة والنزوع الدائم للإحتكار. إنها بأي حال ثروة للقلة، بدليل أن في الولايات المتحدة صاحبة أقوى إقتصاد في العالم، %0.1 من السكان يملكون من الثروة مايقارب ما يملكه 90% منهم، حسب ما أشار اليه السناتور بيرني ساندرز، مرشح الرئاسة السابق. أما مسألة أقوى إقتصاد هذه، فهي متاهة فريدة من نوعها لأن حجم الدين الفيدرالي، في تقرير لمجلة "فوربس" المشهورة، يشكل نسبة%105 من حجم الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي !!! الرأسمالية أنهكتها الأزمات الإقتصادية الدورية والتي أصبحت متواترة وطويلة الأمد تمتد لفترات طويلة من الركود الإقتصادي، التعافي منها يقتصر على الخروج من الركود الى النمو البطئ، مما لا يساعد في معالجة الآثار السالبة للأزمات بل يمهد الطريق لتتابعها. فالنظام البرجوازي تُمسك بخناقه المآزق من تضخم، وبطالة، كذلك الديون السيادية التي تتصدر قائمتها عالمياً دول الغطرسة الإمبريالية، فحسب موقع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، فالولايات المتحدة والإتحاد الأوربي وبريطانيا والمانيا وفرنسا واليابان هم الأكثر إستدانة عالميا، ثم مأزق إتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء الذي أحدث غلياناً أعيا المعالجات المؤقتة التي تطبقها الأنظمة وينذر بالإنفجار.
1) التضخم
التضخم (الإرتفاع المتواصل للمستوى العام للأسعار) مشكلة يعاني منها سكان الولايات المتحدة، خاصة ذوي الدخول الثابتة من العمال وذوي الدخل المحدود من الفئات الاخرى والذين تنخفض القدرة الشرائية الحقيقية لما يحصلون عليه من أجور. فالولايات المتحدة تشهد ركوداً في المرتبات إستمر للثلاثة عقود الأخيرة. كذلك فالتضخم له بالغ التأثير على الإقتصاد فهو يؤثر في القدرة التنافسية الأمريكية حيث أنه يؤدي الى رفع تكاليف الإنتاج فترتفع أسعار المنتجات وتفقد القدرة على المنافسة عالمياً. وحسب متابعة موقع US Inflation الذي يتابع نسبة التضخم في الولايات المتحدة فرغم السعي الحثيث لسياسات المجلس الإحتياطي الفدرالي لإبقاء التضخم تحت السيطرة فقد ظلت معدلاته في إرتفاع متواصل وبإستخدام إحصائيات موقع US Inflation فسنخلص الى أن التضخم قد بلغت نسبته 19.33% في خلال العشرة أعوام الماضية (إذا إعتمدنا 2006 سنة أساس). الجدير بالذكر أن الإنخفاض المتواصل في أسعار النفط قلل الى حدٍ ما من نسبة التضخم في الفترة الماضية. إذ أن التضخم عادة ما يتبع التغيير في أسعار الوقود إرتفاعا أو إنخفاضاً. ففي مارس الماضي شهد التضخم إنخفاضا بنسبة%.1 لكن هذا كان دون النسبة المتوقعة وهي %.2.
ثقافة الإستهلاك التي زرعتها الرأسمالية في الشعب الأمريكي هي المسئول الأول عن الإرتفاع المستمر في الطلب فهي السبب الأول المباشر لعلة التضخم. كذلك فالتحول إلى الإستثمار في الرأسمال المالي وتراجع الانتاج البضاعي أدى الى شح العرض مقابل الطلب. التصنيع الحربي ساعد هو كذلك على إرتفاع نسبة التضخم. فهو ككل الأنشطة الإنتاجية يمد السوق بسيولة عن طريق الأجور التي يكسبها العاملون بكل أقسام عملية الإنتاج والأرباح التي تعود على أصحاب العمل. في حالة الإنتاج البضاعي العادي فإن ما يدفع به للسوق من بضاعة قد تماثل القوة الشرائية التي تخلقها الأجور والأرباح من عملية الإنتاج هذه، فتخلق توازن قي العرض الكلي(aggregate supply) والطلب الكلي (aggregate demand)لكن في حالة الإنتاج الحربي لا يقابل هذه السيولة عرض من السلع في السوق، فيؤدي ذلك لتفوق الطلب على العرض فترتفع نسبة التضخم. لكن التصنيع الحربي يعود للبرجوازية بفوائد جمة لا يمكن التنازل عنها، فهو موجه لحروب "اللصوصية" لنهب ثروات البلدان النامية وإجتياحها تحت شتى الذرائع. كما هو مصدر أرباح طائلة لتجار السلاح. بما أن التضخم هو ضرر لا يطال أرباح الرأسمال فهو لا يشكل هاجساً تغطيه سياسات البرمجة الإقتصادية، فهي سياسات الإنحياز فيها آخر ما يكون للمستهلكين بل هي تستخدم فقط كضامن لإستمرار الأرباح.
2) الديون السيادية
الديون السيادية قديمة قدم الولايات المتحدة فقد وُلِدت هذه الدولة ونشأت وهي مدينة لدول العالم. في تقرير لمجلة "ذا اتلانتك" ففي بداياتها في العام 1790 كانت ديون الولايات المتحدة تعادل 30% من الناتج الإجمالي. أما أزمة رفع سقف الديون التي تطل برأسها على رأس كل سنة وتهدد بإعلان إفلاس الحكومة فهي قضية مزمنة أيضاً، فقد تم رفع سقف الدين بالولايات المتحدة 79 مرة منذ عام 1960. هذه الحقائق تكشف لأي مدى بلغ فشل هذا الإقتصاد الذي تدفع الشعوب ثمن تربعه على أعلى مستوى عالمياً من خلال تدميرها ونهب ثرواتها. هذه الحقائق تكشف أن مسألة أكبر إقتصاد هذه "فرية" لا يمكن أن يسندها أو يدعمها أي نظام إحصاءٍ، لكن المتعارف عليه هو تقييم الإقتصاد بحساب الناتج المحلي الإجمالي دون حساب للعجز في الميزان التجاري. وهل هنالك قوة حقيقية للناتج الإجمالي إذا كانت الديون تتفوق عليه؟ فقد تجاوزحجم الدين الفدرالي 19 ترليون دولار، بنسبة 105% من حجم الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. قد يتبادر لذهن القارئ أن هنالك حسابات معقدة هي التي وراء هذا اللغز، لكن جبروت الولايات المتحدة هو وحده الذي يوجه ميزان هذه المعادلة، فالمسألة بهذه البساطة: إجمالي ناتج عام وإجمالي دين. في كل عام يطلب رئيس الولايات المتحدة من الكونغرس رفع سقف الدين وإجازة الميزانية وفي كل عام تكون الدولة مهددة بالإفلاس ووقف العمل في مؤسساتها العامة.
هذه بعض الحقائق عن الدين الأمريكي: (1) حسب مكتب الميزانية في الكونغرس أن الدين الأمريكي بلغ 19.5 ترليون تقريباً بعد أن وافق الكونغرس سابقاً على رفع سقف الدين من 18.5 تريليون دولار إلى 19.6 تريليون دولار. (2) هذا الدين بواقع مديونية قدرها 59,593.91 دولار على كل مواطن أمريكي. (3) يتوقع مكتب الميزانية كذلك أن يصل إجمالي الدين العام بنهاية 2016 إلي 20ترليون دولار، وإلى 22.6 تريليون دولار بحلول عام 2020، و29.3 تريليون دولار بحلول عام 2026. (4) يزداد الدين بواقع 2.47 مليار دولارفي اليوم الواحد. (3) قد بلغ إجمالي ما دفعته الولايات المتحدة من فوائد على دينها العام في 2015، 223 مليار دولار أي ما يعادل 6% من الميزانية العامة. وحسب مكتب الميزانية فإن هذه الفوائد ستتضاعف ثلاثة مرات بمرور العقد القادم.
السبب المباشر في العجز المتواصل للميزانية هو إحتداد التناقضات في النظام الرأسمالي. الأزمات الدورية والتي تصيب السوق بالكساد والإقتصاد بالركود أو التباطو تُعالج بالخطط الإسعافية وبرامج الإنقاذ الضخمة التي تنفذها الحكومة لإستعادة مستويات النشاط الاقتصادي والتي تشمل المساعدات التي تقدم للشركات والمؤسسات المالية المنهارة أو المشرفة على الإنهيار وشراء الديون الهالكة وبالإعانات التي تقدم للمواطنين بغرض الدفع بقوة شرائية تحرك السوق. فمنذ بداية الأزمة المالية التي بدأت في الولايات المتحدة وتمددها عالمياً والكساد الذي تبعها أخذت معدلات النمو في الدين الأمريكي في التزايد وفاقت معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي. كذلك ظلت نفقات التأمين الإجتماعي تستقطع جزءاً مقدرا من الميزانية بسبب البطالة التي يزيد من حدتها توالي الأزمات الدورية. ما يتقاضاه العامل بالكاد يغطي نفقاته اليومية، أي بالقدر الذي يؤمن أستمرار قوة عمله. لذلك عندما تلقي به الأزمات للشارع يتوجب على الدولة إعانته وبالقدر الذي لا يتعدى الحفاظ عليه كمصدر لقوة العمل. هذه الإعانات تزيد من الإنفاق الحكومي وترهق الميزانية. أما الميزانية العسكرية والتي تتضمن الإنفاق على الأساطيل الحربية التي تجوب البحار والقواعد العسكرية المنتشرة في كل قارات العالم بغرض فرض الهيمنة وإرضاء جشع تجار السلاح فهي تثقل الميزانية بترليونات الدولارات.
تلجأ الولايات المتحدة للإستدانة لتدفع فوائد ديونها لذلك يتكرر سيناريو رفع سقف الدين الامريكي عند عرض الميزانية كل عام. البديهي أن هذه الحالة لن تستمر الى ما لا نهاية. وفي الحقيقة قد بدأ القلق يساور الدول المدينة للولايات المتحدة وعلى رأسها الصين إذ أن عجز الولايات المتحدة عن دفع الإستحقاقات سيتسبب في كارثة نسبة للمديونية الضخمة. وقد بدأ بالفعل إهتزاز الثقة بالوضع المالي والإقتصادي للولايات المتحدة نسبة لفشلها في معالجة أزمة الديون. كذلك فقد ظلت الأسهم الأمريكية تتراجع عالمياً كردة فعل للأزمة التي تنشب عند عرض الميزانية على الكونجرس كل عام. أوردت "السي إن إن" أنه في أغسطس 2011 خفضت وكالة "ستاندرد آند بورز" التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، فأدى ذلك لإضطرابات في أسواق المال العالمية. وفي أكتوبر 2013 وضعت وكالة "فيتش" للتصنيف الإئتماني الولايات المتحدة قيد المراجعة مع إمكانية تخفيض تصنيفها الإئتمانى ولكنها عادت وأعلنت في مارس 2014 انها لا تعتزم تخفيضه في الأمد المتوسط بعد أن أجاز الكونغرس في فبراير 2014 للحكومة الإقتراض بدون سقف محدد حتى مارس 2015. مع ملاحظة إحتجاج كثير من دول العالم على أن وكالات التصنيف الإئتماني تكيل بمكيالين في تقييمها، وأنها تقع تحت تحت الهيمنة الأمريكية.
ليست هنالك أي مؤشرات لخروج الولايات المتحدة من هذا المأزق نسبة لتباطؤ النمو الإقتصادي. وهنالك سيناريو قريب الإحتمال وهو فشل الولايات المتحدة في الحصول على مزيد من الديون، فقد فقدت السندات الأمريكية مكانتها كأصول آمنة. كما أن أي خفض آخر للتصنيف الإئتماني سيرفع معدل فوائد السندات الطويلة الأمد. كما سيتأثر وضع الدولار في العالم، والذي بدأ في التهاوي منذ إنهيار مصرف ليمان برادرز إبان أزمة 2008.