السياسة بين النظرية والتطبيق


نضال الصالح
2016 / 9 / 8 - 22:14     

السياسة بين النظرية والتطبيق
قبل مدة توفي صديق لي فذهبت للمشاركة في مراسيم جنازته. أقيمت مراسيم الجنازة في محرقة مدينة براتسلافا والتي تقوم على رأس جبل قريب من المدينة، ولقد أوصى صديقي قبل مماته أن تحرق جثته ويذر رمادها في مياه نهر مورافا، في المنطقة التي يلتقي عندها نهر مورافا مع نهرالدانوب، ويقع المكان قريبا من سفح جبل دفين حيث يقع على رأسه قمته القصر المورافي التاريخي دفين . كان صديقي مورافيا متعصبا لمورافيته، فخورا بالحقبة التاريخية لمملكة مورافيا الكبرى، وكان إذا سالته إن كان تشيكيا أجابك بأنه مورافي، مع أن مورافا اليوم هي جزء من الجمهورية التشكية. كان صديقي خفيف الظل، صاحب نكتة، صريحا ولاذعا في نقده، وكان بذيئا جدا، ولكن بذاءتة مقبولة لما تحتوي من فكاهة. وكانت كلماته البذيئة، إذا خرجت من فم غيره، منفرة وكريهة وغير مقبولة، ولطالما حاول البعض تقليده إلا أنهم فشلوا وجرى إهمالهم.
تقام مراسيم الجنازات في قاعة تشبه قاعات المسارح ، ويعرض التابوت على خشبة المسرح، مغطى بالزهور والأكاليل التي أحضرها المعزون . دخل المعزون والأقارب وأخذوا أماكنهم في القاعة وعم السكون المكان إلى أن بدات تعزف مقطوعة من سيمفونية موطني للموسيقار التشيكي المعروف سموتانا. ولقد جرى عزف هذه السيمفونية حسب وصية المتوفي، وكانت تسمع أصوات بكاء زوجته وشهيق إبنته الوحيدة التي حضرت من أمريكا حيث تقيم مع زوجها وأطفالها.
قام قسيس جاء خصيصا من مدينة برنو المورافية ، مسقط رأس صديقي، وألقى كلمة عن المتوفي وقام بعدها بالصلاة عليه. وبعدها بدأ التابوت، بواسطة سلالم كهربائية، ينخفض تدريجيا باتجاه المحرقة، حتى اختفى. ولقد دارت في مخيلتي أسئلة عن تعليق رجال الدين في بلادنا، الذين يتحدثون عن عذاب القبر، وما سيقولونه عن عذاب رماد الجثة المحروقة والذي سيسبح في مياه النهرين مورافا و الدانوب وينتقل إلى بلدان كثيرة يمر بها النهران، فضحكت من سخف رجال الدين في بلادنا المنكوبة بهم.
وقف المعزون واتجهوا نحو باب الخروج, حيث وقفت أرملة صديقي وابنته واتجه المعزون في صف طويل ليقوموا بتعزية الأرملة وابنتها. وقفت مع الواقفين أنتظر دوري وفجأة شعرت بأحدهم يربت على كتفي فأدرت وجهي لأجد أمامي صديقا قديما لي، تجمعنا صداقة قديمة منذ أيام الدراسة ولقد شاركنا سكن الطلاب لأكثر من ستة أعوام ولقد تخرج من كلية القانون وتخصص في القانون الدولي. بعد سقوط النظام الإشتراكي انضم إلى الحزب اليساري، حزب الديموقراطيين الإجتماعيين وأصبح من رموز الحزب وقيادييه.إحتل صديقي على مر الأيام مراكز حكومية مهمة وكان يوم لقائي به مساعد وزير خارجية الدولة. قال صديقي:" ستدعوك أرملة المرحوم إلى حفلة الغداء التي ستقام على روح الفقيد، فاعتذر منها وأنا أدعوك إلى الغداء في مطعم في المدينة وستكون مناسبة لكي نتحدث فلم نلتق منذ مدة طويلة".
ودعنا الأرملة واعتذرنا عن الحضور إلى الغداء وغادرنا. كانت السيارة الحكومية مع سائقها ينتظران صديقي في الموقف الخاص بالدبلوماسيين ورجال الحكومة، أما موقف سيارات العامة فيقع في أسفل الجبل وعلى الزوار أن يصعدوا مشيا على الأقدام عبر طريق خاص أعد لذلك. أما أنا وبسبب حالتي الصحية، فلقد تركت سيارتي في موقف وسط المدينة وأخذت سيارة أجرة أوصلتني حتى باب المبنى وغادرت.
دخلنا المطعم واختار صديقي طاولة منعزلة ودعاني إلى الجلوس. فاجأني بأنه أخرج من جيبه هاتفه النقال وقام بفتح الغلاف وأخرج من الهاتف كرت المعلومات ووضعه في جيب قميصة وطلب مني أن أقوم بالمثل. سألته متعجبا، لماذا يقوم بذلك وما الذي يخشاه وهو عضو مهم في الحزب الحاكم والحكومة الحاكمة. أجابني بأن السياسة في الواقع هي مسرح صراع للمعلومات حتى بين أعضاء الحزب الواحد وأعضاء الحكومة الواحدة، وكل فرد يجمع عن الآخر ما يستطيع من المعلومات تكون مقومات دفاع عن النفس تحسبا لأي طارئ وهو يحطاط لأننا سنتحدث في أمور حساسة ولا يرغب أن تسمع من آخرين قد يستعملوها ضده في المستقبل.
فعلت ما طلبه مني وفتحت هاتفي النقال وأخرجت كرت المعلومات ووضعته في مكان منعزل في أحد جيوب معطفي. طلبنا الطعام والشراب وأخذنا نتحدث في شتى المواضيع أولها ذكريات الأيام التي عشناها كطلبة معا والمواقف المضحكة لصديقنا المتوفي. ثم انتقلنا إلى السياسية المحلية والعالمية وأطلعني على تفاصيل الخلافات بين رئيس الحكومة ووزير الداخلية والتي كان المطلعون يتهامسون عنها. ثم أخبرني أنه قرأ كتبي جميعها ومدح محتواها ومنها أخذ يتحدث عن القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني ضد الإحتلال الإسرائيلي والصهيونية ثم انتقل للحديث عن أمريكا ووجه إنتقادا لاذعا لسياستها ووقوفها خلف جرائم الدولة الصهيونية إسرائيل .ولقد دهشت لسعة معرفته بالقضية الفلسطينية ولموقفه من نضال الشعب الفلسطيني. كما أدهشني شدة عدائه لأمريكا والصهيونية العالمية وتدخل أمريكا السافر في شؤون البلدان الأخرى، حتى أنه حدثني أن السفير الأمريكي يحتج على كل كلمة نقد لحكومته في الصحف السلوفاكية، حتى أن الحكومة، تحت ضغط السفير الأمريكي، اضطرت أن تتدخل وتقوم بالضغط على بعض الصحف لتخفيف لهجتها النقدية تجاه أمريكا وإسرائيل.
أصر صديقي على دفع فاتورة المطعم وخرجنا. كانت السيارة الحكومية وسائقها ينتظران أمام المطعم. فتح السائق باب السيارة وانتظر. عرض علي صديقي أن يوصلني إلى أي مكان أرغبه فاعتذرت. مد يده ليصافحني مودعا ثم قال :" كل ما قلته في الداخل، يا صديقي، هو رأيي الشخصي، وحالما أجلس في هذه السيارة سأتحدث باسم وزيري، ووزيري سيتحدث حسب سياسة الإتحاد الأوروبي الرسمية، هذه هي السياسة يا صديقي، ليس كل ما نؤمن به يمكننا أن نطبقه على أرض الواقع." ثم ودعني ودخل سيارة الحكومة وأغلق السائق بابها ثم جلس خلف المقود ورحل وبقيت أرقب السيارة حتى غابت عن أنظاري. تذكرت صديقي المتوفي وتساءلت كيف سيكون تعليقه لو أنه حضر جلستنا وسمع ما قاله صديقنا السياسي وضحكت، لأنني أعرف تماما بأن تعليقه كان سيكون لاذعا وبذيئا.
نضال الصالح