ما الذي يعيق توحّد اليسار في تونس؟*


مرتضى العبيدي
2016 / 9 / 6 - 02:55     

ليست هذه هي المرة الأولى التي تخصص فيها الفكرية ملفا لتدارس مظهر من المظاهر المتعلقة باليسار فكرا وممارسة. فقد سبق أن خصصنا ملف العدد التاسع لموضوع الجبهة وهي إحدى أشكال تجميع قوى اليسار، كما تناولنا في العدد التاسع عشر مسألة اليسار والحكم. وفي الملف الأول كما في الثاني، كانت بعض الأسئلة تتكرّر، منها ما يتعلق بمفهوم "اليسار" ذاته، وبهويته وحدوده. إذ أن هذا المصطلح الذي ظهر في ظرف تاريخي محدّد عرف كغيره من المصلحات تطوّرات في الزمان والمكان حتى لكأنه أصبح يدلّ على الشيء ونقيضه. ومن الأسئلة المتكرّرة ما يتعلق بحالة التشرذم التي يعرفها هذا التيّار، وتبعا لذلك يتساءل مناضلوه كما الملاحظين عن السبل المؤدية إلى وضع حد لهذه حالة.
واليوم فإن سؤال الوحدة والتوحيد يتكرّر بأكثر إلحاح خاصّة إبّان المعارك السياسية وبالأخصّ منها الاستحقاقات الانتخابية التي أفرزت جميعها نتائج لا تعكس الحجم الحقيقي لهذا التيار الفكري والسياسي، لأنه كان يخوضها بصفوف مشتتة، فيستخلص الجميع أن التجاوز لن يكون إلا بالتوحيد أيّا كان شكله. وهنا يكمن بيت القصيد. فما المقصود بتوحيد اليسار؟ وأيّ من أطراف اليسار معنيّة بهذا التوحيد؟ وقد زادت هذه القناعة رسوخا لدى طيف من اليساريين بعد النتائج التي حققتها الجبهة الشعبية في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة. وهي وإن لم تعكس بعد حجم هذا التيار وحجم تضحياته وتاريخه، فقد جعلت من الجبهة الشعبية ـ وهي تمكّن بعض اليسار من خوض المعركة لأوّل مرّة بصفوف أقل تشتتا ـ جعلت منها جسما مرئيا وبوّأتها المرتبة الثالثة من بين القوى السياسية الفاعلة في البلاد. لكن وبالرغم من ذلك تتواصل مسوّغات التشتت ويواصل البعض الاستماتة في الدفاع عن هذا الوضع.
إن الظروف الموضوعية التي نشأ فيها اليسار والمتّسمة بالمنع والقمع الشديد الذي سُلط على مختلف مكوّناته حرمته من النموّ الطبيعي ومن الالتحام بالقوى الاجتماعية التي يتبنّى همومها ويحمل فكرها ويطمح أن يكون معبرا على طموحاتها، وجعلته يتطوّر أساسا في أوساط فئات المثقفين والشباب. وحتّى إذا ما استطاع في ظرف ما استقطاب بعض العناصر العمّالية والشعبية، فإنّ هذه الأخيرة سرعان ما تنسلخ عن جلدها وتتطبّع بطباع الوسط الجديد الذي تكتشفه. وفي مثل هذه الأوساط، تطوّرت عبر عشرات السنين (إذ أن عمر اليسار الجديد وحده تجاوز اليوم النصف قرن) ممارسات وعقليات أقلّ ما يُقال فيها أنها فئوية، ضاعت فيها البوصلة في غالب الأحيان وأخطأت الأطراف في تحديد طبيعة المرحلة وطبيعة التناقضات التي تحكمها، وبالتالي أخطأت في الفرز بين الأعداء والأصدقاء. فحلّ التنافر محلّ التقارب، وصيغت المواقف لا اعتمادا على المعرفة الدقيقة للآخر بل على الانطباعية والأحكام المسبقة وعلى الجزئيات، واليقينية، ممّا عمّق الهوّة بين مختلف الفصائل والأطراف التي راحت تتشرذم أكثر فأكثر يوما بعد يوم، وشيّدت حولها أسوارا من الأساطير والخرافات لحماية نفسها لا من العدوّ الحقيقي بل من العدوّ المُختلق في الذهن وفي القناعات المتحجّرة.
واليوم ورغم توفّر الظروف للتعرّف على الآخر، وللاقتراب منه، نلاحظ أن المشهد اليساري لم يتغيّر إلا قليلا، وأن الرغبة لا في التوحّد بل في مجرّد العمل المشترك ليست شغلا شاغلا لدى مختلف هذه القوى، بل إن التموقع في نفس الخانات وبنفس الأطروحات هو المظهر السائد، بل لعله تعمّق جرّاء ما وفّره المسار الثوري من بعض الحريات جعل بعض المنظمات تغادر السرية للإعلان عن وجودها. ويتخذ هذا الإعلان عادة صيغة التبرّؤ من الآخر اليساري وإعلان قائمة الاختلافات معه، دون ذكر ولو لنقطة وحيدة تبرّر العمل المشترك معه ولو جزئيا. فنجد أنفسنا مجددا أمام مشهد سريالي يختلط فيه الحابل بالنابل ويفقد فيه الدارس المتبصّر البوصلة إذا ما حاول المغامرة باقتحام هذه "القلاع الوهمية" والتعرف على الآليات الفكرية لاشتغالها. فمجرّد استعراض قائمة الأحزاب والتنظيمات التي تنطلق أو تدّعي الانطلاق من مرجعيات الفكر اليساري يُصاب الإنسان بالدوار، لكن فلنفعل حتى نعطي فكرة عن حجم الدمار السائد :
حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي (سليل الحزب الشيوعي التونسي فالتجديد)، حزب العمال، حزب العمل الوطني الديمقراطي، الحزب الاشتراكي، حزب تونس الخضراء، حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، رابطة اليسار العمّالي، الحزب الوطني الاشتراكي الثوري، الوطد الثوري، القطب الديمقراطي الحداثي، حزب النضال التقدمي، الجبهة الشعبية الوحدوية، حزب النضال الوطني، حزب الكادحين، حزب حركة العمل، منظمة العمل الشيوعي، حزب الطريق... ولا نعتقد أننا أوفينا بالحاجة لأن لمعظم هذه التنظيمات تفرّعات ناتجة عن انشقاقات أو عن انفلات بعض قطاعاتها الشبابية والنقابية خاصة وبروزها تحت مسميات أخرى. كما أن هناك ولا شك تنظيمات أخرى لم يتجاوز صيتها بعد دائرة مؤسسيها، دون نسيان الكمّ الهائل من "المستقلين" أو "غير المنتظمين" والمنتسبين لهذا اليسار والذين يصعب إحصاؤهم كما يصعب تحديد ما يؤلف بينهم وما يفرّقهم عن كل هذه التنظيمات.
إننا ونحن نستعرض هذا الوضع، فذلك لتبيان أهمية السؤال الذي يطرحه هذا الملف والذي لا نعتقد أن المساهمات المنشورة ستوفيه حظه، بل إن أملنا هو أن يكون هذا الملف فاتحة لنقاش رصين وثري يساعد على وضع الأسس لنقاش أعمق ولتبيّن الخطوات العملية الممكنة لإخراج هذا المشروع من حيّز الجدل إلى حيّز الواقع. أملنا أن تتفاعل الأقلام مع ما يطرحه هذا العدد ونحن نعد بفسح المجال في قادم الأعداد للتعقيبات والردود والإضافات شرط احترامها لآداب النقاش البناء.
__________
* افتتاحية العدد 28 لمجلة الفكرية (جويلية / أوت 2016)