ثامر الصفار - باحث ايكولوجي ماركسي - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الماركسية ما بين التطوير وتحديات القبول.


ثامر الصفار
2016 / 8 / 25 - 20:55     


من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -183- سيكون مع الأستاذ د. ثامر الصفار - باحث ايكولوجي ماركسي -  حول: الماركسية ما بين التطوير وتحديات القبول.




سأبدء بطرح بعض الاساسيات المعروفة تمهيدا لمحاولة وضع النقاط الاساسية للحوار. وما سأطرحه لا يعدو سوى محاولة لطالب علم يسعى الى ان يساعده زملائه واساتذته في تقويم ما يطرحه :

1- تتميز الماركسية بأنها عملية وعلمية في آن واحد. وكانت قد انطلقت من جدلية هيغل وتطبيقها على التاريخ والطبيعة لتقول بأن كل كائن حي ينطوي في داخله على عوامل تغييره. ففُسر التاريخ وحركته كسلسلة من التناقضات يولد الواحد منها ما يليه عبر سيرورة الميلاد والنمو والفناء، لنصعد بحيواتنا من الادنى الى الاعلى.
2- ثم ظهر الخلاف مع هيغل لقوله بأن «الفكرة» موجودة منذ الازل وجرى تجسيدها في الطبيعة كنقيض، لتدخل بعد ذلك في وعي الانسان المفكر ليتولد عنها تركيبة او جميعة جديدة. أي، ان الفكرة أو الانسانية المفكرة هي التي تصنع التاريخ.
3- عندها قال ماركس بأن هيغل » أوقف الإنسانية على رأسها« وأكد بأن الواقع المادي (الاقتصادي) للحياة هو الذي يولد وعي البشر ويحكم بالتالي مايختارونه من بنية فوقية يجب ان تنسجم مع ذلك الواقع وإلا وقع التناقض الذي يتوجب تصحيحه.
4- وعند تفسيرالتاريخ على اساس مادي (اقتصادي) يتميز امامنا جانبان: الاول، هو وجود بنية تحتية تمثلها قوى الانتاج، وبنية فوقية تمثلها مختلف جوانب الحياة الانسانية ( علاقات الانتاج). والجانب الثاني، ظهور تناقض بين البنيتين وممثليها ( تناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج)، وهو المعروف عندالماركسيين بأنه التناقض الرئيسي، الذي يولد أزمة تعجل بالانتقال الى شكل أرقى في اسلوب الانتاج. وهذا الانتقال بحاجة الى من يقوم به أي حامل اجتماعي يكون له المصلحة الاساسية في التحول.
5- في المراحل المتأخرة من الرأسمالية ، وحسب التناقض الرئيسي لها تكون الطبقة العاملة هي صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير، إذ « لن تخسر سوى قيودها».

مقابل ذلك كان لابد من وجود الطبقة الرأسمالية صاحبة المصلحة الحقيقية في عدم التغيير. ولهذه الطبقة مفكريها ايضا، خصوصا الذين استوعبوا الماركسية وفهموا التناقض الرئيسي ذي الطبيعة المتأصلة والثابتة، وادركوا ضرورة التعامل مع الحامل الاجتماعي، الطبقة العاملة، باعتبارها المتغير الوحيد الموجود امامهم.

قُسمت الطبقة العاملة الى قسمين يعيش الاول منها في بلدان المركز والثاني في بلدان الاطراف. وجرى التعامل مع كل قسم منهما على اساس مخطط مدروس بعناية أبتدء العمل به منذ ستينيات القرن الماضي وامتد الى نهاية التسعينيات. وكانت حصيلة ذلك على صعيد المركز ان للعمال ما يخسرونه في حال رفضهم للواقع المادي (الاقتصادي). وعلى صعيد الاطراف تقليص الطبقة العاملة واشغال المتبقي منها بقضايا فرعية (مذهبية، قومية، دينية..الخ) اعتمادا على تركيبة الطبقة العاملة العربية القادمة اساسا من الفلاحين المهاجرين الى المدن وعدم تجذر الوعي الطبقي لديهم، وهو ما ادى بالتالي، بفعل توالي الضربات، الى اليأس وتشتت قوى اليسار.

على اساس ما تقدم لم اكن ميالا الى قبول تسمية او تعبير الربيع العربي لوصف الاحداث التي جرت في بلداننا، الذي كان منبعه وسائل الاعلام الغربية ثم تلاقفه الجميع. فالهدف برأي المتواضع، من هذا التعبير هو حصر ما جرى ويجري من احداث في المنطقة العربية وعدم لفت الانظار الى الصفة العالمية للاحداث. وحسبي التذكير بما حصل ويحصل في اوروبا وامريكا. بمعنى آخر ان ما يحدث يرتدي سمة عالمية ولا يقتصر على منطقة معينة. وبالتالي يتوجب علينا معاينة المشتركات في تجلياتها المنطقية الامر الذي يمكن او يوصلنا الى فهم الاساس النظري لها:

كان اندلاع الاحداث على يد الشباب، المتعلم منهم خصوصا والقادر على الاستفادة من تقنيات المعلوماتية، وهم من يمكن تسميتهم بشغيلة الفكر اذ لا يملكون سوى معرفتهم التي يبيعونها مقابل اجر شهري ولا يملكون وسائل انتاج. بيد ان مشاركة بقية فئات الشعب كانت هي العامل الاساسي في استمرارها وحتى نجاحها الاولي. وميزة هذه المشاركة انها جرت على اساس مطالب عامة لا تخص الطبقة العاملة لوحدها بل جميع فئات الشعب باستثناء الرأسمالية الطفيلية والكومبرادورية المرتبطة بالبيروقراطية السلطوية.
لم تكن هذه الجماهير (الاغلبية) صاحبة ايديولوجية معينة او متحزبة، لكن ذلك لا ينفي الدور الذي لعبته الاحزاب السياسية المتواجدة في كل بلد خلال السنين السابقة.
كما امتازت حركة الجماهير بشعارات ذات طبيعة قطرية، لكن تشابه الحالة في العديد من البلدان جعل الشعارات تتشابه ( حرية، عدالة، كرامة انسانية، توزيع عادل للثروات، القضاء على الفساد الحكومي، والحريات الديمقراطية).
وكانت هذه الجماهير اللاحزبية معادية للرأسمالية سواء عرفت ذلك (اوروبا واميركا) ام لا (البلدان العربية) لان السبب في اوضاعهم وظروف معيشتهم المزرية التي دفعتهم للانتفاض ضدها ومحاولة تغييرها كان النهج الرأسمالي الذي مكن كبار الرأسماليين من التحكم بمقاليد الحكم وجعل الدولة ومؤسساتها وشعبها في خدمتهم (تونس، مصر، سوريا، ايطاليا، اليونان وغيرها).

وعلى اساس ما تقدم يمكن القول ايضا بأن النتائج التي صبت في صالح تيارات الاسلام السياسي مفهومة في منطقتنا استنادا الى الاسباب التي ذكرناها آنفا، بيد ان هذه الظاهرة لا تقتصر على منطقتنا فقط فهذه شعوب بعض الدول الاوروبية تتجه لانتخاب احزاب اليمين بعد فشل احزاب الاشتراكية الديمقراطية في تقديم الحلول وضعف القوى اليسارية الحقيقية في تقديم خطاب متطور ينسجم مع حركة التاريخ وتطوراته. لنتذكر ان الكساد العظيم في اوائل القرن الماضي كان احد اسباب نشوء وصعود النازية الى السلطة!.

تتمحور مداخلتي على فكرة ان الحكاية الماركسية التقليدية حول التناقض الرئيسي والمركزي للراسمالية: تناقض بين قوى وعلاقات الانتاج الراسمالية، يجب تكملته بفهم جيد لتناقض ثانٍي: بين قوى وعلاقات الانتاج من جهة وبين ظروف الانتاج من جهة اخرى

 }قوى الانتاج « علاقات الانتاج { «
ظروف الانتاج

 
يتولد عن التناقض الاول ازمات فيض الانتاج وحركة عمالية واسعة، ولا ينتهي هذا التناقض الا بقيام علاقة جديدة بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج من خلال اعادة تشكيل نفسها باتجاه المزيد من جتمعة قوى الانتاج. وخلال هذه العملية تكون الحركة العمالية بمثابة الوسيط اللازم للانتقال الى المجتمع الجديد. بيد ان هذا الانتقال ليس مسألة مضمونة مقدما، لكنه، على الاقل، قابل للتصور او الخيال بفعل تأثيرات الازمة الراسمالية وبفعل تنامي الطابع الاجتماعي للانتاج الراسمالي نفسه.

التناقض الثاني المطروح هنا يحاكي الاول في ميله الى توليد الازمات وحركة اجتماعية عريضة (منظمات بيئية، حقوق انسان، وغيرها من منظمات المجتمع المدني) تصبح هي الاخرى عائقا آخر بوجه التراكم الراسمالي، وستطالب باعادة تشكيل ظروف الانتاج باتجاه اضفاء طابع اكثر اجتماعية عليها. وعليه يمكن القول بوجود طريقين الى المجتمع الجديد، الاشتراكي: طريق العمال وفق التناقض الاول، وطريق الحركات الاجتماعية في اطار التناقض الثاني. وهذا، طبعا، يترك فضاءا رحبا لمزيد من الابحاث في موضوعة التفاعل بين التناقضين والنتائج التي تتمخض عنهما، وفي علاقة التعاون والمشاركة بين قوى التناقض الاول وقوى التناقض الثاني.

المسألة المهمة هنا هي عدم التعامل مع مفهوم الراسمالية على انها مجموعة من العلاقات الاقتصادية فقط، بل ثمة تأثير كبير للثقافة والحضارة بشكل عام على قوى وعلاقات الانتاج، وبالتالي فان تعريف " ظروف الانتاج" المستخدم ينطوي على جملة من العلاقات الاجتماعية والسياسية، بما في ذلك اشكال العائلة، العمليات المدينية، وسائل الاتصال، مؤسسات الدولة خصوصا تلك المعنية بتهيئة ظروف الانتاج.

فسياسات الدول يمكن ان تكون مصدرا لاعظم المشاكل التي يمكن ان يكون لها صلات غير مباشرة بعملية تراكم رأس المال، مثالنا على ذلك: التطوير اللاعقلاني، اقتصاديا، للطاقة النووية والصناعات التحويلية، وربطهما بالاحتياجات العسكرية لمادة البلوتونيوم. كما ان لعمليات استهلاك البضائع المنتجة اهمية هي الاخرى ومثالنا: استعمال السيارة الخاصة وما يصاحبها من بنية تحتية تنسجم مع هذا الاستخدام وتأثير ذلك على تلوث البيئة ودمارها. وهذا لا يعني بتاتا ان علينا معاينة الاستهلاك بمعزل عن الانتاج، بل " كلحظة " متميزة من النشاط الاجتماعي – الاقتصادي.

ان ما ينتج ايكولوجيا من التناقض الثاني لا يؤثر على عملية التراكم الرأسمالي فقط، بل ان له اهمية اخرى، فنشاطاتنا وممارساتنا اليومية، كبشر، خارج نطاق عملية الانتاج، لها " ظروفها" ايضا كما هو حال الانتاج وظروفه: الشوارع الامينة والهادئة والخالية من التلوث، توفر الاماكن للعب الاطفال خارج المنازل، حرية الحركة للنساء داخل المدينة، توفر فرص للجيران كي يلتقوا ببعض في اماكن عامة، توفر اماكن التنزه للعوائل. بمعنى آخر ان اهمال رأس المال لظروف الانتاج يمكن ان يجر ايضا الى اهمال الممارسات الاجتماعية اللاانتاجية الاخرى، وغالبا ما تشكل هذه التأثيرات غير المباشرة ،للتناقض الثاني، على حياة الناس " المادة الخام" لقضايا الصراع.

من هنا جاءت المحاولة للربط بين الماركسية والايكولوجيا، اي اعادة الطابع الانساني الى الماركسية الذي اهمل لصالح التركيز فقط على الجانب المادي (الاقتصادي). لقد اكد ماركس وانجلز على ان الظروف هي التي اجبرتهم على التركيز على العامل الاقتصادي في التغيير تاركين الجانب الانساني الى فرصة اخرى، وهو ما حاول ماركس عمله في سنواته الثلاث الاخيرة قبل وفاته اذ عاد الى دراسة ابحاث مورغان وماين وفير وغيرهم من علماء الاعراق البشرية، عاد ليدرس حياة الناس من خلال التجربة الملموسة بعد ان كان قد درسها في شبابه من منطلقات فلسفية بحتة، وترك لنا دفاتر ملاحظات غنية حول علم الاثنيات (الاثنولوجيا) التي لم تنشر بالعربية لحد الان.

علينا ان نعيد صياغة فهمنا للقوى المحركة للثورات وادراك أن الطبقة العاملة هي ليست صاحبة المصلحة الوحيدة، في التحول الى المجتمع الجديد. فماركس نفسه وبرغم تأكيده على حتمية التناقض الرئيسي إلا انه لم يقل انه التناقض الوحيد وفسح المجال للمزيد من الابحاث حسب تطور التاريخ والحياة – النظرية رمادية....لكن شجرة الحياة خضراء - لاكتشاف تناقض ثان يصب في مصلحة التحول الى المجتمع الجديد.

ان علينا كماركسيين ان ننظر للامر على اساس المنهج التحليلي التركيبي الماركسي، وإن كنا نؤمن بصحة ويقينية التناقض الرئيسي للرأسمالية فهذا لا يعني ابدا التوقف عنده والايمان بحتمية الانتصار ( خصوصا في بلداننا حيث الضعف الواضح في تركيبة الطبقة العاملة كميا ونوعيا) فماركس نفسه لم يقل ذلك بل اكد على ضرورة اتباع المنهج ضمن التطورات التاريخية لكي نستطيع ان نطرح خطابا ينسجم مع المعطيات.

القضية الثانية التي اود طرحها هنا للحوار تتعلق بالمقدار الذي وصل فيه ماركس وانجلز الينا عربيا.

فمن المعروف ان الارشيف الكامل لكل ما كتبه ماركس وانجلز قد انتهى به المطاف عند المعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي في امستردام. وهناك اليوم حوالي 12 فريقا دوليا متفرغا لتحرير الارشيف ونشر المؤلفات الكاملة التي لايزال امامهم حوالي 50 مجلدا حيث ان العدد الكلي هو 114 مجلدا. وهذه طبعا باللغة الالمانية. اما الطبعة الانجليزية فتتكون من 52 مجلدا سميت بالكاملة برغم النقص فيها، فهي تضم ما نشره ماركس وانجلز خلال حياتهما فقط، اضافة الى جزء من المراسلات. ولكن عند الحديث عن النشر العربي نجده لا يتجاوز بضعة كتب والعديد من المقتطفات. وهذا يقودنا الى السؤال عن مدى معرفتنا كماركسيين عرب بماركس وانجلز. القلة من الترجمات العربية لا تحمل الاخطاء، والاخرى جاءت مؤدلجة ( حسب قناعات الماركسية السوفيتية) ومنتقاة للقارئ العربي. لقد مر ماركس بتطور كبير في افكاره وكان يعود اكثر من مرة لينقح ما كتبه بعد قراءته لكتاب جديد او حصوله على معلومة جديدة، وبالتالي لن يكون كافيا ان يتوفر لنا كتابات 1845 حول موضوع معين ولا يتوفر لنا ما كتبه حول نفس الموضوع عام 1885 مثلا.

لقد قرأنا ضد- دوهرنغ لكننا لم نقرء دوهرنغ نفسه، قرأنا بؤس الفلسفة ولم نقرأ فلسفة البؤس لبرودون، قرأنا اقتباسات ماركس من الميثولوجيا الاغريقية واليونانية ولم ننتبه انه لم يكن مطلعا على الميثولوجيا السومرية والبابلية التي لم تكتشف الا في بدايات القرن العشرين..وهكذا.. وبالتالي عندما توفرت الفرصة لبعض الباحثين للاطلاع على ماركس بلغات اخرى وتوفرت امامهم الادوات لاضافة او تعديل او تطوير قامت القيامة ولم تقعد عند البعض ممن يقدسون النصوص ومن اللذين حولوا الماركسية الى دين. حيث تتوالى الاتهامات بالتحريفية والخروج عن النص ( اي نص هذا؟ أهو لماركس الشاب ام لماركس الناضج؟..أهو النص المؤدلج والمقتطف أم هو النص الكامل الاصيل كما وضعه ماركس او انجلز؟)