تجاهل البدائل


فريدة النقاش
2016 / 8 / 18 - 10:18     

دعا رئيس الوزراء لاجتماع مع عدد من الكتاب والإعلاميين وأعضاء مجلس النواب والهيئات البرلمانية مستهدفا إطلاعهم على تفاصيل المفاوضات التى تمت مع صندوق النقد الدولى وانتهت لتوقيع إتفاق مبدئى يمنح الصندوق بمقتضاه قرضا لمصر قيمته 12 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات.
ويصف رئيس الوزراء دعوته تلك بأنها تطبيق لما تسميه الحكومة بـ “الحوار المجتمعي”، أى أنها تعتبر هؤلاء الأفراد المختارين ممثلين للقوى الاجتماعية المختلفة، بينما هى تتجاهل أن لهذه القوى الاجتماعية مؤسسات تمثلها من نقابات عمالية لاتحادات فلاحين، وجمعيات أهلية، ونقابات مهنية، وروابط لرجال الأعمال وغرف، ناهيك عن الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى والحركات الاجتماعية المختلفة التى كانت قد نشأت على نطاق واسع قبل الموجة الأولى من الثورة فى 25 يناير 2011، وأسهمت فى بلورة أهداف وشعارات الثورة.
يتجنب رئيس الوزراء إذن التعامل مع مؤسسات المجتمع فى تناقض صارخ مع الدعوة الإنشائية لبناء دولة المؤسسات وتجديدها، وهى دعوة رائجة فى الخطاب الحكومي، ويعرف رئيس الوزراء أن غالبية هذه المؤسسات تمتلك مشروعات بديلة للخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة دون الاعتماد على صندوق النقد الدولي، لأن الجميع يعرف أن هذا القرض الكبير سوف يؤدى لزيادة ديون مصر التى تجاوزت فعليا حدود الأمان، وسوف تتحمل الأجيال القادمة عبء تسديده، ناهيك عن الآثار الكارثية لتصفية ما تبقى من القطاع العام حيث اتساع قاعدتى الفقر والبطالة وتفاقم الانقسام الطبقى فى البلاد بشكل سافر.
لا يجوز فى هذا المنعطف الصعب الذى تمر به البلاد التى تتربص بها قوى دولية وإقليمية، وتراهن على إفشال تجربتها، لا يجوز أن تعتبر الحكومة أن الحوار المجتمعى هو شعار للزينة، وأن تتجاهل كل البدائل التى قدمها الآخرون، بل إنها تتجاهل أيضا تجارب البلدان الآسيوية بخاصة تلك التى وقعت فى براثن الصندوق، والأهم من ذلك تجربة دولة ماليزيا الصغيرة والفقيرة شبه المعدومة الموارد حين رفضت روشتة الصندوق واعتمدت على نفسها، وعلى طاقات شعبها وخبرائها وعلمائها لتصبح فى سنوات معدودة دولة صناعية متقدمة تشكل المنتجات الصناعية 85% من صادراتها للعالم، بل إنها قدمت فى سياق الصراع الديني.. العلمانى حلا مبهرا كدولة مسلمة وعلمانية.
فعلت ماليزيا ذلك فى ظل العولمة، وتلك حقيقة ينبغى أن تكون واضحة أمام المصريين حيث يتبارى مثقفون وكتاب وخبراء قضى بعضهم أعمارهم المهنية فى خدمة البنك الدولى وصندوق النقد الدولي، ليؤكد هؤلاء جميعا أنه فى ظل العولمة لن يكون هناك مكان للسيادة الوطنية أو للقرار المستقل، متجاهلين أن إضعاف القاعدة الإنتاجية للبلاد، وتفكيك صناعاتها وإفقار فلاحيها أو تسليم قيادها لوكلاء الشركات متعددة الجنسية هو الأساس الأولى لإهدار السيادة الوطنية وفقدان الاستقلال.
تحتاج البلاد ليكون الحوار المجتمعى حقيقيا وفعالا، رؤية واضحة للتوافق الوطني، وهو شيء غير المصالحة المزعومة والمرفوضة مع الإخوان، وينهض مثل هذا التوافق على بناء نزيه ودءوب لأرض مشتركة بين الطبقات والقوى الاجتماعية تتجاوز فيها قضية العدالة الاجتماعية حدود العمل الخيري، ومناشدة أصحاب المليارات وتعود إلى طرح مشروع الضرائب التصاعدية، والضرائب على أرباح البورصة، وإعادة ترتيب أولويات التنمية لتلبى قبل أى شيء احتياجات الملايين الفقيرة، وتوسيع قاعدة الاكتفاء الذاتى من الغذاء، ومعاقبة مافيا الاستيراد أشد العقاب، فذلك هو الحد الأدنى الذى يقود إلى تأسيس مشروع حقيقى تنبنى عليه العدالة الاجتماعية، وصولا إلى إعادة توزيع الثروة القومية.
تعلم المصريون عبر موجات الثورة المتعاقبة خلال خمس سنوات أن يمسكوا مصائرهم بأيديهم، وتعاملوا بجدية – رغم كل شيء – مع أهداف وشعارات ثورتهم التى منحتهم ثقة لا حدود لها فى قدراتهم، ولن يستطيع أحد بعد الآن أن يروج لهم مشروعات مزيفة، فضلا عن أنهم لم ينسوا بعد تجاربهم المريرة مع المؤسسات الاستعمارية بدءًا من صندوق الدين الذى خطط لاحتلال مصر فى القرن التاسع عشر، وما البدائل التى تقدمها المؤسسات والقوى الاجتماعية إلا تعبيرا عن التراكم الفكرى والثقافى والعملى الذى أنتجه العقل الجماعى والوعى الشعبى عبر السنين، ولن يبلغ الشعب المصرى دون توتر كبير هذا المشروع الجديد للقوى الاستعمارية ولن يصدق مشروع الحوار المجتمعى الزائف والذى يجرى طرحه على الشعب بعد أن وقع الفأس فى الرأس كما يقال.