مخالب فولاذية أُنْشِبَت في غير مكانها


خالد صبيح
2016 / 8 / 14 - 18:00     


تسرب هذا الاسبوع شريط صوتي عن معركة حلب الأخيرة يشكو فيه مقاتل لبناني، من مقاتلي حزب الله، هروب السوريين من المعركة وتركهم اللبنّانيين وحدهم في مواجهة الإرهابيين.

قد يكون كلام هذا المقاتل مبالغا به، لكنه في النهاية يعيد تذكيرنا بالفارق النوعي بين المقاتل العقائدي والمقاتل المحترف في جيش نظامي.

المقاتل العقائدي، كما تدلنا خبرات التاريخ، يتميز بالشجاعة والإقدام وبروح تضحية تجعل منه شخصا غير هياب، وإذا كان هذا ينطبق على كل عقائدي من أي لون، فكيف سيكون الأمر إذا كانت مكافأة التضحية بالنفس للعقائدي متع حسية كبيرة؛ حور عين "كواعب" ومصاحبة الانبياء والقديسين، كما هو الحال مع مقاتلي داعش وجماعات السلفية"الجهادية"؟

ويمكن القول بهذا الصدد أن أبرز من ينضوي تحت ثوب العقائدية الواسع والمتعدد هم عقائديو الاديان والمذاهب وأحيانا الأيدلوجيات، سواء أكانت ايدلوجيات حزبية أم وطنية.

من هنا يمكن القول أنه لايمكن مواجهة العقائديين، وهم هنا إرهابيو القاعدة وداعش، إلا بوسيلتين؛ الأولى جيش حديث، قوي ومتماسك، بمعدات وتنظيم وتدريب كافيين لمواجهة اي قوة من أي نوع، ( وإن كانت هذه ليست ضامنة للغلبة، فالجيش الامريكي، مثلا، كان من بين أقوى جيوش العالم وأكثرها تماسكا وتجهيزا، ولايخلوا بنيانه من تربية عقائدية وتعبئة معنوية جيدة، إلا أنه مع ذلك خسر حرب فيتنام بسبب تغلب عقائدية الفيتناميين، "الذين ماكانوا يتراجعون أمام كثافة النيران أثناء المعارك"، كما كان يشكو الجنود الاميركان).
والثانية قوة عقائدية، مثلها، وتشكل ضدا نوعيا لها. وربما هذا يشرح بعض من نجاح أو إمكانية نجاح الحشد الشعبي في العراق، كتشكيل ذي طابع عقائدي، في مواجهة الدواعش، (وإن كان الحشد الشعبي غير مكتمل البنية العقائدية بعد بسبب العشوائية التي رافقت تشكله الأول وبسبب تسرب ميليشيات ذات أجندة سياسية متباينة الى صفوفه وَسَمَت تكوينه بالتفكك) بينما يمكن توقع فشل الجيش النظامي في تحقيق نصر واضح ونهائي على الارهاب. ذلك أن مقاتل الحشد الشعبي يقاتل ومثاله العقائدي هو الذي يحفزه، فهو يقاتل في الانبار أو الموصل لكن كربلاء هي الماثلة في ذهنه ومخيلته. ويجدر الانتباه هنا الى أن الأماكن تكتسب لدى العقائديين بعمومهم، لاسيما الذين يشكل الدين والغيبيات مرجعيتهم، حتى وإن كانت محض حجر، قدسية تفوق في أهميتها قدسية الإنسان أو القيم. فمكان مثل مرقد العسكرييّن في سامراء دفع شيعة العراق، عند تفجيره عام 2006، الى رد عنيف على غريمهم العقائدي، المتمثل في تلك الحالة بالسنة، فيما كانوا صامتين طوال سنوات على القتل الجماعي لأبناء طائفتهم. وكذلك الأمر مع حزب الله الذي تحفز للقتال والتدخل في الأزمة السورية، مغامرا بسمعته ومكانته لما يكلفه تدخله هذا من ثمن باهظ سياسيا وعسكريا، تحت راية الدفاع عن ضريح زينب في دمشق، دون التغاضي طبعا عن الدوافع الاقليمية والاستراتيجية الماثلة في خلفية هذا التدخل. فالحزب كان يحض في بداية الصراع السوري على الحوار والتفاهم وطرح الحلول السياسية، لكن ما أن انغمر غريمه الطائفي والسياسي ( السنة ودول الخليج التي دعمتها) في الصراع، ملوحين بهدم" المقدسات" حتى وجد نفسه منغمرا هو أيضا بهذا الصراع وبدوافع عقائدية واستراتيجية في آن واحد.

ولعل من يؤجج الصراعات الطائفية في المنطقة ويستفيد منها (أمريكا وإسرائيل) متنبه لهذه الخصلة لدى العقائديين الإسلاميين وأخذ يستفيد منها في التحكم في مآلات الصراع وتصعيده.

ويجدر الانتباه هنا الى أن مايحفز المقاتل العقائدي للتضحية هو دائما مثالٌ ما، وغالبا من أجل إعلاء ذات لها قيمة كبيرة تلامس القدسية، وهي ليست ذاتا فردية بطبيعة الحال، وإنما ذات عليا، دين، أمة، وطن، قضية، أو حلم. كما ينبغي التاكيد هنا على أن ليس كل مؤمن بقضية وبعدالتها وجدارتها سوف يتمتع تلقائيا بروح التضحية، فالتضحية للعقائدي لاتشتغل بآلية ذاتية ومن تلقاء نفسها، وإنما هي تعمل وفق منظومة تضبطها وتقدم لها الآليات الضرورية التي تمنحها تقاليد عمل تحافظ على الاستمرارية واتقاد الحماسة اللتين لايمكن بدونهما لأي عمل أن يتواصل ويؤتي ثماره.

ومما له دلالة في هذا السياق أن الترهل وروح البيروقراطية التي تضعف الجنود في الجيوش النظامية عادة يمكن أن نتتسرب الى منظمات ثورية وعقائدية تحمل هم قضية كبيرة مثلما حدث لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو لبعض فصائلها، فقد شهدت، على سبيل المثال، الساحة اللبنانية تراجعا وضعفا في الروح القتالية والإستعداد للتضحية الذي يميز العقائديين عادة لدى بعض مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية أثناء مواجهاتهم في حرب 1976 في لبنان، عندما تدخل الجيش السوري في الحرب الاهلية اللبنانية، وكذلك عند الاجتياح الاسرائلي للبنان عام 1982، حيث لوحظ تراجعهم السريع في مناطق الجنوب بينما، وعلى الضد من هذه الصورة، أثبت مقاتلو الجبهة الشعبية، وهذا يؤكد الفارق النوعي بين الفريقين، جدارتهم في الحالتين؛ عندما قاتلوا ضد التدخل السوري في معركة الدبابات الشهيرة في مدينة صيدا عام 1976 التي تكبد فيها الجيش السوري خسائر كبيرة فاجأته. وكذلك عند الاجتياح الإسرائلي للبنان، إذ يُذكر أن جورج حبش قد "إبتهج"، بمعنى مجازي طبعا، لهذا الاجتياح حيث قال:

(نحن نواجه مصاعب كبيرة في اجتياز الحدود لمقاتلة الإسرائليين، لكنهم الآن يأتون الينا بانفسهم)

هذا وغيره يثبت أن المقاتل العقائدي، أي كان نوعه، أكثر تاثيرا وقوة في مواجهة خصومه، لهذا تعجز دول وجيوش، كما حدث للدول العربية وجيوشها في مواجهة إسرائيل، عما تنجح به قوة عقائدية مدربة ومعبئة جيدا، ولهذا نلحظ في هذه المرحلة أن هناك حربا نفسية وإعلامية وسياسية واقتصادية ضد حزب الله، بسبب من عقائديته وتاثيرها الفعال في مواجهة الغطرسة الاسرائيلية، يُجند لها ساسة وأحزاب وقوى لبنانية؛ تيار المستقبل، الكتائب، وغيرهما، وعربية؛ السعودية وقطر، و... غيرهما.

من هنا يمكن القول أن مواجهة داعش وكل السلفية المقاتلة مواجهة صعبة ومكلفة لكن، مايؤسف له، والحق يقال، أن طاقة هؤلاء، أي كان تقييمنا لهم، هي طاقة جماعية مبددة، بل الأكثر أنها موجهة في غير وجهتها الصحيحة. فلهؤلاء مخالب فولاذية أُنْشِبَت، للأسف، في غير مكانها.