-حلم غاية ما- الوجود رؤىً وولعاً وجمالاً


سعد محمد رحيم
2016 / 8 / 9 - 15:16     

شغف جيلنا بكولن ولسن.. أغوتنا لغته الشفافة والعميقة والساحرة، وأخذتنا مغامراته إلى أصقاع عوالم الفكر والفن والأدب. ولعلّ ما يشدنا اليوم إلى قراءة كتابه السيري (حلم غاية ما) هو الحنين. فكولن ولسن رصّع أيامنا في سبعينات القرن الماضي بالمبهر والمدهش والغريب فتعرّفنا عبر كتبه على أسماء وأعمال واتجاهات فكرية وأدبية ربما ما كان بإمكاننا أن نعرفها من سواه، في تلك الفاصلة من حياتنا..
فقد كان أحد الأدلاء الذين أرشدونا إلى مناطق من الفكر والإبداع الإنسانيين حيث أغنانا عن البحث الطويل الأعمى أحياناً.. فهو المؤلف القارئ، وهذا من خصاله اللافتة؛ المؤلف الذي يعيد إنتاج ما يقرأ من خلال رؤية استكشافية تتجاوز الاعتيادي والمألوف والمرئي، ليضيف إلى المقروء ما يضيء عتماته ويغنيه ويوسع من أفق دلالاته. وشخصياً، كانت قراءاتي له تمنحني شحنة عالية من طاقة إيجابية، تعيد الثقة بنفسي وبجدوى الكتابة.
قد لا يكون كولن ولسن فيلسوفاً بقامة مارتن هيدجر وجان بول سارتر. وقد لا ينازع ألبير كامي بموهبته في مجال الإبداع الروائي. وقد نستطيع أن نؤاخذه على تورطه بالكتابة في حقول ليست له أهدرت جزءاً من طاقته الخلاقة. غير أن قسماً كبيراً مما أنجزه في النهاية ذو قيمة عالية ولا يمكن التقليل من شأنه.
رامَ صياغة الوجودية بنزع قشرة التشاؤم عن جسمها. وفي رواياته، لاسيما المبكِّرة منها، مزج علم النفس بالفلسفة ليعبِّر عن قوة الدافع الجنسي في رسم أبعاد الشخصيات ووعيها وسلوكها.. وتنقّل بين الأدب والفلسفة بدراية. وفي كل مرة كان يحرص على كتابة كتابين في هذين الحقلين المتجاورين والمتداخلين، وإصدارهما في الوقت نفسه، أو في أوقات متقاربة.
كان لديه ما يقوله دوماً، وهذه ميزة لصالحه.. لكن ذلك لم يخرجه من أطر التجريد الفكري واستلهام تجاربه الأولى في الحياة.. بقي على مسافة من السياسة ومتغيراتها وألاعيبها.. وابتعد مبكرا عن الحياة الاجتماعية.. وهذا ما أضرّ بفحوى كتاباته وطبيعة موضوعاتها فيما بعد.. هذا التعلّق، حد الاكتفاء، بعالم الكتب والموسيقى أبعده عن مشكلات الإنسان المعاصر، ومحن المجتمعات. حتى أنه يقرن تعلّقه ذاك بهما بالجنون، مثلما يقول في كتابه (الكتب في حياتي The Books in My Life): "أحسب أن هذه الشهوة الجامحة والمنفلتة تجاه الكتب والأسطوانات هي شكل مخفف من أشكال الجنون في أقل تقدير"ص80.
لم يجد ولسن، ما خلا في الأسابيع الأولى بعد صدور (اللامنتمي) أي اهتمام جدي بكتاباته في الفضاء الثقافي البريطاني. وقد أوعز هو ذلك إلى أن الجزر البريطانية بقيت معزولة عن العالم بسبب عدم تعرّضها للغزو منذ القرن الحادي عشر الميلادي، وأن البريطانيين لهذا السبب "كائنات مصممة بعقول بديهية اعتيادية... ولذا لم يكن وارداً في المزاج البريطاني إنتاج نسخة إنكليزية من دوستويفسكي أو غوتة أو حتى سارتر، وفي إنكلترا ليس من المعتاد طرح الأسئلة التي كتبتُ عنها في كتابي (اللامنتمي) و (الدين والمتمرد)"ص365.
من جانب آخر لم يكن كولن ولسن، من زاوية الوعي السياسي أعمى بصيرة. وكان بمقدورة تمييز معضلات البشرية الرئيسة، لاسيما في الجهة الأخرى من العالم، خارج بلدان الغرب.. وها هو يستذكر هذه الحادثة: "في جامايكا مضينا لشرب بعض المشروبات في حانة وسط البلد وعند عودتنا إلى ظهر السفينة مررنا ببعض البيوت العتيقة المصنوعة من طبقات الحديد المضلّع الصدئ وراح سكّانها السود يصرخون في وجوهنا (أيها البيض،،، عودوا لبلدكم) وهو المشهد الذي ذكّرني على الفور بما رأيته في هولينز من قبل وتعززت لدي فكرة أن العالم مقسّم بطريقة قاسية واعتباطية بين مدقعي الفقر وميسوري الحال الذين كان يمكننا آنذاك أن نعد أنفسنا منضوين في فئتهم"ص480، 481.
في كتاب (حلم غاية ما) عاد كولن ولسن إلى عوالمه الأولى التي غذّت كتاباته في مرحلة شبابه، ومنحته الشهرة. وكأنه أغلق تلك الدائرة التي بدأت بـ (اللامنتمي، والقفص الزجاجي، وضياع في سوهو، ورحلة نحو البداية؛ سيرة ذاتية ذهنية). وكان معينه الدائم إيمانه بنفسه، وشغفه بالحياة بروح متفائلة متفتحة. وقد أعجب وهو في سني يفاعته بقصيدة لإزرا باوند يقول فيها: "ما يملؤك شغفاً هو وحده الذي يبقى/ والأشياء الأخرى محض تفاهة،،،،، ما يملؤك شغفاً هو ما لن يتسرب من بين أصابعك/ ما يملؤك شغفاً هو ميراثك الحقيقي"ص289.
اللامنتمي الذي صوّره أراده راكباً المخاطرة، وباحثاً عن الارتقاء نحو آفاق جديدة، لكنه، على الأرض، تمادى في لا انتمائه وسلبيته إلى الحد الذي لم يشفع له تفاؤله في إعادة علاقته بالعالم. التفاؤل الذي كان مفتعلاً إلى حد ما، لأنه لم يتعزز بمقتضيات الواقع التاريخي الذي عاشه وخبره... كان ذلك وضع البرجوازي المعزول والغارق بأفكاره وتخيلاته ذات النزعة الفردية. وهو نموذج لايمكن تعميمه وتعميم طريقة تفكيره على نطاق واسع. لذا لم يحظ ولسن بمريدين كثر في العالم الثقافي الأنكلوسكسوني.. وعلى الرغم من هذا يظل، بمنجزه، ظاهرة ثقافية أكبر من كونها موضة عابرة. كان جاداً، ومؤمناً بموهبته، وبما يعتقد، واستمر بإخلاصه لمعظم أفكاره التي بثها في كتبه الأولى.. وكافح بضراوة وحماس ضد عوامل الإحباط واليأس والقنوط.
لم ينجح في أن يكون مناظراً أنكلوساكسونياً لصورة سارتر وكامي كما تمثّلا في السياق الثقافي الفرانكفوني. ربما بسبب تغير الأزمان وزوال الشرط التاريخي الذي أوجد المفكرَين الفرنسيَين بعد الحرب العالمية الثانية، ليبلغا قمة شهرتهما وعطائهما في عقد الخمسينات. لكن السبب الرئيس هو أن سارتر وكامي انشغلا بقضايا عصرهما السياسية، وصارا جزءاً من مفاعيل الحرب الباردة بين المعسكريين العالميين المتباريين في ذلك الوقت. وما أطلق الشهرة المدوية لولسن بعد صدور كتابه الأول (اللامنتمي The Outsider) هو الدعاية التي قدمتّه ممثلاً لما سمي بـ (الشباب الغاضب) إذ جرى استغلال الأمر لغايات تجارية من قبل المتصيدين؛ أبناء السوق.. يقول: "كانت واحدة من المشكلات التي عانيتها بعد نشر (اللامنتمي) هي الجماهيرية التافهة التي حظيت بها رغماً عني"ص343. فبعد المديح المبالغ به للكتاب في كبريات الصحف، انقلب الحال ليواجه موجة عداء كاسحة. وقد عدّوا الكتاب خدعة مارسها فتى في الرابعة والعشرين، وعليهم الآن أن يوقفوه عند حدّه، مما اضطره إلى الابتعاد عن لندن والانكفاء في الريف بعيداً عن الأضواء.. وألقت هذه الواقعة بثقلها على مكانته في دنيا الأدب والثقافة، وحتى نهاية حياته. وهذا واحد من أهم الأسباب التي حالت دون إنصافه، وتقويم أعماله بالشكل الذي يستحق.
التفاؤل والتشاؤم لا يصدران من أفكارنا فقط، كما ادّعى، بل أنهما متصلان بنمط حياتنا وتجاربنا.. وهنا يعود إلى فكرة قصدية الوعي عن هوسرل، وهي بحسب وجهة نظره: "فعل خلاق يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في تكييف الوعي البشري وتعديله ومن ثم الارتقاء به إلى ما يصلح أن يكون نمطاً من المسعى الفلسفي الوجودي التفاؤلي المقترن برؤية تصوّفية منعشة"ص119. وعلى وفق هذه الفلسفة يصل ولسن، بالاستناد إلى هوسرل، إلى استنتاج فحواه أننا، نحن البشر، أحرار، من جهة، وغير عاجزين، من جهة ثانية. وبهذا يرصِّن أسس فلسفته الوجودية الجديدة.
أراد أن يعيد إلى الفلسفة نضارتها وروحها الحيّة ويجعلها أكثر صلة بالحياة.. لكن الحياة التي فهمها كانت ذات بعد فردي مثالي.. وبعدما رأى أن هيدجر، ومن بعده سارتر، أوصلا الفلسفة إلى طريق مسدود لأنهما حادا عن ظاهراتية هوسرل رأى البديل بوجودية "مغلّفة بحس رقيق من التفاؤل على العكس من النزعة العدمية التي وسمت الوجودية في نسختها الفرانكفونية"ص27 كما يقول ماثيو كونيام. وفيما بعد قاده افتتانه بمديات القدرة البشرية، إلى الحديث عن آفاق الوعي الممكنة التي بمستطاع الإنسان أن يفتتحها ليحوز قدراً هائلاً من فرح الوجود، والتخلص من حالات الكسل الذهني والبلادة التي تصيب معظم الناس. ولذا انحرف اهتمامه إلى السحر والماورائيات. هو الذي تحدّث عن توسيع عدسة منظار رؤيتنا، والترحال بحرية في أرجاء العالم العقلي مثلما صرنا ننتقل بحرية مطلقة في العالم الحسي الخارجي"ص126.
من جهة ثانية ترجم ولعه الجنسي إلى فلسفة في الجنس حيث ذروة المتعة هي تحققٌ مادي لانفتاح العالم العقلي في خلال لحظات قصيرة مشعّة، رابطاً "الفعل الإيروتيكي مع كل من العناصر التصوّفية والإجرامية في النفس الإنسانية" ص35. مفصحاً عن هذه الفكرة في رواياته الأولى: (طقوس في الظلام، إله المتاهة، الحالم، وغيرها) فضلاً عن كتابه المثير للجدل؛ (أصول الدافع الجنسي).
وبلغ إيمانه بأهمية الفعل الجنسي إلى درجة تصويره، من خلال أحد أبطال رواياته (مصاصو الدماء الفضائيون Space Vampires) بأنه شكل من أشكال تبادل الطاقة الحيوية حين يُفهم "أن الرجل والمرأة عندما يتطارحان الحب فإنهما يتبادلان الطاقات بينهما، وبات (بطله) مقتنعاً إلى حد بعيد أن كل الكائنات البشرية يمكن لها أن تتقن حيلة انتقال الطاقة هذه ومتى ما تحقق هذا الأمر فإن أغلب مشاكلنا المستعصية على الحل ستختفي: الحروب، جرائم القتل، أفعال الانتحار، الأمراض العقلية لأن كل الفعاليات البشرية السلبية تقريباً تنشأ عن الإحباط الملازم لنقص الطاقة الحيوية"ص556، 557.
كان على كولن ولسن أن يكتشف منذ البدء التكافؤ بين نشوة الكتابة ووعودها، والشهوة الجنسية، وذرى المتع العالية التي يخبرها المرء، كما حصل، وإن بطريقة ناقصة، مع رومانتيكيي القرن التاسع عشر بمعونة التخييل. فقد كانت تلك تجارب خاطفة سرعان ما تبخرت ليحل محلها إحساس بالعدمية قادهم إلى الانتحار. وأدرك أن المطلوب هو الخروج من محدودية الوعي البشري إلى آفاقها الشاسعة لتتغير النظرة إلى الحياة، ويتم القبض على فرح الوجود. وفضلاً عن لحظات المسرّة السامقة التي ينالها المرء من طريق الشعر والموسيقى يبقى لديه أمر آخر هو، وبحسب منظور ولسن: "قدرة هذه الكائنات (الإنسانية) على بلوغ قمة النشوة الجنسية في غياب وجود أي مؤثر جنسي، وليس ثمة كائن غير الإنسان من يستطيع الإتيان بهذا الفعل عن طريق تخليق أنماط معقدة من الاستجابات العقلية بوساطة فعل الخيال وحده، وبذات الطريقة ليس ثمة من سببٍ يمنع الإنسان من تعلّم إزاحة حُجُب اللامبالاة والتعوّد البليد التي تحجب عنه الحقيقة" ص311، 312.
تلبّست فلسفته حول اللامنتمي بمسحة كثيفة من الرومانتيكية، وهذا ما وعاه في أواخر حياته، وعدّه نقيصة. وحدد أبطال رواياته واختارهم من اللامنتمين والرومانسيين والمثاليين الرؤيويين في المدينة الحديثة.. يقول: "ورأيت أن المدينة الحديثة ـ من خلال آليتها الرتيبة ـ تخلق لا منتمين أكثر من أي وقت سابق وتعجّ بالأشخاص الذين يعانون إشكالية وجودية رهيبة"ص95. وفي مرة، مع الثورة الجنسية التي عمّت الغرب في عقد الستينات وصف عالمنا بأنه يقف على برميل بارود جنسي. وبذا غدت الرغبة الجنسية، والجريمة المنشبكة مع الدافع الجنسي، ثيمتان أساسيتان في عمله الروائي.. وعلى حد تعبيره "يبدو أن المجتمع الحديث يخلق حافزاً جنسياً ينمو ويتكاثر كالطفح الجلدي ـ لأسباب تجارية محضة ـ ومن ثم يكون المتوقع حتماً زيادة رهيبة في معدلات الجرائم المرتبطة بالجنس"ص96. وفي ضمن مؤشرات مرحلته تلك وجد أن الدين يتراجع أمام المادية العقلانية. وهذه موضوعة أثيرة أخرى في إطار اهتماماته الفكرية والأدبية. وبطبيعة الحال هو لم يُعنَ بالدين الطقوسي، وإنما بما يختزن من طاقة روحية، وبعدٍ كوني.
ينتمي كولن ولسن للنزعة المثالية الذاتية في الفلسفة، معوِّلاً على الجانب الروحي في الإنسان، وعاداً الفكرة التي تقول أن الإنسان وحيد في الكون هراءً سخيفاً ولا معنى لها، وأن اللامنتمي الذي أراده هو "أن يكون حجة لتعضيد الحس الديني المبشر بالخير الكوني في مقابل النزعة الإنسانية التي تقود إلى التخاذل والسوداوية" ص325. وبالتأكيد فإن مثل هذه النزعة تعتمد الحدس من غير أساس منطقي في الواقع.
عوّل كولن ولسن على ممكنات فن الرواية، وعلى الشحنة الهائلة للخيال التي أطلقها. فالرواية بحسب وجهة نظره هي التي أحدثت الانعطافة العظيمة التي مهدت للخروج من ظلمات القرون الوسطى في أوروبا إلى أنوار العصر الحديث، ومن ثم ولوج عصر العلوم والتكنولوجيا. عادّاً الرواية "الاختراع البشري الأكثر أهمية بعد اختراع العجلة"ص531. فبرأيه أن تأثير الرواية فاق تأثير دارون وماركس وفرويد على الرغم من التأثير العظيم لهؤلاء على الحضارة الأوروبية. والرواية هي التي تساعد في ازدهار الوعي الإنساني إذ يطمح الروائي أن يصبح "مرآة متسعة الزاوية أو الأصح عدسة متسعة الزاوية إذا شئنا الدقة التصويرية، وإن الهدف من وراء هذه العدسة ليس إظهار العالم بصدق أكبر بل جعل القارئ واعياً بتجربته"ص82. هنا تغدو الرواية "أداة مثل الميكروسكوب أو التلسكوب تساعدنا في زيادة قوّة ملكاتنا المحكومة بمحدوديات فيزيائية طبيعية"ص84. وفي رواياته خلق شخصيات أرادها معبِّرة عن أفكاره تلك.
يبدأ كولن ولسن سيرته الذاتية (حلم غاية ما) من لحظة مفصلية حاسمة من حياته، وهي عزمه على الانتحار مع بلوغه السادسة عشرة من عمره. وكأنه بهذا يؤشر لحظة ولادته الوجودية إذ شعر بأنه مسكون بكائنين متمايزين؛ أحمق يحثه على قتل نفسه لأن الحياة أكذوبة فيدير ظهره له، وحقيقي، يعبر به ذلك المأزق إلى برّ الخلاص.. يقول: "وفي تلك اللحظة الغرائبية كان في وسعي أن أستشعر الغنى السحري العميق والهائل الذي يحوزه العالم الحقيقي مما لم يكن بوسعي رؤيته أو تحسسه من قبل، ثم امتد ذلك الإحساس الجارف ليأخذني معه بعيداً نحو آفاق لم أعهدها أبداً من قبل"ص168. وسيفاجئه بزوغ ذلك الإحساس وهو واقف في وسط مكتبة بيرمنغهام عارفاً ما الذي يبغي أن يفعله في حياته القادمة.
يكتب كولن ولسن سيرته عن سابق نيّة وتصميم، لا كما حصل مع سوان بطل رواية (البحث عن الزمن المفقود) لبروست مستحثَّاً بنكهة كعك المادلين المغموس في الشاي طعماً ورائحة تعيده إلى المحتجب والمنسي من ذكرياته، وتفتح له أبواب ماضيه التي أغلقها وراءه.. مع كولن ولسن يختلف الأمر، فقد ظلت تفاصيل حياته حيّة معه يتعاطاها يومياً عاجناً إياها بفكره وفلسفته، أو يزجّها متبّلة بالخيال الإبداعي في رواياته. بالرغم من تطرقة، وهو يتحدث عن يقظة الوعي، وملامسة تخوم الحقيقة، إلى بروست ليصوغ عبارة (لحظات التوهج البروستية)، والتي عنت عنده الكفّ: "عن اعتبار ذاتك كائناً بائساً شقياً خُلق في لحظة صدفة عبثية وينتظر الفناء المحتّم، ومضيت في نحت مفردة لهذه الملكة العقلية وأسميتها فعلاً ( الملكة X, Faclty, X ) التي ستحتل مركز الثقل في معظم كتاباتي اللاحقة"ص449.
الثلث الأول من حياته هو الأهم لأنه حافل بالإثارة والمغامرات واللااستقرار وقصص الحب والعلاقات والأسفار والفقر وخطوات النجاح الأولى، وسلسلة إحباطات مريعة، ولذا فإن كتاب سيرته يتحرى في تلك السنوات أكثر مما يفعل مع ما تلاها. وهي أحداث تنبئ وتؤطر عمّا سيكون عليه الفتى كولن، والاتجاه الذي ستتخذه حياته في قابل السنوات.
بعد أن يطرده أبوه من البيت لأنه قرر امتهان الكتابة، ولا يود أن ينخرط بأي عملٍ آخر، سيضطر إلى الانتقال بين أشغال عديدة في مصانع مختلفة.. سينام في أماكن عامة داخل حقيبة نوم، وسيعاشر بضع فتيات، ويؤم المكتبة البريطانية على مدار ساعات طويلة في اليوم الواحد، وسيغادر إنكلترا مؤقتاً إلى فرنسا لبضعة أسابيع، ومن ثمّ سيرافق مجموعة الفوضويين في لندن، في حي سوهو تحديداً.. وسينعت النظرية السياسية لأولئك الفوضويين بالسخف لكنه سيعجب بأهدافهم المعلنة عن "خلق مجتمع من الأرواح الحرّة التي يحنو بعضها على البعض الآخر بكرم روح وسخاء"ص253. وستكون القفزة الدراماتيكية لحياته مع صدور كتاب (اللامنتمي) الذي سيخلق له الشهرة الواسعة، وعداء كثر من النقاد في آنٍ معاً.
دعا ولسن إلى خوض التجربة البشرية الاستثنائية، متوسلاً بالاسترخاء وتوسيع بؤرة الوعي وقدرة الخيال الخلاق واحتياز البهجة الفائقة والحرية والسعادة. وتلك صورة اللامنتمي التي تهيأت له. وبقيت حلوله في نطاق المسعى الذاتي؛ ذلك الذي تطيح به شروط الواقع وقسوته ومعوقاته التي لا تحصى. بترجمة هذا الكتاب إلى العربية، والمتضمن لسيرة ولسن (حلم غاية ما) وفصول من بعض كتبه الأخرى، وحوار معه، ومقالات عنه، أعادت الروائية لطفية الدليمي الاعتبار لواحد من أكثر كتّاب النصف الثاني من القرن العشرين إشكالية وغزارة في الإنتاج، ليستعيده قرّاؤه القدامى في فضائنا الثقافي ثانية، وليتعرف عليه قراء الجيل الجديد.
*(حلم غاية ما: سيرة ذاتية) كولن ولسن.. ترجمة: لطفية الدليمي.. دار المدى للإعلام والثقافة والفنون.. بيروت.. ط1/ 2015.