تلك هي شقائق النعمان إذن!


خالد صبيح
2016 / 8 / 7 - 01:24     

هذه حكاية رحلتي الى كردستان. المادة طويلة نسبيا رغم محاولة التكثيف والاختصار، لهذا قسمتها الى جزأين تجنبا للإ ثقال على من يقرأ. وهي ربما سوف تثير اهتمام من عرف شيء ما عن هذه التجربة، تجربة الانصار الشيوعيين في كردستان العراق، او من يريد ان يعرف شيئا عنها.

***

عن رحلة اليوم الاول (1)

***

كنا ثلاثة؛ ماجد وباسم وأنا. باسم الذي التقيه للمرة الأولى في مرآب السيارات سوف يقتل لاحقا بالخطأ على يد اقرب أصدقائه وأصدقائي. لكنه الآن، في ربيع عام 1980، معي في بغداد، فتيا وحيويا ومتهيئا للطوارئ بقبضته القوية (ملاكم سابق) وبسكين كبيرة لصق ساقه اليمنى تحت البنطال.

كان علينا أن نسافر من بغداد الى السليمانية.

قبل ذلك كنا متخفيين في بغداد، ماجد وأنا، لعام ونصف، سكنا فيها في غرفة بائسة بمنطقة الحيدر خانة بصحبة طيبة مع أصدقاء آخرين من أهل البصرة؛ حسن وكريم وخيري. بعد رحيلنا بمدة سيُعتقَل هؤلاء ويُرسلون الى جبهة الحرب العراقية الايرانية ليُقتَلوا هناك، ولم يُعرف من هو قاتلهم؛ الايرانيون أم العراقيون، لكن لا فرق، فمن سيكترث لهذا، هم قُتلوا وانتهى الأمر. وحده خالد نبات، شريكنا الآخر في البيت، سيفلّت من بينهم ويدرس في بلغاريا ويهاجر الى الدانمارك وتأخذ حياته مسارا آخر وتخط له الأقدار مصيرا مختلفا عما كان سينتهي إليه لو كان قد القي القبض عليه معهم.

الحياة مليئة بالصدف والمفارقات، اليس كذلك؟

قبل ذهابنا الى السليمانية كنت في البصرة في زيارة سرية للأهل. في بيت شقيقتي، جاءت أمي لرؤيتي، انفَجَرت بي غاضبة لأنها كانت مرهقة من عناء اللهفة والقلق عليّ، تشاجرتُ معها، كنتُ أحمقا، نزق شباب. حزمت حقيبتي فورا لأعود الى بغداد. أرسلت هي، رغم زعلها، بيد أحد أبناء شقيقتي نقودا رفضتُها بعناد وخرجت غاضبا من البيت. ولم أودعها.

سيترك هذا التصرف جرحا نازفا في نفسي لن أُشفى منه أبدا، ولن أغفر لنفسي مافعلته بها وبنفسي.

عدت الى بغداد، أخبرني ماجد بعد أيام، بلغة خالية من التأثير، أن أمرا مهما ينتظرنا، وعلينا أن نضع أنفسنا (رهن إشارة الحزب). كنت فكرت أنهم ربما سيطلبون منا العمل في مدينة أخرى، ولا أدري لماذا خطرت في ذهني لحظتها مدينة العمارة. خيال بسيط لشاب يستمد تجاربه ووعيه من الكتب والرومانسيات الثورية، ويتوهم أن التاريخ مستمر وأن (النضال) مايزال على أشكاله الأولى كما في الاربعينات والخمسينات. لكني بعدما علمت من أننا سنرحل باتجاه آخر طلبت بإلحاح من ماجد أن أعود الى البصرة ليوم واحد فقط، كنت صادقاً برغبتي، كنُتُ أُريد أن أتصالح مع أمي، كان لدي احساس غامض باني ربما لن أراها بعد الآن. لم يوافق ماجد، تحرزات أمنية، هكذا افهمني. كنا أبطالا ثوريين بعمر 21 سنة، بلا خبرة ولا نضج ولكن بمخيلة خصبة، وفكرة تغيير العالم كانت واحدة من إهتماماتنا العديدة. رضخت للأمر ممتعضا. لم أرَ امي بعد ذلك أبدًا، سمعت صوتها مرة واحدة بالتلفون قبل وفاتها بأسابيع. ماتت في عام 1998 من غير أن تراني وأراها، وترك فراقي حسرةً في نفسها، هكذا سيخبرّني شقيقاتي عندما التقيهن بعد ثلاث وعشرين سنة من الفراق. كانت تحبني، فقد كنت أصغر أبناءها والأثير لديها. قالوا لي أيضا انها كانت تتمنى بإلحاح أمرين؛ أولهما أن تراني، وثانيهما أن ترى نهاية صدام حسين، كانت تعتبره، محقةً، المسؤول عن حرقة قلبها بفراقي. لم تتحقق أي من أمنيتيها.

أي حسرة.

من مرآب بغداد للحافلات انطلقنا. لم أعرف أن شخصا ثالثا سيكون معنا، كان باسم هو ثالثنا. تبادل مع ماجد كلمات وجلسا سوية في المقعد أمام مقعدي. سرحت في الطريق كعادتي. أحلام اليقظة طريقتي المثلى لتمضية الوقت والحياة معا. في مكان ما توقفت الحافلة ليتناول الركاب طعام الغداء. تناولت مالا أتذكره الآن من طعام وخرجت. في المطعم كان جندي بملابس القوات الخاصة قد تشاجر بصوت مرتفع مع أصحاب المطعم. يبدو أنه احتج على شيء ما.

في الحافلة كان ذلك الجندي يجلس في المقعد الذي خلفي، كان شابا يافعا مديد القامة لطيف ومهذب، التفتُ اليه قبل أن تنطلق الحافلة وسألته لماذا تشاجر في المطعم. أفهمني السبب. كان محقا. شيء ما في الطعام لم يعجبه او شيء يتعلق بالنظافة، لا اتذكر الآن، فكرت لحظتها أن هذا الجندي سيكون بعد أَيامٍ خصمي وعدوي المباشر. حزنت للفكرة. كلانا عراقيان، وهو شاب مثلي له أحلام وأشياء أخرى في الحياة بالتأكيد هي أجمل وأهم من أن يصير عدوي ويقاتلني. لكن هناك من أراد ان يهشم حلمه ويخرب حياتي. بالمحصلة أنا وهو كنا مضطرين لهذا العداء. هو جندي وأنا...

أنا ماذا؟

لنقل ثوري.

أو بالأحرى هو جندي يحمي النظام وأنا معارض سياسي للنظام الذي يحميه، وقد وضعنا قدرنا بمواجهة بعضنا البعض.

هل لي أن اتخيل الى أي مآل انتهى اليه مصير هذا الشاب؟

ربما تكون حربا ما من حروب العراق الكثيرة قد التهمته وضيعته في قبورها الواسعة.

أخذت الطريق تتلوى وتنحدر مرة وترتفع أخرى، وضوء النهار صار أكثر نصوعا. لقد كنا نقترب من نور الجبل، ضوء الشمال الصافي. شاهدت دبابة، وكانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها دبابة. فكرت بعفوية:

" هذا احتلال"

" ماذا تفعل هذه الدبابة هنا؟ أليست تلك أرض من الوطن وأرض سلام كما ينبغي أن يكون؟"

وصلنا مدينة السليمانية، وكانت مدينة جميلة وجذابة بلمعان باهر كما كل شيء آخر في هذه الدنيا كان مصبوغا حينها بسَنا عمر الشباب.

توجهنا الى فندق. سألنا عن غرفة قالوا أن ليس ليدهم غرف فارغة. سَأَلنا صاحب الفندق عما نبحث عنه في السليمانية أجبته:

ـ لزيارة صديق لنا.

قال:

ـ ما اسمه؟

أجبته:

ـ نوزاد عبدالرحمن.

كنت الأصغر سنا بين رفيقيّ ولكني ( بلا حسد) أكثر لباقة وسرعة بديهية.

و نوزاد عبدالرحمن هو شخص حقيقي. طالب حقوق كردي من سكنة بغداد وزميل عمل لي حيث كنت أعمل متخفيا في دار الأثاث العراقية في بغداد التي يملكها خاله في منطقة المسبح. آواني مرة في بيتهم لليلة واحدة، وكان يخمن انتمائي، بعدما، ولسبب ما، كنت خائفا من العودة الى "وكرنا" في الحيدرخانة. ليلتها أكلت كثيرا، كان عشاؤنا في بيتهم طعاما شهيا. سمك وأشياء اخرى. داعبني قائلا:

ـ إذا أعزمك مرة ثانية ابيتنا تصير عدنا مجاعة.

في الصباح كان علي أن أبذل جهودا مضنية لأيقاظه من النوم كي نذهب الى العمل.

كان باسم يقول أنه يعرف مدينة السليمانية جيدا، لذلك تركاني هو وماجد في أحد المقاهي وذهبا لأمر لم يخبراني عنه.

(عند زيارتي للسليمانية في عام 2005، بحثت عن المقهى وعن كل الأماكن التي مررت بها في ذاك اليوم الغريب فلم أعثر على أي منها لأني ببساطة لم أكن اتذكر أي شيء منها).

في السليمانية أخبرني ماجد أن عضويتي في الحزب قد قُبلت، وهنأني.

هل كنت أفقه معاني هذه الأشياء آنذاك؟

أشك في ذلك.

لم أكن أُريد الانتماء للحزب أيام الجبهة الوطنية، كنت مترددا، ولذلك قصة لن اثقل عليكم في سردها هنا، من بين تخاريفها هي عقدة ربطة العنق. فلم أكن مقتنعا، وما أزال، بثوري يرتدي بدلة ويضع ربطة عنق، وكان جل قادة الحزب الشيوعي حينها، كما هم قادته الحاليون، بكروش وبدلات وأربطة عنق.

( لحد الآن لا أستسيغ ربطة العنق هذه، ولم أضعها "حول رقبتي" إلا حينما أضطر لذلك "من أجل صورة لجواز سفر مزور مثلا" أو، كما فعلت ذات مرة، لتجربة الإحساس الذي يشيعه ارتدائها في ألنفس).

غير أني اثناء الحملة على الحزب حسمت أمري وربطت مصيري الشخصي به.

كنت لسنوات أعتبر ان انتمائي المتأخر للحزب يُحسب عليَّ ولم أعرف إلا متاخرا أنه يحسب لي.

في المقهى بهرني الماء البارد في الأواني المعدنية المصفوفة في دولاب خشبي. قدموا لي شايا. أحدهم كان يعرض ساعات يدوية ويتكلم بالعربية، ربما تكون بضاعته مهربة، فالبضائع المهربة تجارة رائجة في كردستان، لم أفهم هل كان بحديثه باللغة العربية يريد إغوائي بالشراء أم لدرأ الشبهة عنه، ربما كنت مخيفا لهم. أحيانا اتوهم أني يمكن أن أُخيف الآخرين بينما في ألحقيقة، كما سأكتشف لاحقا، هي أني أثير شفقتهم، لاني في الحقيقة شخص (يكسر الخاطر) لا أكثر.

جلست طويلا. ربما كنت قلقا، لا أتذكر ولا أظن أني كنت خائفا، ليس لأني شجاع، مع أن ذلك احتمال وارد، وإنما لاني لامبال.

بعد وقت جاء ماجد وأومأ لي بالنهوض.

كان باسم ينتظرنا في سيارة تكسي. ركبت دون أن أُحيي السائق. علي أن أعترف هنا وقبل مواصلة حكايتي هذه باني لست شخصا لبقا اجتماعيا، وأُخطئ كثيرا جدا في المواضعات الاجتماعية، وكان هذا يخلق لي مشاكل أقلها تصور أني متعالٍ على الآخرين.
بعدما تحركت سيارة التكسي أخذ ماجد يسأل ألسائق، وهو شاب ممتلئ الجسد يشاربين ناعمين، عن أشياء تتعلق بالسياسة وبأوضاع المدينة. لكزته. ابتسم. قال موميا إلى السائق:

ـ هو رفيقنا.

من داخل السيارة بدت المدينة بأزقتها الصخرية الضيقة ودروبها الملتوية وأسواقها المسقوفة وكأنها تطوي في حناياها هواجس وأسرار كثيرة.

جالت بنا السيارة في دروب عديدة وانتهت الى فسحة عريضة ببيوت منعزلة يسورها برحابة من بعيد جبل واسع المحيط (أظنه جبل أزمر). ألقت الشمس الراحلة حزم ضوء شفقي شفاف على ثنيات الجبل متموجة الظلال. كان كل شيء من حولنا يرفل بالنور. جَلَسَتْ عند باب بيت مجاور للبيت الذي سندخله مع مضيفنا امرأة مسنة بغطاء رأس أبيض أضاف، مع الوان ملابسها المحاكية لبهجة الربيع، على الجو نصاعة اضافية فوق تلك التي تركها برد الربيع المنعش على كل الأشياء:

البيوت والشوارع والناس...

كان مضيفنا وحده في البيت. شربنا ليلتها بيرة وتناولنا ما لا اتذكره من طعام، اظنه كان كبابا جلبناه معنا من السوق.

تحدثوا كثيرا عن كل مايخص السياسة. كنت بطبيعتي قليل ألكلام كأني لا أجد ما أقوله للناس الغرباء. وكل الناس عندي غرباء.

بعد هبوط الظلام جاء رجل أنيق مديد القامة الى ألبيت، حيانا وأخذ يتحدث حديثا مطولا مع مضيفنا باللغة الكردية، لم نفهم عماذا كانا يتحدثان، استغرقهما الحديث لفترة بعدها نهض مضيفنا الى داخل إحدى الغرف ففاجأنا الضيف بتوجيه الحديث لنا بلغة عربية واضحة وسالنا مجاملا، مع ابتسامة:

ـ كيف الاحوال في بغداد؟

كنا نظنه قبل أن يكلمنا أنه لايجيد العربية.

أجابه ماجد جوابا مبتسرا يناسب السؤال. عاد مضيفنا من داخل الغرفة يحمل مجلة الثقافة الجديدة وأوراق أخرى وأعطاها للرجل، نهض هذا وودعنا بلطف وخرج.

واصلنا سهرنا. أذكر أن من بين ماقاله مضيفنا مازحا معي:

ـ بعد يومين راح تلبس هدوم بيشمرگة وتحمل بندقية وتعيش بالجبل.

أثارت هذه العبارة اضطرابي كأني ما أزال لا أصدق بأني قد تركت بغداد للأبد، كنت أشتاق لها وأتمنى في سري العودة إليها، وربما هذا الذي جعلني أنظر بضيق خفي الى ما ينتظرنا.

استيقظنا مبكرا جدا في الصباح، الجو باردٌ ومنعش، أعدنا الأفرشة الى أماكنها، بحثت عن ساعة يدي، اعتدتُ على خلعها عندما أنام ونسيت اين وضعتها، ألححت بالبحث عنها، تذمر مضيفنا قليلا لأننا بدأنا نتأخر، قررت أن اكف عن البحث بعدما يئست من العثور عليها لكني وجدتها مصادفة في اللحظة الأخيرة تحت طية أحد الأغطية.

نفس الساعة سأفقدها بعد سنوات، سينقطع سيرها المتهرئ حينما وقعنا في كمين.

خرجنا وكان الصباح بكل طزاجته بانتظارنا في الخارج.

جنود السيطرات الناعسون يمرروننا باشارة من أيديهم وهم متدثرون ببطانيات عسكرية تحميهم من لسعات برد أول الصباح اللاذعة. مررنا بمنعطفات كثيرة، ومن كل الزوايا كانت تطل على ناظرنا أشجار كثيرة بألوان وأحجام مختلفة وبأناقة موحدة. كانت الطبيعة مزدهية بنفسها في ذلك الصباح. توقفنا عند أحد المطاعم في الطريق لتناول الفطور. اكلت جبنا محليا قليل ألملح أعجبتني كثيرا طراوته وطعمه أللذيذ، أكل باسم دجاجا، ودفع ماجد عنا جميعا. عند الضحى اقتربنا من مدينة "قلعة دزه" فكانت هناك سيطرة جيش كبيرة فيها عناصر استخبارات، عرفتهم من ملابسهم الخالية من الرتب والمتحررة من قيود الجنود الآخرين، كانوا يتناثرون حول المكان ويفتشون السيارات ويسألون راكبيها عن أوراقهم الشخصية، حركة سريعة وكثيفة حول المكان، توقفت سيارتنا، نظر بوجوهنا جندي استخبارات وسألني دون رفيقّي عن هويتي، كنت أجلس في المقعد الأمامي قرب السائق, كان شعري قصيرا فأثار انتباهه وربما اشتباهه، أبرزت له هوية طالب ثانوية مزورة، نظر فيها وفينا وأعادها اليّ وسمح لنا بالمرور. لم يخبرنا مضيفنا سائق التكسي عن أي إجراءٍ إحترازي فيما اذا وُجِهَ لنا أي سؤالٌ أو إستفهام.

"قلعة دزه" مدينة صغيرة بأزقة صخرية ضيقة. البيت الذي نزلنا فيه كان بيتا منزويا في زقاق صغير، سأل مضيفنا سائق التكسي عن شخص ما وأفهمنا، بعدما أنزلنا هناك، أننا سوف ننتظر شخصا آخر سيتولى أمرنا، ثم ودعنا وانطلق مسرعا. أدخلونا غرفة في طابق مرتفع، الغرفة معتمة قليلة الضوء، في باحة الدار كانت ثلاثة فتيات مراهقات، هن بنات صاحب ألدار، يلهين مع طفل ورددن كلمة عربية يتيمة في كلامهن:

ـ تعالي .

قالنها للمذكر، كنّ يردن أن يُسمعّنا كلاما عربيا.

عند الظهر جاء رجل بلباس كردي حيانا مرحبا بمودة، كانت لغته العربية بسيطة لكنها تكفي للتفاهم. هو من تنظيمات المدينة ومسؤول عن ترحيلنا الى الجبل. أفهمنا أننا سنتحرك الليلة عند الغروب ونبهنا إلى أن نقول إذا ما صادفنا شخص ما، شرطي أو جندي، وسألنا عن سبب وجودنا في المدينة بأننا أتينا من بغداد، من شارع الشيخ عمر، لشراء ماكنات حراثة. بعد قليل جاء شخصٌ آخر، كهل رث الثياب قصير القامة حيوي الجسد، حيانا وجلس معنا على الأرض، تحدثا هو وصاحب البيت بالكردية، تردد في حديثهما اسم (كاك محمود)، بعد قليل خرج الرجل.

سأفهم لاحقا أن الحديث كان يدور عن "محمود بشدري" أحد الكوادر القيادية للحزب الشيوعي في "قلعة دزة"، والمسؤول الحزبي لفصيل "بشدر".

قدموا لنا طعاما وفيرا. الكرم الكردي ابتدأ معنا منذ هذه اللحظة، وسيبقى يلازمنا طوال مكوثنا في الجبل. الكردي العراقي إنسان كريم ألنفس، مضياف، يحترم ضيوفه. (في مناسبة أخرى، بعد سنوات طويلة، سوف يصادفني، في مدينة أوربية، الكردي البخيل الوحيد الذي التقيته في حياتي)

تركونا نرتاح بعد الغداء بانتظار المساء موعد حركتنا. قلقت كثيرا في تلك القيلولة، لم أنم ولم أعرف لماذا تسربت اليَّ مخاوف غريبة، ضايقتني. أكيد ان الموقف صعب والمغامرة لم تكن أمرا عابرا فهي خطيرة وكل الإحتمالات التي لم أفكر لحظتها بأي منها ممكنة الوقوع.

ما أن تحركنا قبيل الغروب حتى تبدد كل القلق واندمجت في الموقف بسهولة وسرعة. أركبنا رفيقنا صاحب الدار بسيارة بيك آب ونقلنا الى مكان على حافة المدينة. هناك كان ينتظرنا الكهل رث الثياب الذي زارنا في البيت والمكلف بنقلنا.

ركضنا مسرعين محنيي الظهور باتجاه وادٍ قريب وكان الرجل يحثنا على الإسراع. تذكرت نفسي حينما كنت العب صغيرا لعبة (العصابة) على غرار أفلام (الغرب الأمريكي). الرجل لا يعرف العربية. كان معه بغل. جلسنا في وادٍ موحش قبيل الغروب ننتظر كما يبدو هبوط الظلام، ومع هبوط الظلام ظهر فجأة من الحافة العليا للجبل فوق وادينا، حيث السماء الشاحبة، شبح عجلة عسكرية وبضعة جنود من حولها، إرتبكت، دققت النظر، نظرنا جميعا صوب العجلة العسكرية وجندها، هم أيضا توقفوا وأخذوا ينظرون إلينا.....

يتبع