-عشرٌ- من الوصايا الليبرالية لليساري المبتدئ!


هشام روحانا
2016 / 8 / 6 - 13:13     



تلبية لدعوة الدكتور باسل غطاس (النائب عن التيار القومي في الكنيست الاسرائيلي) في مقالته خفيفة الظل "أن تكون يساريا في أيامنا" والمنشورة على موقع التيار "عرب 48" وموقع صحيفة "العربي الجديد" القطرية والتي تدعو لـ".. إعادة تعريف المصطلحات، وإعادة النظر في ما كان يبدو كأنّه من المسلمات، وكذلك لصقل المعاني، لما يلحقها يومياً من غبار تشويهٍ أو خلطٍ عجيب غريب، بسبب الجهل والإسفاف، أو بسبب فوضى الحالة التي نعيشها، أو بقصدٍ في خدمة من في مصلحته خلط المسمّيات والتعريفات" كما جاء لديه، سأتناول مقالته هذه وموضوعها "مصطلح اليسار" كما يعرفه هو لنرى ما هو اليساري في هذا اليسار الذي يصيغه لنا في وصايا تأمر وتنهى. ونقول انها مقالة خفيفة الظل لأسباب عدة سأذكر منها اثنين؛ انها أولا تذكرنا بعنوانها بنص أكثر رصانة ووزنا، وثانيا لأنها تأتي في سياق رد فعل سجالي على تعابير فيسبوكية ظهرت محتفلة بالانقلاب الحاصل في تركيا. ولكي أقر بالذنب، منذ البداية، فإنني من بين هؤلاء الذين سُروا بهذا الانقلاب على من أرى أن يديه ملطختان بدماء الشعب السوري كلتيهما، الا أن احداهما، والحق يقال، كانت منشغلة اكثر من الاخرى بنفطه ومصانعه ايضا، لكن الوقت لم يسعفني لأعبر عن هذا السرور فيسبوكيا.
والناظر في المقالة جميعها واجزائها يرى أن النائب الممثل عن ابناء شعب مستعمر مهجر لاجئ ومحتل، يتبنى خطاب المُستعمِر البعيد والقريب بحيثياته ومقدماته النظرية واستنتاجاته (من حيث يدري ومن حيث لا يدري). إذ يصير الصراع بين ما كان معسكرا اشتراكيا وما يسميه هو "الغرب" ثنائية بالية قديمة فاستُنفِد الصراع من أجل الحرية والعدالة والمساواة ذلك أن لا حقيقة مطلقة [وكما جاء لديه:... تجعل اليسار متناقضاً، بل والأكثر رفضاً لأي فكر شموليٍّ يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة]. وإذ يتبنى النائب عنا هذه المقولة الما بعد حداثية والتي يسكن في أسها أن الحقائق متعددة بتعدد الذوات التي تنطق بها فلا مقياس لصحة اية حقيقة إذا! وإنه يسلم بهذا بأن ما نعتقد انه حقائق مؤسسة ومكونة لنا كشعب ومجتمع، هو بيد من لديه سلطة القوة وقوة السلطة. وهكذا وبغياب "الحقيقة المطلقة" يصير كل حدث (كالنكبة مثلا) حدثا خاضعا للتأويل، فيمتلك ناصية حقيقته من ينجح بإحضار الاستعارة والمجاز والتفسيرات والدلالات. وبغياب "الحقيقة المطلقة" يصير الصراع الطبقي الذي حُمل الى الواجهة على يد العراة المعدمين (sans-culottes) شعارا يطالب بالحرية والعدالة والمساواة اثناء الثورة الفرنسية مثلا، تعبيرا عما يسميه "كرها طبقيا". ولكن كيف يصار الى الغاء "الحقيقة المطلقة" وبعد بضعة اسطر لا غير يتم اعلاء الديمقراطية "قيمة قائمة بحد ذاتها" [...وهذا يعني اعتبار الديموقراطية قيمةً بحد ذاتها] ذلك أن القيمة القائمة بحد ذاتها هي حقيقة مطلقة. وبُعيد هذا كيف تصير القيمة، أي قيمة، قائمة بحد ذاتها، اليس عليها أن تُقيّم أولا وتُقاس بالنسبة الى قيم أخرى، هل يعني الدكتور غطاس بهذا التعبير أن الديمقراطية قائمة كقيمة القيم جميعها فتقاس قيم مثل الحق بالحياة والحق بالحرية القومية والحق بمقاومة الاحتلال والحق بالعمل مثلا، اليها وبها؟ ومن ثم هل هنالك على هذه الكرة الارضية قيمة قائمة بحد ذاتها؟ دلنا عليها تالله عليك. لكنني اعتقد هنا وللإنصاف انه كان يقصد القول: اعتبار الديمقراطية قيمة عليا ولكن امرا ما ختله.
لكننا لا نتحامل عليه إذ ندعي بان هنالك في هذه المقالة تبنيا للخطاب المهيمن (وهو يميني بالضرورة في زمن الكسوف الطويل هذا) وسنسوق بعض الشواهد. عندما يلجأ من يلجأ الى اخراج المقولات السياسية من سياقها العيني، أي من سياقها التاريخي وللدقة من سياقها الاقتصادي-السياسي لتصير وصايا وعناوين تتخذ طابعا اخلاقويا (أي مدعيا للأخلاق) فإنه يضع هذه المقولات سلاحا بيد المهيمن، اي بيد الطبقة المهيمنة. فخذ مفهوما كالديمقراطية مثلا وما هي الان على ما هي عليه الا نتاج صراع اجتماعي سياسي ونقابي وصل بها الى ما وصل كتعبير عن تقدم هنا وتراجع هناك في حدة واشكال وتنوعات هذا الصراع. فاصبح يفهم منها الديمقراطية الليبرالية الشكلية. فليست الديمقراطية مفهوما منزلا من العلياء ولا وثنا يعبدُ، بل هي مفهوم يحمل داخله تاريخ الصراع الاجتماعي على الاقل منذ الثورة الفرنسية في عصرنا الحديث. وعندما تصير مفهوما اجتماعيا ونتاجا لصراع تاريخي نستطيع التعامل معها ليس كترياق يشفي الامراض جميعها [أو كما جاء لديه ... شرطاً لتحقيق القيم التي جئنا على ذكرها] بل كقيمة بين قيم أخرى، والا فإن ضرورة تحقيقها حصراً، يصير هو الشعار الذي به نضرب حمما سوداء ولهبا أحمر؛ أوليس باسمها ضرب العراق؟
ومن ثم نأتي لمفهوم "النظم الشمولية" الذي رفعه الرفيق السابق ضد من لا يراه يستحق تسمية اليسار اليوم. إن تلخيص مجمل تجربة "الاشتراكية المتحققة فعلا" بالرغم مما لها من قصور وأخطاء وخطايا بالقول أنها "نظم شمولية" ادعت تطبيق "رؤية شمولية" عدا عن انه تبنٍ بالكامل للتسمية السائدة برجوازيا لهذه النظم، فهو أيضا اخراج لهذه التجربة من سياقها التاريخي الاجتماعي والموضوعي الى ما هو عمومي وغير منتج نظريا، على الاقل من أجل بناء رؤية جديدة ليسار يدعيه. أليست روما الجديدة وعاصمتها واشنطن هي نظام شمولي مثلا وعلى الاقل من وجهة نظر شعوبنا المكتوية بنار حديدها؟ وما إبعاد هذه المفاهيم أي مفهوم "الحقيقة" ومفهوم "الديمقراطية" ومفهوم "النظم الشمولية" عن مسارها التاريخي الا اعلان "نهاية التاريخ" فمنذ سقوط المعسكر الاشتراكي وهيمنة الرأسمالية المعولمة والامريكية تحديدا قطبا واحدا وحيدا، صار التاريخ ما تكتبه يداها.
لكن له فضل تذكيرنا بمصطلح غاب عنا منذ "الحقبة الساداتية"، الا وهو "الكره الطبقي" وكنا نعتقد أن الغبار قد طمره فلا يرى، ومن أي نسخة من كتاب "المدنيات" استعاده؟ أمن نسخته القديمة أم من نسخته المستحدثة؟ يقول لنا الدكتور غطاس: على اليساري [...رفض كل أنواع الاستغلال والإقصاء والكره الطبقي والعرقي]. اما وقد قبلنا ان لا نكره طبقيا فهل لنا ان نحسد؟ أو أن نشتهي؟ أقصد كيساريين. ما هذه الخفة التي يتم تناول موضوع تجديد اليسار بها؟ أوهل العلاقة القائمة بين العامل وصاحب رأس المال أو بين الفلاح ومالك الأرض علاقة عاطفية؟ أم هي علاقة صراع موضوعي بين مستغِل ومستغَل؟
تغيب اذا المصطلحات والمفاهيم العلمية التي تعودنا على توظيفها يسارا قديما وجديدا. فأين مفهوم "الصراع الطبقي" و"الطبقة العاملة" و "البرجوازية" و "الامبريالية" ( ولن أسأل أين هي "الصهيونية") في هذه المقاربة التي تريد أن تعيد [تعريف المصطلحات وصقل المعاني]! تبدو لنا هذه المقاربة إذا، وكأنها مستلة من أدبيات "منظمات المجتمع المدني" الممولة من قبل الشركات العابرة للقارات.
وهكذا يجيئ الاعلان الجديد عن اليسار كما يراه النائب القومي في الكنيست الاسرائيلي اعلانا يكاد يكون مطابقا لإعلان حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة. فنبحث عما هو يساري تحديدا في هذه الوصايا الامرة المانعة فلا نجده. [ أن تكون يسارياً في أيامنا يعني، بالضرورة، أن تكون وطنياً وملتزماً بقضايا شعبك ومجتمعك...] يكتب؛ ولكن ما هو العنصر اليساري، تحديدا في هذا، فما تأتي به هنا يا عزيزي يدخل تحت بند الوطنية وربما يكون موضوعا لمقال يكون عنوانه "أن تكون وطنيا في أيامنا"! ويصلح أن يكون مبدء للعامل وللفلاح وللبرجوازي وللمثقف وللشخص ايا كان ارتفع ام هبط، لكن السؤال هنا هو ما هي الوطنية اليسارية؟ وقس على هذا عند الحديث عن [احترام حقوق المرأة.... في المجتمع الذكوري...]. وهو تبنٍ للخطاب النسوي في بداياته والذي وكأنه يُفصِل ويحدد اضطهاد المرأة بوصفه نتاجا للمجتمع "الذكوري"، أي قبل ان يتفاعل هذا الخطاب مع الفكر اليساري ليفعله وينفعل به، ليغدو موضوع اضطهاد المرأة وتداخل "الذكورية" والانقسام الطبقي للمجتمع والتوظيف السياسي/الاجتماعي للدين، موضوعا يتطلب جهدا نظريا يبتعد بالموضوع عن هذه الصيغة الكسيحة والاتية وكأنها رفع للعتب.
وعليه فانه حينما يستخدم مفاهيم ومصطلحات كـ "إعادة توزيع الثروة" و"العدالة الاجتماعية" و "معارضة الاستغلال الطبقي" و "رفض كل أنواع الاستغلال والإقصاء والكره الطبقي"، يبتعد ابتعاد الزيت عن النار عما هو اساس هذا جميعا، اي عما يراه اليساري المفترض وعلى الاقل منذ أن أظهر ماركس بالتحليل الاقتصادي وبالمعطيات والمعادلات ما كانت توصلت اليه الانسانية التقدمية وفكرها الحر من قبله كـ"خطيئة أولى"؛ أي الملكية الخاصة لوسائل الانتاج حصرا وتحديدا. فلا يوجد يساري يستطيع مقاربة اليسار كموضوع للنقاش ولـ "إعادة تعريفه" و"صقل معناه" دون مقاربة موضوع الملكية الخاصة لوسائل الانتاج بهذا التعبير الصريح المباشر والذي لا يقبل الابتعاد عنه بصيغ المواربة وبالطرق الالتفافية. إن مدى جذرية موقفك من هذه الملكية الخاصة هو ما يحدد يساريتك! وكل ما عدا هذا فهي أمور تقربك أو تبعدك عن مفهوم اليسار. لا الديمقراطية ولا حقوق الاقليات القومية ولا حقوق المرأة ولا أية قيمة من هذه القيم الرائعة والضرورية مجتمعة أو منفردة يجعل منك يسارا دون أن تؤمن بضرورة القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج كمدخل ضروريا اليه. فمنذ أن ارتفعت راية الملكية الخاصة لوسائل الانتاج صار الأخ قايينا لأخيه. وافتتح باب الصراع بينهما، لا يزول الا بزوالهما او زوالها.
على أن الغائب الاضافي عن هذه المقالة الطريفة هو النقاش النقدي-اليساري للانقلاب في تركيا ولنظامها وهو الدافع الرئيسي على ما يبدو لكتابتها، وهو القائم أصلا في خلفية المشهد الكامل أي الحالة التي صار فيها ربيع العرب جهنمهم. فعندما يعنون مقال ما "... في أيامنا" تفترض أن ايامنا هذه تعود الى يومنا هذا الذي نحن فيه من صراع ضخم جار على قدم وساق وكيف يقارب هذا اليسار الذي يريده النائب غطاس، تحول الثورات العربية الى مقتلة؟ وكيف صارت انتفاضة ديمقراطية واعدة في سوريا بؤرة للثورة المضادة وللانقضاض على كل ما هو تقدمي وحضاري فيها؟ وكيف استقدم الاجنبي ليصير مخلصا؟ وتحت اي الذرائع أفتي لرجعيات العرب ومملوكيها رفع راية الحرية والديمقراطية؟ وكيف غابت قضية فلسطين وشعبها عن اجندات هذه "الثورات"؟ وكيف رفع مشروع الاسلام السياسي ليصير الحل الواعد متخذا من المشروع الاردوغاني في تركيا نموذجا؟