نحو قراءةٍ للولايات المتحدة ككيان -استيطاني – إبادي- لماذا تعنينا؟ وماذا تعني لنا؟ (الجزء الثاني)


مسعد عربيد
2016 / 7 / 31 - 09:15     

نشأة الخطاب الأميركي:
توظيف الأسطورة في تكوين الخطاب
من أجل اخفاء جرائمه الفظيعة، صاغ الاستعمار الأوروبي لأميركا الشمالية روايته وأساطيره، عامداً إلى تقديم استيطانه للأرض وإبادة سكانها بكل ما فيها من وحشية ودموية، على أنها أفعال "سماوية نبيلة". وفي سبيل الوصول إلى هذه الغاية، حَبَك المستوطنون الأساطير حول نشأة الولايات المتحدة وعظمة الدولة والمجتمع الأميركيين، وهي الأساطير التي تشربتها الثقافة الشعبية السائدة في أميركا وأصبحت، مع مضي الزمن، جزءًا لا يتجزء منها بفضل تبني السياسات الحكومية الرسمية ووسائل الإعلام والدعاية ونظام التربية والتعليم وحتى المؤسسات الدينية لمثل هذه الخرافات وترويجها. وبما أن هذه الأساطير تلعب دوراً هاماً في تشّكيل أسس وبنية "الهوية الجامعة" للشعب، لذلك كان من الضروري صياغة سردية الدولة الأنجلو- الأميركية وتوظيف الدين والأساطير التوراتية على شكل "عهد" منحه الله للمستوطنين الأوروبيين البيوريتانيين الأوائل (الطهوريين) يمنحهم الحق في الاستيلاء على الأرض. وفي هذا الصدد، نتناول اسطورتين لعبتا دوراً تأسيسياً هاماً في حبك سردية أميركا ونشأتها:
1) نظرية (أو عقيدة) الاكتشاف Discovery Doctrine
2) و"اسطورة كولومبس".
"نظرية الاكتشاف"
المقصود ب"الاكتشاف" هنا هو اكتشاف الأميركتين والكاريبي، أي النصف الغربي من الكرة الأرضية.
أخذ الفاتيكان، منذ القرن الخامس عشر، بإصدار مراسيم تمنح "المكتشفين المسيحيين" الحق في امتلاك الأراضي (أي الاستيلاء عليها عنوة) وضمها الى المملكة المسيحية (الأوروبية) التي ينتمون إليها. وتعنى مفردة "الأراضي" هنا كل الأراضي التي يقطنها سكّان غير مسيحيين. وعليه، يصبح من حق هؤلاء المكتشفين أن يملكوا تلك الأراضي وأن يستغلوها أيضاً. أمّا السكّان الوثنيون (أي غير المسيحيين) الذين يرفضون اعتناق المسيحية، فإنهم يقفون أما خيارين: الموت أو العبودية.
في هذا السياق، أصدر البابا نيكولاس الخامس في 18 يونيو 1452 (اي أربعة عقود قبل رحلة كريتسوفر كولومبس الأولى نحو "العالم الجديد")، أصدر مرسوماً يمنح فيه الفونسو الخامس، ملك البرتغال آنذاك، الحق والسلطة في إخضاع الوثنيين والمسلمين وغيرهم من "غير المؤمنين" إلى العبودية الأبدية. وبعد أربعة عقود من ذلك التاريخ أي في 4 مايو 1493، بضعة أشهر بعد رحلة كولومبس الأولى (في 3 أغسطس 1492)، وحسماً للمنافسة والخلافات التي احتدمت بين إسبانيا والبرتغال حول التوسع الاستعماري، أصدر البابا الكسندر السادس الوثيقة المعروفة باسم Inter Caetera والتي منحت كولومبس حق وصلاحية الاستيلاء على أراضٍ جديدة "عبر البحار" ونشر المسيحية بين السكّان الأصليين، وحرّمت على أي دولة مسيحية أن تفرض سيطرتها على أراضٍ تملكها دولة مسيحية أخرى وهو ما عُرف لاحقاً باسم "قانون الأمم".
شكّلت هذه الأوامر البابوية، وهي في الجوهر لا تختلف عن الفتاوي، الأساس لتبرير عقيدة الاكتشاف وتجارة العبيد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، تمهيداً لعصر الكولونيالية والإمبريالية، وأصبحت في أيدي القوى الاستعمارية أرضية لإستراتيجية استعمارية جديدة حيث تصبح الأراضي المكتَشَفة ملكاً للحكومة التي ينتمي إليها المكتشفون.
اكتسبت الدول الأوروبية، إذن، الحق في امتلاك الأراضي التي "يكتشفها" الغزاة الأوروبيون، أما السكّان الأصلانيون فقد فقدوا حقهم الطبيعي في هذه الأراضي بعد وصول الأوروبيين إليها وادعائهم ملكيتها. بعبارة أخرى، تضمنت مخططات الغرب ونزوعه نحو الهيمنة على العالم، تفويض أوروبا بإخضاع الشعوب التي تختلف عن الشعوب الأوروبية في تاريخها ومخزونها الحضاري والثقافي وطرائق عيشها ومسلكها، حيث أضحت هذه الشعوب بسبب الفوارق، من المنظور الأوروبي، بحاجة الى الاستعمار كي "يعينها على التقدم".
في عام 1823، تبنت الولايات المتحدة هذه العقيدة رسمياً لتبرير طموحاتها التوسعية وهو ما عُرف ب"مبدأ أو عقيدة مونرو" Monroe Doctrine نسبة إلى الرئيس الأمريكي جيمس مونرو. وجدير بالذكر أن هذه العقيدة جاءت في سياق الحروب النابليونية والتي زادت مخاوف الولايات المتحدة من احياء وتفاقم التنافس بين الدول الأوروبية في مشاريعها الاستعمارية. وتقوم هذه العقيدة على حيادية الولايات المتحدة حيال الشؤون الأوروبية وعدم التدخل والتورط في الصراعات بين الدول الأوروبية ومستعمراتها في نصف الكرة الغربي. هذا من جهة. غير أن الجزء الآخر من هذه العقيدة، وهو الأهم، فيتمثل في القرار الأميركي بعدم السماح لأي دولة أوروبية باقامة مستعمرة جديدة في ذلك الجزء من العالم. أمّا إذا حاولت أي دولة أوروبية التدخل في أي دولة في نصف الكرة الغربي، فإن الولايات المتحدة ستعتبر ذلك عملا عدوانياً وستقوم بالرد عليه. هكذا أصبحت بلدان الكاريبي والأميركتين - الوسطى والجنوبية - تحت هيمنة الولايات المتحدة وهو ما أسس لما عُرف لاحقاً ب"الحظيرة الخلفية" لأميركا.
"أسطورة كولومبس"
رواية كريتسوفر كولومبس واكتشافه للأميركيتين موضوع خلافي تكتنفه إشكاليات وتأويلات عديدة تمس كافة جوانب رحلاته وموطنه الأصلي وحتى مقر قبره بين إسبانيا وإيطاليا وغيرها من الخلافات. غير أن الرواية - الأسطورة الرائجة، دون الدخول في المناكفات، تقول باختصار، إنه قام برحلته الأولى عام 1492 (وهو ذات العام الذي سقطت فيه غرناطة والدولة العربية في الأندلس) وبعد اكتشافه ل"العالم الجديد" والاستيلاء على أراضيه، أصبحت هذه الأراضي امتداداً لمملكتي إسبانيا والبرتغال بمباركة بابا الفاتيكان. فقد نصّت معاهدة تورديسيّا Treaty of Tordesilla المبرمة عام 1494 على أن تقتسم كل من إسبانيا والبرتغال العالم الجديد وفق خط عمودي افتراضي يبدأ من جرينلاندا شمالاً وصولاً الى ما يُسمى اليوم بالبرازيل جنوباً، وتصبح الأراضي الواقعة غرب هذا الخط تحت سيطرة إسبانيا وتلك الواقعة شرقه ملكاً للبرتغال. هكذا إذن تم تبرير وشرعنة فتح واستعمار النصف الغربي من الكرة ألارضية.
وبعيداً عن هذه الخلفية التاريخية، فإن ما يهمنا في سياق هذه الدراسة، هو أنه تمّ تكريس "أسطورة كولومبس" في الحياة والخطاب العام الأميركيين (الثقافة العامة، الإعلام، المؤسسات الدينية، تدريس التاريخ في المدارس والجامعات وغيرها) حتى أن الحكومة الأميركية الفيدرالية خصصت "يوم كولومبس" لاحياء ذكراه كعيد وطني أميركي وعطلة رسمية يوم الاثنين الثاني من شهر أكتوبر من كل عام (رغم معارضة ورفض بعض المدن لاحياء هذه الذكرى)، مع أن كولومبس لم يطأ أرض ما يُسمى اليوم بالولايات المتحدة. غير أنه لا يخفى أن الغاية من هذا هي تكريس هذه الأسطورة وغرسها في الوعي الشعبي والحياة السياسة والعامة للأميركيين بغية الايحاء بأن المستوطنين الأوروبيين الأوائل كانوا جزءًا من الكولونيالية الأوروبية البيضاء والنظام الاستعماري العالمي.
الشعوب الأصلانية في الخطاب الأميركي
تخبرنا السردية الأميركية الأصلية، أن الولايات المتحدة وُلدت كدولة مستقلة نتيجة التمرد على بريطانيا وكفاح شعبها ضد قمع وظلم تلك الإمبراطورية، ما يعني أن الدولة الأميركية هي نتاج "للثورة ضد الاستعمار ومن أجل التحرر الوطني". وهي رواية توحي في ثناياها بالطابع "التقدمي" لأميركا وتأسس لما تتشدق به الولايات المتحدة من الدفاع عن الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان وغيرها من الادعاءات الكاذبة، لا على أراضيها فحسب بل في كافة أنحاء العالم:
- فهي صاحبة "الدستور الأميركي" كنتاج إنساني كبير لكفاح الشعوب من أجل الحرية والديمقراطية والمساواة؛
- ولها يعود الفضل في تعميق الديمقراطية والقضاء على العبودية؛
- وهي التي أنقذت أوروبا من ذاتها وصراعاتها مرتين خلال القرن العشرين في حربين عالميتين؛
- وهي التي حاربت الشيوعية والفاشية وانتصرت عليهما؛
- وصولاً الى الادعاء، ولعل هذا هو بيت القصيد، بأن الولايات المتحدة تحمل العبء الأكبر من هموم الإنسانية في الحفاظ على الأمن والسلام العالميين، وهو الادعاء الذي يعبد الطريق "لتدخلاتها الإنسانية"Humanitarian Intervention من أجل الدفاع عن شعوب الأرض وفقرائها ولاجئيها.
الشعوب الأصلانية ومقولة "التعددية الثقافية"
شاعت في الولايات المتحدة منذ أواسط ستينيات القرن الماضي مقولة "التعددية الثقافية"، وكان ذلك في حقبة نضالات حركة الحقوق المدنية التي قادها السود الأميركيون. وقد أضفت هذه المقولة سمة "التقدمية" على المجتمع والسياسة والتاريخ الأميركيين.
ولكن على الرغم من هذه المقولة، ظلت الشعوب الهندية الأصلانية وغيرها من الجماعات الإثنية خارج المشهد حيث يقيم الهنود الأصلانيون في مناطق محددة ومنعزلات مغلقة مرسومة وفق خرائط واتفاقيات ابرمت بينهم وبين الحكومة الأميركية، مما أدّى إلى تعذر دمجهم ليصبحوا جزءًا لا يتجزء من منظومة التعددية الثقافية، وهكذا تم تحويلهم الى مجموعة عرقية مضطَهَدة يُنظهر إليها على أنها بدائية أو دونية.
فمن منظور الأكاذيب الأميركية ومروجيها، فإن هذه الشعوب مجرد قبائل متناثرة هنا وهناك في طول أميركا الشمالية وعرضها، أو "جماعات سكانية" أو عرقية أو إثنية، متناسين أنه هذه الشعوب عاشت على هذه الأرض آلاف السنين حيث كوّنت وعيها ووجدانها، وصقلت هويتها وثقافتها، وعليها بنت حضارات وثقافات وراكمت معارف عظيمة في شتى مجالات الفلسفة والعلوم والطب وغيرها.
هكذا تجلى الخطاب الأميركي في إفناء الوجود المادي للشعوب الأصلانية (الأرض والجغرافيا) تأسيساً لمحو الثقافات والحضارات والنظم المعرفية وعلاقة هذه الشعوب بأرضها، والإبقاء على بعض الشذرات من الحكايات والأخبار.
في هذا السياق، تجدر ملاحظة أن الخطاب السائد يبرز "مساهمات الأفراد" من الجماعات المضطَهَدة في بناء "العظمة الأميركية" المفترضة. أما الجماعات المضطَهَدة، وهنا نخص بالذكر الهنود الأميركيين الأصلانيين، فيعزون لها الفضل في مساهمات ثقافية واجتماعية ساعدت في "إثراء" الولايات المتحدة وتنوعها الثقافي مع أن هذه الجماعات ومساهماتها سبقت نشوء الولايات المتحدة بآلاف السنين. وليس هذا بحدِ ذاته ليس سوى غطاء ماكر لطمس الحقيقة وهي أن وجود هذا البلد بحد ذاته هو حصيلة نهب واغتصاب القارة الأميركية الشمالية ومواردها وثرواتها. أما المكسيكيون الأميركيون والبورتوريكيون، فقد تمت اذابتهم في سياق التعددية الثقافية وأصبحوا مجموعة متميزة اطلق عليها اسم "اللاتينو" أو "هسبانيك" Hispanic.
أميركا والكيانات الاستيطانية الأخرى: ما الفارق؟
"إن اكتشاف الذهب والفضة فى أمريكا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم وإستعبادهم ودفنهم أحياءًا فى المناجم، وبدايات عزو ونهب الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوى البشرة السوداء لغرض التجارة بها، هذه كلها ً أعطت إشارة انبلاج الفجر الجديد لحقبة الانتاج الراسمالي. إن هذه العمليات الرغيدة هي اللحظات الرئيسية للتراكم الأولى، وعلى خُطاها كانت الحروب التجارية التي خاضتها الأمم الأوروبية التي اتخذت الكرة الأرضية مسرحاً لها...".
كارل ماركس
عديدة هي أوجه الشبه بين الكيانات الاستيطانية الأوروبية البيضاء في الولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. وإن كنا نرى أن هناك فروقاً جوهرية تميز هذا الأخير عن غيره، ولكننا لسنا بصدد معالجتها هنا.
سنشير فيما يلي إلى فارقين هامين يفصلان الولايات المتحدة من جهة، ومثيلاتها من الكيانات الاستيطانية الأوروبية البيضاء الأخرى من جهة أخرى:
1) يكمن الفارق الفاصل الأول في أن الأولى (الولايات المتحدة) استطاعت بفضل التراكم الرأسمالي وتحقيق الأرباح الطائلة وبناء البنية التحتية الصناعية والتكنولوجية، استطاعت أن تقيم أكبر قدرة عسكرية واقتصادية في التاريخ الحديث. بعبارة أخرى، تتسم الولايات المتحدة عن غيرها من المستوطنات البيضاء في أنها استطاعت - عبر نهب الأراضي وإبادة السكان الأصلانيين وتدمير كياناتهم واستعباد الأفارقة لاحقاً - التأسيس للتراكم الرأسمالي الأولي والذي لعب دوراً مركزياً في نشوء الدولة الأميركية الرأسمالية الأميركية وتطورها وتوحشها والتي تتجلى اليوم في الإمبريالية الاحتكارية.
2) أما الفارق الثاني والمهم، هو أنها (الولايات المتحدة) طبّقت واستخدمت ما اكتسبته من خبرات في الإبادة الوحشية للشعوب الأصلانية على الشعوب الأخرى منذ القرن التاسع عشر والتي لحق بالشعوب العربية قسطاً كبيراً منها في السنوات والعقود الأخيرة.
استنتاجات ختامية:
الحقيقة حول الشعوب الأصلانية
قبل الانتقال الى مناقشة ونقد الخطاب، أختم الجزئين الأول والثاني ببعض الملاحظات الاستنتاجية:
□ كانت الأراضي التي قامت عليها دولة الولايات المتحدة الأميركية مأهولة لقرون طويلة بالملايين من الشعوب الأصلانية التي بنت عليها وعلى مدى قرون طويلة قبل وصول المستوطنين البيض حضارات مزدهرة وثقافات ونظم معرفية وانظمة اقتصادية ومجتمعات متقدمة قادرة على إدارة شؤون حياتها وتوفير احتياجاتها وتحقيق اكتفائها الذاتي من خلال الملكية المشاعة.
□ الآن، وبعد مضي خمسة قرون ما زالت الأدلة والوقائع تتراكم لتزيل غشاء الكذب والتزييف عن إبادة السكّان الأصليين ولتكشف حقائق هذه الإبادة كجزء أساسي من تاريخ أميركا.
□ لقد تمّ تصوير الهنود الأصلانيين عبر التاريخ الأميركي كأناس دونيين حيال الغزاة الأوروبيين البيض "الذين اختارهم الله" وباركهم وبارك "جرائمهم" في إفناء الملايين من البشر. وقد حرص التاريخ الأميركي في سرديته الرسمية على تغييب هذه الشعوب من صفحاته وكأنها لم تكن، وكأن هؤلاء الغزاة قد حطوا أقدامهم على أراضٍ عذراء خالية من السكّان.
□ من منظور الشعوب الهندية الأصلانية، فإن تاريخ الولايات المتحدة منذ نشأتها وعبر مراحل تطورها حتى يومنا هذا، هو تاريخ كيان استعماري - استيطاني - إبادي، أقام دولته كغيره من الكيانات الاستيطانية الأوروبية البيضاء، على أيديولوجية تفوق العرق الأبيض بكلفة فادحة تجسدت في إبادة الملايين من الشعوب الأصلانية ونهب أراضيها واستعباد ملايين أخرى من السود المستحضرين من إفريقيا.
أما مَنْ تبقى منهم على قيد الحياه، فيعيش اليوم في ظل علاقة استعمارية عنصرية داخل منعزلات منغلقة يخيم عليها الفقر والمرض والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية.
□ في سعيه وراء الذرائع لتبرير جرائمه هذه، روّج المستعمر الأوروبي لمقولات عنصرية وتافهة لتفسير الصراع بين المستعمِر والمستعمَر مثل مقولة إن هذا النزاع نتيجة حتمية "للفوارق الحضارية" والثقافية وسوء الفهم بين المستعمِر والمستعمَر أو تلك المقولة الأكثر مكراً وكذباً والتي تقول بأن كلا الطرفين استخدما العنف بشكل متساوٍ، وهي مقولات لا تنطلي على أحد وليس الغرض منها سوى ذر الرماد في العيون وطمس طبيعة الصراع وحقيقة التناقض ووقائعه التاريخية.
□ غير أن ما يهمنا تأكيده هو أن هذه الأكاذيب ليست شيئاً من الماضي، بل ما زالت تتكرر حتى يومنا هذا وتتخذ أشكالاً وأساليب مختلفة في الداخل الأميركي، كما في السياسة الخارجية للإمبريالية الأميركية ماثلة في اعتداءاتها على شعوب العالم تحت غطاء زعمها الكاذب بأنها تعينهم على التقدم واحراز الديمقراطية والتخلص من حكوماتهم الدكتاتورية التي "تهدد" السلام العالمي.
□ تحاول سرديات التاريخ الأميركي الادعاء بأن هذه الشعوب قد "اختفت" حقاً وأصبحت جزءًا من الماضي. إلاّ أن الواقع يؤكد العكس تماماً. هناك اليوم ما يزيد عن خمس مئة من شعوب وجماعات الهنود الأصلانيين "المعترف بها" من قبل الحكومة الأميركية والمنضوية تحت إدارات فيدرالية أميركية، تشمل فيما بينها ما يقارب ثلاثة ملايين نسمة. وعلى الرغم من أن هؤلا هم كل ما تبقى من سكّان هذه الأرض الأصليين ، إلاّ أنه يظل دليلاً على صمود هذه الشعوب مقاومتها لمحاولات الإبادة وكفاحها من أجل الحفاظ على الذات والهوية والتراث والتاريخ، وأن الولايات المتحدة بكل جبروتها وسطوتها لم تستطع - ككيان اجتماعي واقتصادي وسياسي جاء حصيلة واحدة من أبشع العمليات الاستيطانية الإبادية في التاريخ البشري - هذا الكيان لم يستطع القضاء على الشعوب الأصلانية بل هي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا وهي مجتمعات تشكّلت بفضل مقاومتها لهذا الاستعمار وصمودها في وجهه حملات الإبادة.