كتاب : القصة في القران - قصة ذو القرنين انموذجا


داود سلمان الشويلي
2016 / 7 / 29 - 23:55     





القصة في القرآن - ذو القرنين انموذجا
2015














غيرَ أنّي أرتَابُ في كلِّ ما قَدْ عَجَزَ العَقَلُ عنهُ والتّفكيرُ – الزهاوي -
كذبَ الظّنُّ لا إمامَ سِوى العقـ ـلِ مُشيراً في صُبحِهِ والمَساءِ – المعري -

















تنبيه:
ان اسباب ورود القصص في القران ، هو انها وسيلة بيانية لفهم الدعوة ، لا لسبب فني تزويقي ، فهي كالمثل ، للعبرة والموعظة، واستخلاص الدروس ،وليس لسبب خاص بالقصة ، ولهذه القصص مسارات سردية خاصة بها ، منها انها – عدى قصة يوسف - غير مكتملة سرديا في سورة واحدة .
اذن ، فالاحداث التاريخية ليست هي المقصودة ، فلا نبحث عن حقيقة تاريخية فيها، ولا تطابق مع الواقع،على الرغم من الكثير من الشخوص (بعض اسماء الانبياء على سبيل المثال) وبعض الوقائع التاريخية ، الا ان هذا السبب لم يكن هو المقصود.
وقد سبق ان نشرت كتابي (تجليات الاسطورة - قصة يوسف بين النص الاسطوري والنص الديني) على شبكة النت عام 2009 ، وقد وجد رواجا كبيرا على مواقع الانترنيت ، بينت هذا الامر، حيث درست فيه قصة يوسف دراسة اتخذت من المقاربات الحديثة في فحص النصوص السردية منهجا لها ، بعيدا عما جاء في التفاسير الاسلامية ، ومن يريد الاطلاع على الكتاب فهو منشور على مواقع كثيرة.
يقول القرآن :
((ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا * إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الارض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما * آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا * قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا * وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا )). (الكهف :83ـ99). (1)
وقبل ان نتحدث عن ايات قصة ذي القرنين ، نؤكد على مسألة مهمة تخص سورة الكهف التي وردت فيها ، وهي انها قد سردت ثلاث قصص غير هذه القصة ، وهذه القصص هي :
- قصة اصحاب الكهف والرقيم.
- قصة صاحب الجنتين وصاحبه الفقير المؤمن.
- قصة موسى وفتاه والعبد الصالح والحوت.
ولو تتبعنا القصص الاربع في السورة لوجدنا ان ما يجمع بينهن هو هدف واحد ، وهو الوقوع اوعدم الوقوع في فتن وغوايات الشيطان .
ففي قصة اصحاب الكهف ، كانت هناك فتنة الدين ،بين الفتية المؤمنين وابناء بلدتهم ، وفي قصة (صاحب الجنتين وصاحبه الفقير المؤمن)، فتنة المال والغرور به، اما فتنة عدم الصبر (العجلة من الشيطان – كما تقول الامثال ) فهي في قصة (موسى وفتاه والعبد الصالح والحوت)، وفتنة السلطة الغاشمة (الفساد في الارض) نجدها في قصة (ذي القرنين) ، وكلها فتن فاعلها واحد ، وهو الشيطان ووسوسته ، حسب التصور الاسلامي.
الفتن الاربع هذه اساسها ومبعثها واحد ، وهو الشيطان حسب الفكر الاسلامي، لهذا ذكر القران طرف من قصة اغواء الشيطان لادم .
(( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا)). [ الكهف:50 ]
(( فوسوس لهما الشيطان)). [الاعراف: 20 ]
لان الشيطان عدو للانسان.
(( يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)). [لبقرة:168 ]
وهو يعدهم بالغرور ، ويفتنهم ويزين لهم اعمالهم الباطلة:
(( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)). [النساء:120 ]
(( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان)). [الاعراف: 27 ]
(( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم)). [الانفال:48 ]
فالشيطان قد انسى موسى وفتاه الحوت: (( قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا)). [ الكهف:63 ]
ومن المؤكد قد انسى موسى وعده بإلا يسأل العبد الصالح : ((قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا)). [ الكهف:73 ]
اما الدرس الذي اراد القران تبليغه بعد قصة صاحب الجنتين فهو ان: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) الا ان ((َالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)). ( الكهف:46)
و خاطب القرآن النبي بعد قصة اصحاب الكهف قائلا: ((واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)).[الكهف:28 ]
وهذا درس اخر يريد القرآن تعلمه ، وهو الصبر وعدم العجلة ، قال القرآن: (( ... ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا)). [الكهف:82 ] بعد ان تعهد موسى بالصبر : ((قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)). [الكهف :69]
فيما كانت الرحمة الالهية - حسب قول القرآن - بإرشاد ذي القرنين الى ما فعله ضد المفسدين هي احدى الدروس التي اراد القرآن تعلمها : (( قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا )).[ الكهف:98 ]
ثم، وفي نهاية السورة قال القرآن مخاطبا النبي : ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )). [ الكهف : 110]
والسورة تحفل بالوعد والوعيد ، ترهيبا وترغيبا ، جنة للصالحين المتبعين لما يريده القرآن، ونارا لمن يتبع خطوات الشيطان.
وهذا ما تريده السورة ، ليس تقديم سرد تاريخي لما حوته من قصص ، او غيرها من قصص القرآن، كحادثة واقعية ، يبحث المسلمون عنها (المفسرون خاصة) في المصادر واللقى الاثارية ومخلفات الامم والشعوب الغابرة.
***
يعرف محمد احمد خلف الله في كتابه (الفن القصصي في القرآن الكريم) القصة على انها: ((ذلك العمل الادبي الذي يكون نتيجة تخيل القاص لحوادث وقعت من بطل لا وجود له او لبطل له وجود ولكن الاحداث التي دارت حوله في القصة لم تقع او وقعت للبطل ولكنها نظمت في القصة على اساس فني بلاغي فقدم بعضها واخر آخر وذكر بعضها وحذف آخر أو أضيف الى الواقع بعض لم يقع أو بولغ في التصوير الى الحد الذي يخرج بالشخصية التاريخية عن ان تكون من الحقائق العادية والمألوفة ويجعلها من الاشخاص الخياليين)). (2)
فيما يعرض سيد قطب أغراض القصة في القرآن ،و يذكر منها :
(( وكان من أغراض القصة: بيان أن الدين كله من عند الله، وبيان أن الدين كله موحد الأساس ، وبيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة موحدة،و بيان الأصل المشترك بين دين محمد ودين إبراهيم بصفة خاصة، ثم أديان بني إسرائيل بصفة عامة؛ وبيان أن الله ينصر أنبياءه في النهاية ويهلك المكذبين ،تصديق التبشير والتحذير، وعرض نموذج واقع من هذا التصديق، وبيان نعمة الله على أنبيائه وأصفيائه، وتنبيه أبناء أدم إلى غواية الشيطان، وإبراز العداوة الخالدة بينه وبينهم منذ أبيهم آدم، وبيان قدرة الله على الخوارق: كقصة خلق آدم، وقصة مولد عيسى. وقصة إبراهيم والطير الذي آبَ إليه بعد أن جعل على كل جبل منه جزءاً. وقصة "الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها". وقد أحياه الله بعد موته مائة عام، وبيان عاقبة الطيبة والصلاح، وعاقبة الشر والإفساد كقصة ابني آدم، وقصة صاحب الجنتين. وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم. وقصة صد مأرب. وقصة أصحاب الأخدود،وبيان الفارق بين الحكمة الإنسانية القريبة العاجلة، والحكمة الإلهية البعيدة الغيبة. كقصة موسى مع "عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدُنا علماً" ،إلى آخر هذه الأغراض التي كانت تساق لها القصص فتفي بمغزاها)). (3)
ومن خلال عرض تلك الاغراض لم نجد ان التاريخ ومقوماته ومسارته من ضمنها .
و يؤكد د. نصر حامد ابو زيد على ان: ((ذكر القصة في القرآن لا يقتضي أن يكون كلُّ ما يُحكى فيها عن الناس صحيحًا. فذكر السحر في هذه الآيات [البقرة: 102] لا يستلزم إثبات ما يعتقد الناس منه... إن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار، لا لبيان التاريخ ولا للحَمْل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين. وإنه ليحكي من عقائدهم الحقَّ والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والاعتبار. فحكاية القرآن لا تعدو موضع العِبرة، ولا تتجاوز موطن الهداية، ولا بدَّ أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان الحَسَن واستهجان القبيح. وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعمَلة عند المخاطَبين أو المحكيِّ عنهم، وإن لم تكن صحيحةً في نفسها، كقوله: "كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المس" [البقرة: 275]، وكقوله: "بلغ مطلع الشمس" [الكهف: 90]. وهذا الأسلوب مألوف. فإننا نرى كثيرًا من كتَّاب العربية وكتَّاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشرِّ في خطبهم ومقالاتهم، ولاسيما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريين القدماء، ولا يعتقد واحدٌ منهم شيئًا من تلك الخرافات الوثنية)). (4)
أي ان ذكر القصص في القرأن جاء للموعظة ، والاعتبار ، ان كان ذلك لتثبيت قلب النبي ، او للتأسي بالانبياء الذين سبقوه ، او للمؤمنين كافة. (5)
***
ويشكل القصص القرآني اشكالية كبيرة عند الكثير من الدارسين مهما كان توجههم (ديني او ادبي او تاريخي) ، ذلك لان البعض من الدارسين المنطلقين من توجه ديني يرفعون راية التكفير بوجه من يريد ان يدرسه دراسة ادبية ، (مع العلم ان القرآن مصاغ بأسلوب غير بعيد عن الاسلوب الادبي مهما حاول بعض الدارسين انكار ذلك ،راجع الجاحظ والجرجاني على سبيل المثال ) ، او تاريخية ، والامثلة على ذلك كثيرة ، ليس اخرها تكفير كل من الدكتور طه حسين ، الذي درس الشعر الجاهلي على المنهج الديكارتي ، أي منهج الشك الذي من خلاله يوصل الى اليقين ، ومن ثم توصل الى نتائج – تشمل ضمنا القصص في القرآن– لم يقبل بها رجال الدين ، فكفروه وحاكموه، وكذلك الدكتور محمد احمد خلف الله ورسالته للدكتوراه ( الفن القصصي في القصص القران الكريم)،فأعادوا رسالته ، ومحاكمة الدكتور صادق جلال العظم على كتابه (نقد الفكر الديني) ، والامثلة كثيرة .
واكد الكثير من الدارسين القدماء والمعاصرين على مسألة مهمة ، وهي : ان القصص في القرآن ليست قصص تاريخية يمكن محاكمتها محاكمة تاريخية ، ولهذا لا يمكن ان تكون صادقة الوقوع. (6)
وايضا ، ان جل هذه القصص كانت معروفة ، ومتداولة بين اهالي مكة – على الاقل - ، اذا عرفنا ان سور وايات تلك القصص قد نزلت في الفترة المكية ، خاصة ان سورة يوسف قد نزلت استجابة لطلب المسلمين من النبي ان يقص عليهم بعض القصص كدأب باقي الناس.
وكذلك ، بالنسبة لاسباب نزول قصة ذي القرنين ، اذ يقول القرآن : ((ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا)) ، لان الناس في ذلك الوقت – اهالي مكة على الاقل ، واصحاب الديانات السماوية من ضمنهم– يعرفون تلك القصة وغيرها الا ان القرآن اراد ان يسمعهم قصة تمتليء بما هو روحي ، فيها الموعظة و العبرة ، اكثر من اي شيء اخر تستطيع القصة ان تفعله ، كقتل الوقت في الليالي الطويلة لذلك الزمن مثلا.
تبقى مسألة مهمة علينا ذكرها في هذه السطور ، وهي مسألة وجود ، او عدم وجود الاساطير في قصص القرآن .
والسؤال المطروح هو : هل في القرآن اساطير كما اتهمه البعض في ذلك الوقت؟
((وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا)). [ الفرقان:5 ]
قال الكثير من الدارسين ان القرآن يحتوي على الاساطير ، ان كانت تلك الاساطير قد وردت بالمعنى العام ، أي انها بنيت على حادثة تاريخية بشكل اسطوري ، او جاءت بالمعنى الخاص ، أي اسطورة محض.
يقول خلف الله: ((نعم نحن لا ننكر ان بعض المفسرين من اصحاب اللمحات قد فتح الباب وأجاز القول بوجود القصة الاسطورية واصـّل لذلك اصولا مهمة لهذه الفكرة (...) وهو ما ذهب له الاقدمون كالامام الرازي وهو ما قرره الاستاذ الامام الشيخ محمد عبدة في صراحة ووضوح حين تحدث عن التعبيرات البيانية وأنها قد تقوم على شيء من الخرافات الوثنية )). (7)
و ينفي كاتب معاصر ان يكون القرآن قد نفى وجود الاساطير فيه ، في الايتين الخامسة والسادسة من سورة الفرقان : ((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَّوَلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي ا لسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيما)). فيقول الكاتب :(( لم ينْفِ القرآنُ عن نفسه وجود الأساطير فيه، وإنما حرص على أن ينكر أن تكون هذه الأساطير هي الدليل على أنه من عند محمد وليس من عند الله)). (8)
ولما كان الامر كذلك ، يمكن دراسة القصة - وبعيدا عن كل الاراء والافكار السالفة – على انها اسطورة وردت(للتمثيل بها) في القرآن ليثبت– لمن سأل النبي عنها – ان الله – حسب المفهوم الاسلامي - قادر على كل شيء ، وان اولياءه من المؤمنين هم المنتصرون مهما جابهتهم الصعاب ، وهذا بحد ذاته تقوية لعزيمة النبي وتثبيت لفؤاده وللمؤمنين ايضا.
***
امام يدي هذه الدراسة مجموعة من شروحات وتأويلات وتفسيرات للقصة التي وردت في سورة الكهف عن ذي القرنين بشكل مبتسر ، فهي – أي السورة – لم توضح الكثير من الامور التي ظلت خافية على السامع ، منها ما يتعلق بالبطل وتاريخ حياته ، واصله ، ومكان وقوع الاحداث... الخ.(9)
ومنها ما يتعلق بالكيفية والوسيلة التي وصل فيها الى مشرق ومغرب الشمس ،ونحوه من الامور الغامضة.
ولو جاءت – هذه القصة او غيرها - على شكل سرد تاريخي لاصبحت تاريخا ، عندها يمكن القول عن القرآن انه كتاب تاريخ، وهذا ما لا يراد منه ، خاصة اذا عرفنا ان التاريخ تصنعه الناس عند حركتها في الزمان والمكان ، فيما القرآن وحي من الله – هكذا في التصور الاسلامي - يبغي الهداية والارشاد، ولهذا نرى ان القصص فيه مبهمة من ناحية الزمان والمكان وصفات الشخوص ، وهي المقومات التي ينهض عليها فن القص قديما وحديثا ، وكذلك التاريخ الذي يصنعه الناس في زمان ومكان معينين ، الا ان الفرق بين التاريخ والقصة هو الاسلوب ، واستخدام اللغة ، وبعض العناصر الاخرى.
فاذا كان كل من الشخوص ، والزمان ، والمكان من المبهمات ، فكيف نحاكمها – أي قصص القرآن – محاكمة التاريخ ؟
ان الذي يؤكد عليه القرآن ليس فعل الناس ، بل نتائج هذا الفعل في مكان وزمان – على الرغم من ابهامهما - أي الحدث، وما يستخلص منه من دروس وعبر ومواعظ ، وما يستخلص ليست الامور المادية ، وانما الروحية خاصة .
فالقرآن لم يبين لنا من ذي القرنين ، ولا في أي مكان وزمان قد خرج ، ومن هم قوم ياجوج وماجوج ، ومن هم القوم الذي لايفقهون قولا ، وكيف فهم ذو القرنين ما يقولون؟ ولا اية معلومات عن السد ، او السدين، اوالصدفين ؟
اسئلة كثيرة تثار امام هذا النص، والكثير من نصوص قصص القرآن، مما دفع بالمفسرين الى اللجوء الى الاسرائيليات ، والى القصص الشعبي ، والثقافة العامة زمن المفسر ، فغربوا وشرقوا ، فأختلفوا ولم يتوحدوا ، والسبب الاول والاخير هو احتكامهم للتاريخ ومقوماته ومنهجيته.
وهناك حديث تثبته بعض كتب الحديث – ان صدق – يذكر ان النبي قال لاصحابه عند سماعهم للاسرائيليات ان لا يصدقوها ولا يكذبوها.
يقول الرازي في تفسيره - ج 17 - ص 97 وما بعدها:
(( وعن الاية في سورة يونس / 39: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله " ، قال الراوي: واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوها :
الوجه الأول : أنهم كلما سمعوا شيئا من القصص قالوا : ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها :
فأولها : بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ، ونقل أهله من العز إلى الذل ومن الذل إلى العز وذلك يدل على قدرة كاملة .
وثانيها : أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى ، فنهاية كل متحرك سكون ، وغاية كل متكون أن لا يكون ، فيرفع قلبه عن حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة ، كما قال : " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب " ( يوسف : 111 )
وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ ، دل ذلك على أنه بوحي من الله تعالى ، كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص " وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " ( الشعراء : 192 - 194 ) .)).
في الوجه الثالث من قول الرازي اعلاه، كان ذكيا في الماحته الى ان القصص في القرآن لا يمكن النظر اليها بمنظار التاريخ ، بل هي القصص نفسها التي كانت متداولة على السِنَة اهالي مكة وقتذاك (من غير تحريف ولا تغيير) ، ومن خلال هذه الملاحظة يمكن القول ان القرآن قص للناس – اهل مكة وقتذاك – ما كان لديهم من قصص، ولهذا قالوا عنه انه اساطير الاولين ،لانهم يعرفون جيدا ان تلك القصص هي اساطير متداولة بين الناس ، الا انه غاب عن اذهانهم ما كان فيها من عبر ومواعظ ، إذ ظلت القصة عندهم للتسلية وتزجية ليالي صحراءهم الطويلة.
واللافت للنظر ان ورود اغلب القصص في القرآن جاء مطابقا الى حد ما لما في ذاكرة ناس ذلك الزمان وما في كتب اصحاب الديانات السماوية كما تسمى "التوراة والانجيل " ، لان ما كان يحتاجه النبي لتبليغ رسالته هو تصديق الناس له على انه رسول من الله يوحى اليه !!!، ولو جاءت قصص القرآن التي كثيرا ما سئل عنها النبي على غير ما في ذاكرتهم ، او ما في كتب الديانات السماوية لزاد تكذيبهم له .
((وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)). [يونس: 37 ]
((لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)) . [ يوسف :111 ]



















من هو ذو القرنين؟
- هو نبي عند الطوسي. ( التبيان ج7 ).
- و هو ملك مؤمن عند الطبرسي. ( تفسير جوامع الجامع ج2).
- وهو الاسكندر الذي ملك الدنيا ،و عبد صالح، لا نبي ولا ملك عند الزمخشري. (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الاقاويل ج2).
- وهو أول الملوك بعد نوح .( قصص الأنبياء - الجزائري - ص 162 ).
- وهو : (لا ملكا ولا نبيا بل عبدا أحب الله فأحبه الله) كما يقول الامام علي كما تذكر بعض المصادر.
- واسمه عياش ( تفسير ابو حمزة الثمالي) و (قصص الأنبياء - الجزائري - ص 162 ).و مصعب بن عبد الله ، او صعب بن ذي المرائد. (الطباطبائي في تفسير الميزان - ج 13 - ص 377). و الاسكندر المقدوني (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الاقاويل ج2).
وقيل : ان ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عمير بن أفريقش الحميري .
وهو : إسكندر، وقيل عبد الله بن الضحاك بن سعد، وقيل المنذر بن ماء السماء ،وقيل الصعب بن قرين بن الهمال.( الإتقان في علوم القرآن - السيوطي - ج 2 - ص 381)
يقول الجزائري : (( ثم ذكروا في تسميته بذي القرنين وجوها :
الأول - ما روي أن ابن الكواء سأل عليا عليه السلام عن ذي القرنين وقال : أملك هو أو نبي ؟ قال : لا ملكا ولا نبيا ، كان عبدا صالحا ضرب على قرنه الأيمن فمات ، ثم بعثه الله تعالى فضرب على قرنه الأيسر فمات ، فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله .
الثاني - سمي بذي القرنين لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس .
الثالث - قيل : كان صفحة رأسه من نحاس .
الرابع - كان على رأسه ما يشبه القرنين .
الخامس - كان لتاجه قرنان .
السادس - عن النبي صلى الله عليه وآله : انه سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها .
السابع - كان له قرنان - أي ظفيرتان - .
الثامن - ان الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من امامه وتمتد الظلمة من ورائه .
التاسع - يجوز ان يلقب بذلك لشجاعته ، كما يسمى الشجاع بالقرن لأنه يقطع أقرانه.
العاشر - انه رأى في المنام : كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس وقرنيها ، - أي جانبيها - فسمي لهذا السبب بذي القرنين .
الحادي عشر - سمي بذلك لأنه دخل النور والظلمة)) . (قصص الأنبياء - الجزائري - ص 179 )
تعددت الاسماء والمسمى واحدا.
وورد في ( علل الشرايع ) : (( باسناده إلى الباقر عليه السلام : قال أول اثنين تصافحا على وجه الأرض ذو القرنين وإبراهيم الخليل عليه السلام استقبله إبراهيم فصافحه ، وأول شجرة نبتت على وجه الأرض النخلة )). (10)
1 - وفي ( اكمال الدين ) : ((قرأت في بعض كتب الله عز وجل ان ذا القرنين كان رجلا من أهل الإسكندرية وأمه عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره يقال له إسكندر وكان له أدب وخلق وعفة من وقت ما كان فيه غلاما إلى أن بلغ رجلا وكان رأى في المنام كأنه دنا من الشمس حتى اخذ بقرنيها وشرقها وغربها ، فلما قص رؤياه على قومه سموه ذا القرنين هذه الرؤيا بعدت همته وعلا صوته وعز في قومه)) . (11)
ويقول فضل الله عنه: ((وهذه شخصية جديدة تتميز بالإيمان والقوة والحركة والمسؤولية... كانت مثاراً لأكثر من سؤال لدى القوم المعاصرين للرسول، وهي شخصية ذي القرنين الذي قد يكون مذكوراً في التراث اليهودي، وقد يكون منقولاً لدى مجتمع الدعوة في ما يتناقله الناس من أحاديث الشخصيات التي تختلط فيها الحقيقة بالأسطورة، والخرافة بالعلم.
وقد لا نملك التاريخ الدقيق الذي يمكن أن يفصِّل لنا خصوصيات هذه الشخصية في موقعها من الزمان والمكان، أو في طبيعة الملامح الذاتية. وقد أفاضت الأحاديث المأثورة المروية في تحديد اسمه، وموقعه، ومدة ملكه، وفي سرّ هذه التسمية الغريبة التي تجعل له قرنين، مما لا يكون إلاَّ للحيوان، وهل هما من ذهب أم من فضة؟ وغير ذلك مما لا يخضع لقاعدةٍ أو يؤدي إلى نتيجةٍ.
ولعل القرآن لا يستهدف من الحديث عنه إلا الجانب الإيحائي الذي يوحي بالعبرة في ما يتمثل في ملامحه من قوة الإيمان، وقوة الشخصية، وحركة المسؤولية الحاسمة أمام حالات الانحراف أو الاستقامة، وتحريك القوة في معاونة الضعفاء، والابتعاد عن النوازع المادية في ما يقوم به من جهد تجاههم.
وربما كان هذا هو النهج في القصص القرآني، الذي لا يفيض في الحديث عن التفاصيل، فيقتصر على رسم ملامح الصورة عن الأشخاص الذين يتحدث عنهم، لأنه لا يعتبر القصة ملهاةً لإثارة الفضول وإشباعه، لتكون الأمور الجزئية التفصيلية أساساً في حركة القصة، بل يراها درساً فكرياً أو عملياً، من خلال ما توحي به الملامح البارزة التي تمثل حركة القضية المطروحة في السير العملي للشخصيات. وقد نحتاج إلى استلهام هذا النهج في كتابة التاريخ، لأن ما نستفيده للمستقبل من عبرةٍ لا يحتاج إلى سرد الكثير من تفاصيله، وبذلك نبتعد عن الاستغراق في الملامح الذاتية للشخص العظيم، نبياً كان أو إماماً أو ولياً أو زعيماً صالحاً، إلا في ما يتصل بالمعنى الرسالي أو القيادي من ذلك. )).
***










قراءة اخرى للقصة:
- اما السيد سبيط النيلي في كتابه (الطور المهدوي - النظام القرآني - مقدّمة في المنهج اللفظي) فيجد في قصة ذي القرنين انها عبارة عن رحلة فضائية بإتجاه الشمس ، قام بها ذو القرنين على ثلاث مراحل:
- الأولى: [حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمأة ووجد عندها قوما] نحو مدار الزهرة.
- المرحلة الثانية: [ثم أتبع سببا- حتى إذا بلغ مطلع الشمس] نحو عطارد
- المرحلة الثالثة: [ ثم أتبع سببا- حتى إذا بلغ بين السدين ] نحو الكواكب الداخلية ، أي الزهرة وعطارد ايضا.
ويقول في النهاية : (( ولا أدّعي ان اتجاه الحركة في الرحلة أمرُ محسومٌ تماماً وإن كنت أدّعي ان فضائية الرحلة أمرٌ لا شكّ فيه.
فلو أن العبارة القرآنية (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) قد تحقق معناها بوقت انطلاقٍ آخر معاكسٍ أي انه انطلق فجراً او صباحاً إلى مغرب الشمس لانعكست الحركة كلها وأصبح اتجاه الرحلة إلى الكواكب الخارجية وهي المريخ واقمار المشتري ثم المشتري. وفي كل الاحوال يبقى هذا الاحتمال ممكناً كالأول لحين ظهور حقيقة في النص تثبت أيهما الذي حصل بالفعل. ولكن ذلك كله لا يؤثر على صحة الفرض بفضائية الرحلة ولا ما ذكرناه اجمالاً عن كيفية بناء السد)).
وقد اعتمد النيلي في تفسيره هذا على لفظة (سبب) التي تعني عنده وسيلة الصعود في السماء ،وكذلك على اساطير ذكرتها بعض المصادر ولم يذكرها القرآن من مثل ((قوم آذانهم طويلة تستخدم عندهم فرشاً وغطاءً وبمقدورهم شرب ماء بحيرة طبرية عن آخره، كما ورد في الحديث، كما لا يوجد قوم على الأرض لا ستر لهم من الشمس ولا يوجد سور في الأرض يشبه سد ذي القرنين- مما يدل على أن أي تفسير يحاول فك رموزها على نطاق الأرض سيكون فاشلاً. (اقرأالرد على نظرية سبيط النيلي في الملحق ) ...)).
***
ذو القرنين كما جاء في تفسيرين معتبرين:
اختارت الدراسة تفسيرين من بين عشرات التفاسير الاسلامية للدخول الى نص القصة كونهما قد ناقشا جميع الاحتمالات التي قيلت عنها ، وهما تفسير الرازي (الوفاة : 327)، وتفسير الميزان للسيد الطباطبائي (الوفاة : 1412).
***
قال الرازي في تفسيره - ج 21 - ص 163 وما بعدها:
(( المسألة الثانية : اختلف الناس في أن ذا القرنين من هو وذكروا فيه أقوالا :
الأول : أنه هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني قالوا والدليل عليه أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله : * ( حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ) * ( الكهف : 86 ) وأيضا بلغ ملكه أقصى المشرق بدليل قوله : * ( حتى إذا بلغ مطلع الشمس ) * ( الكهف : 90 ) وأيضا بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال ، وبدليل أن السد المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ إنه مبني في أقصى الشمال فهذا الإنسان المسمى بذي القرنين في القرآن قد دل القرآن على أن ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق وهذا هو تمام القدر المعمور من الأرض ، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلدا على وجه الدهر وأن لا يبقى مخفيا مستترا ، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ثم جمع ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر . ثم توجه نحو دارا بن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها . فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلا ملك الأرض بالكلية ، أو ما يقرب منها ، وثبت بعلم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني ثم ذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم وجوها : الأول : أنه لقب بهذا اللقب لأجل بلوغه قرني الشمس أي مطلعها ومغربها كما لقب أردشير بن بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد .
والثاني : أن الفرس قالوا : إن دارا الأكبر كان قد تزوج بابنة فيلبوس فلما قرب منها وجد منها رائحة منكرة فردها على أبيها فيلبوس وكانت قد حملت منه بالإسكندر فولدت الإسكندر بعد عودها إلى أبيها فبقي الإسكندر عند فيلبوس وأظهر فيلبوس أنه ابنه وهو في الحقيقة ابن دارا الأكبر قالوا والدليل عليه أن الإسكندر لما أدرك دارا بن دارا وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال لدارا : يا أبي أخبرني عمن فعل هذا لأنتقم لك منه ! فهذا ما قاله الفرس قالوا وعلى هذا التقدير فالإسكندر أبوه دارا الأكبر وأمه بنت فيلبوس فهو إنما تولد من أصلين مختلفين الفرس والروم وهذا الذي قاله الفرس إنما ذكروه لأنهم أرادوا أن يجعلوه من نسل ملوك العجم حتى لا يكون ملك مثله من نسب غير نسب ملوك العجم وهو في الحقيقة كذب ، وإنما قال الإسكندر لدارا يا أبي على سبيل التواضع وأكرم دارا بذلك الخطاب . والقول الثاني : قال أبو الريحان الهروي المنجم في كتابه الذي سماه بالآثار الباقية عن القرون الخالية ، قيل : إن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عبير بن أفريقش الحميري فإنه بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها (...).
ثم قال أبو الريحان ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلو أساميهم من ذي كذا كذي النادي وذي نواس وذي النون وغير ذلك .
والقول الثالث : أنه كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة ، وإن كنا لا نعرف أنه من هو ثم ذكروا في تسميته بذي القرنين وجوها :(...)
والقول الرابع : أن ذا القرنين ملك من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلا يقول : يا ذا القرنين فقال : اللهم اغفر . أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسموا بأسماء الملائكة ! فهذا جملة ما قيل في هذا الباب ، والقول الأول أظهر لأجل الدليل الذي ذكرناه وهو أن مثل هذا الملك العظيم يجب أن يكون معلوم الحال عند أهل الدنيا والذي هو معلوم الحال بهذا الملك العظيم هو الإسكندر فوجب أن يكون المراد بذي القرنين هو هو إلا أن فيه إشكالا قويا وهو أنه كان تلميذ أرسططاليس الحكيم وكان على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسططاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه والله أعلم .
المسألة الثالثة : اختلفوا في ذي القرنين هل كان من الأنبياء أم لا ؟ منهم من قال : إنه كان نبيا واحتجوا عليه بوجوه . الأول : قوله : * ( إنا مكنا له في الأرض ) * والأولى حمله على التمكين في الدين والتمكين الكامل في الدين هو النبوة . والثاني : قوله : * ( وآتيناه من كل شيء سببا ) * ومن جملة الأشياء النبوة فمقتضى العموم في قوله : * ( وآتيناه من كل شيء سببا ) * هو أنه تعالى آتاه في النبوة سببا . الثالث : قوله تعالى : * ( قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ) * والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبيا ومنهم من قال إنه كان عبدا صالحا وما كان نبيا . المسألة الرابعة : في دخول السين في قوله : * ( سأتلوا ) * معناه إني سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى عليه وأنزل فيه وحيا وأخبرني عن كيفية تلك الحال ، وأما قوله تعالى : * ( إنا مكنا له في الأرض ) * فهذا التمكين يحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب النبوة ويحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب الملك من حيث إنه ملك مشارق الأرض ومغاربها والأول أولى لأن التمكين بسبب النبوة أعلى من التمكين بسبب الملك وحمل كلام الله على الوجه الأكمل الأفضل أولى ثم قال : * ( وآتيناه من كل شيء سببا ) * قالوا : السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود وهو يتناول العلم والقدرة والآلة فقوله : * ( وآتيناه من كل شيء سببا ) * معناه : أعطيناه من كل شيء من الأمور التي يتوصل بها إلى تحصيل ذلك الشيء ثم إن الذين قالوا : إنه كان نبيا قالوا : من جملة الأشياء النبوة فهذه الآية تدل على أنه تعالى أعطاه الطريق الذي به يتوصل إلى تحصيل النبوة ، والذين أنكروا كونه نبيا قالوا : المراد به وآتيناه من كل شيء يحتاج إليه في إصلاح ملكه سببا ، إلا أن لقائل أن يقول : إن تخصيص العموم خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل ، ثم قال : * ( فأتبع سببا ) * ومعناه أنه تعالى لما أعطاه من كل شيء سببه فإذا أراد شيئا أتبع سببا يوصله إليه ويقربه منه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو فاتبع بتشديد التاء ، وكذلك ثم اتبع أي سلك وسار والباقون فأتبع بقطع الألف وسكون التاء مخففة .
قوله تعالى
( حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إمآ أن تعذب وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزآء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا * ثم أتبع سببا ) .
اعلم أن المعنى أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله إليه حتى بلغه ، أما قوله : ( وجدها تغرب في عين حمئة ) ففيه مباحث :
الأول : قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في عين حامية بالألف من غير همزة أي حارة ، وعن أبي ذر ، قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال : أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تغرب في عين حامية ؛ وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وابن عامر ، والباقون حمئة ، وهي قراءة ابن عباس واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية بألف فقال ابن عباس حمئة ، فقال معاوية لعبد الله بن عمر كيف تقرأ ؟ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب ؟ قال : في ماء وطين كذلك نجده في التوراة ، والحمئة ما فيه ماء ، وحمأة سوداء ، واعلم أنه لا تنافي بين الحمئة والحامية ، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعا .
البحث الثاني : أنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها ، ولا شك أن الشمس في الفلك ، وأيضا قال : ( ووجد عندها قوما ) ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود ، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض ، إذا ثبت هذا فنقول : تأويل قوله : ( تغرب في عين حمئة ) من وجوه .
الأول : أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر ، هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره .
الثاني : أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار ، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية وهي أيضا حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله : ( تغرب في عين حمئة ) إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة .
الثالث : قال أهل الأخبار : إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة وهذا في غاية البعد ، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفا قمريا فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا : حصل هذا الكسوف في أول الليل ورأينا المشرقيين قالوا : حصل في أول النهار فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد ووقت الظهر في بلد آخر ، ووقت الضحوة في بلد ثالث . ووقت طلوع الشمس في بلد رابع ، ونصف الليل في بلد خامس ، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار . وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال : إنها تغيب في الطين والحمأة كلاما على خلاف اليقين وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة ، فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل الذي ذكرناه ثم قال تعالى : ( ووجد عندها قوما ) الضمير في قوله عندها إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان :
الأول : أنه عائد إلى الشمس ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس .
والقول الثاني : أن يكون الضمير عائدا إلى العين الحامية ، وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه ، ثم قال تعالى : ( قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ) وفيه مباحث :
الأول : أن قوله تعالى : ( قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ) يدل على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة ، وذلك يدل على أنه كان نبيا وحمل.
البحث الثاني : قال أهل الأخبار في صفة ذلك الموضع أشياء عجيبة ، قال ابن جريج : هناك مدينة لها إثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجبة الشمس حين تغيب .
البحث الثالث : قوله تعالى : ( قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ) يدل على أن سكان آخر المغرب كانوا كفارا فخير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم وبين المن عليهم والعفو عنهم وهذا التخيير على معنى الإجتهاد في أصلح الأمرين كما خير نبيه عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم ، وقال الأكثرون : هذا التعذيب هو القتل ، وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء ، ثم قال ذو القرنين : ( أما من ظلم نفسه ) أي ظلم نفسه بالإقامة على الكفر . والدليل على أن هذا هو المراد أنه ذكر في مقابلته : ( وأما من آمن وعمل صالحا ) ثم قال : ( فسوف نعذبه ) أي بالقتل في الدنيا : ( ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ) * أي منكرا فظيعا : ( وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ) قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : ( جزاء الحسنى ) بالنصب والتنوين والباقون بالرفع والإضافة ، فعلى القراءة الأولى يكون التقدير فله الحسنى جزاء كما تقول لك هذا الثوب هبة ، وأما على القراءة الثانية ففي التفسير وجهان .
الأول : فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح .
والثاني : أن يكون التقدير فله جزاء المثوبة الحسنى ويكون المعنى فله ذا الجزاء الذي هو المثوبة الحسنى والجزاء موصوف بالمثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله : ( ولدار الآخرة )، ( الأنعام : 32 ) و ( حق اليقين )، ( الواقعة : 95 ) ثم قال : ( وسنقول له من أمرنا يسرا ) أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل الميسر من الزكاة والخراج وغيرهما وتقدير هذا يسر كقوله : ( قولا ميسورا ) ( الإسراء : 28 ) وقرئ يسرا بضمتين .
( حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ) .
اعلم أنه تعالى لما بين أولا أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مغرب الشمس أتبعه ببيان أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مطلع الشمس فبين الله تعالى أنه وجد الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا وفيه قولان .
الأول : أنه ليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم فلهذا السبب إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب واغلة في الأرض أو غاصوا في الماء فيكون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش حالهم بالضد من أحوال سائر الخلق .
والقول الثاني : أن معناه أنه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبدا ويقال في كتب الهيئة إن حال أكثر الزنج كذلك وحال كل من يسكن البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك ، وذكر في كتب التفسير أن بعضهم قال : سافرت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم ، فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه الواحدة ويلبس الأخرى ولما قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج ثم قال تعالى : ( كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ) وفيه وجوه :
الأول : أي كذلك فعل ذو القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به .
والثاني : كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسوله عليه السلام في هذا الذكر .
والثالث : كذلك كانت حالته مع أهل المطلع كما كانت مع أهل المغرب ، قضى في هؤلاء كما قضى في أولئك ، من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين .
والرابع : أنه تم الكلام عند قوله كذلك والمعنى أنه تعالى قال : أمر هؤلاء القوم كما وجدهم عليه ذو القرنين ثم قال بعده : ( وقد أحطنا بما لديه خبرا ) أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك .
( ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون فى الارض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكنى فيه ربى خير فأعينونى بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ) .
اعلم أن ذا القرنين لما بلغ المشرق والمغرب أتبع سببا آخر وسلك الطريق حتى بلغ بين السدين ، وقد آتاه الله من العلم والقدرة ما يقوم بهذه الأمور . وههنا مباحث :
الأول : قرأ حمزة والكسائي السدين بضم السين وسدا بفتحها حيث كان ، وقرأ حفص عن عاصم بالفتح فيهما في كل القرآن ، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالضم فيهما في كل القرآن ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السدين وسدا ههنا بفتح السين فيهما وضمها في يس في الموضعين قال الكسائي : هما لغتان ، وقيل : ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بفتح السين ، وما كان من صنع الله فهو السد بضم السين والجمع سدد ، وهو قول أبي عبيدة وابن الأنباري ، قال صاحب الكشاف : السد بالضم فعل بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه ، والسد بالفتح مصدر حدث يحدثه الناس .
البحث الثاني : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال ، وقيل : جبلان بين أرمينية وبين أذربيجان ، وقيل : هذا المكان في مقطع أرض الترك ، وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنسانا إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع ، وذكر ابن خردا ( ذبة ) في كتاب المسالك والممالك أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل ، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند ، قال أبو الريحان : مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة ، والله أعلم بحقيقة الحال .
البحث الثالث : أن ذا القرنين لما بلغ ما بين السدين وجد من دونهما أي من ورائهما مجاوزا عنهما ( قوما ) أي أمة من الناس : ( لا يكادون يفقهون قولا ) قرأ حمزة والكسائي يفقهون بضم الياء وكسر القاف على معنى لا يمكنهم تفهيم غيرهم والباقون بفتح الياء والقاف ، والمعنى أنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم وما كانوا يفهمون اللسان الذي يتكلم به ذو القرنين ، ثم قال تعالى : ( قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) فإن قيل : كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام بعد أن وصفهم الله بقوله : ( لا يكادون يفقهون قولا ) . والجواب : أن نقول كاد فيه قولان:
الأول : أن إثباته نفي ، ونفيه إثبات ، فقوله : ( لا يكادون يفقهون قولا ) لا يدل على أنهم لا يفهمون شيئا ، بل يدل على أنهم قد يفهمون على مشقة وصعوبة .
والقول الثاني : أن كاد معناه المقاربة ، وعلى هذا القول فقوله : ( لا يكادون يفقهون قولا ) أي لا يعلمون وليس لهم قرب من أن يفقهوا . وعلى هذا القول فلا بد من إضمار ، وهو أن يقال : لا يكادون يفهمونه إلا بعد تقريب ومشقة من إشارة ونحوها ، وهذه الآية تصلح أن يحتج بها على صحة القول الأول في تفسير كاد .
البحث الرابع : في يأجوج ومأجوج قولان :
الأول : أنهما إسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف .
والقول الثاني : أنهما مشتقان ، وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز . وقرأ الباقون يأجوج ومأجوج . وقرئ في رواية آجوج ومأجوج ، والقائلون بكون هذين الإسمين مشتقين ذكروا وجوها .
الأول : قال الكسائي : يأجوج مأخوذ من تأجج النار وتلهبها فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج من موج البحر .
الثاني : أن يأجوج مأخوذ من تأجج الملح وهو شدة ملوحته فلشدتهم في الحركة سموا بذلك .
الثالث : قال القتيبي : هو مأخوذ من قولهم أج الظليم في مشيه يئج أجا إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه .
الرابع : قال الخليل : الأج حب كالعدس والمج مج الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما واختلفوا في أنهما من أي الأقوام فقيل : إنهما من الترك ، وقيل : ( يأجوج ) من الترك ( ومأجوج ) من الجيل والديلم ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة بكون طول أحدهم شبرا ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبتوا لهم مخاليب في الأظفار وأضراسا كأضراس السباع واختلفوا في كيفية إفسادهم في الأرض فقيل : كانوا يقتلون الناس وقيل كانوا يأكلون لحوم الناس وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون لهم شيئا أخضر وبالجملة فلفظ الفساد محتمل لكل هذه الأقسام والله أعلم بمراده ، ثم إنه تعالى حكى عن أهل ما بين السدين أنهم قالوا لذي القرنين : ( فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ) قرأ حمزة والكسائي خراجا والباقون خرجا . قيل : الخراج والخرج واحد ، وقيل هما أمران متغايران ، وعلى هذا القول اختلفوا : قيل : الخرج بغير ألف هو الجعل لأن الناس يخرج كل واحد منهم شيئا منه فيخرج هذا أشياء وهذا أشياء ، والخراج هو الذي يجبيه السلطان كل سنة . وقال الفراء : الخراج هو الاسم الأصلي والخرج كالمصدر وقال قطرب : الخرج الجزية والخراج في الأرض . فقال ذو القرنين : ( ما مكني فيه ربي خير فأعينوني ) أي ما جعلني مكينا من المال الكثير واليسار الواسع خير مما تبذلون من الخراج فلا حاجة بي إليه ، وهو كما قال سليمان عليه السلام : ( فما آتاني الله خير مما آتاكم ) ( النمل : 36 ) قرأ ابن كثير : ( ما مكنني ) بنونين على الإظهار والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام ، ثم قال ذو القرنين : ( فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ) أي لا حاجة لي في مالكم ولكن ( أعينوني ) برجال وآلة أبني بها السد ، وقيل المعنى : ( أعينوني ) بمال أصرفه إلى هذا المهم ولا أطلب المال لآخذه لنفسي ، والردم هو السد . يقال : ردمت الباب أي سددته وردمت الثوب رقعته لأنه يسد الخرق بالرقعة والردم أكثر من السد من قولهم : ثوب مردوم أي وضعت عليه رقاع .
( ءاتونى زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتونى أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا * قال هذا رحمة من ربى فإذا جآء وعد ربى جعله دكآء وكان وعد ربى حقا ) .
اعلم أن : ( زبر الحديد ) قطعة قال الخليل الزبرة من الحديد القطعة الضخمة ، قراءة الجميع آتوني بمد الألف إلا حمزة فإنه قرأ ائتوني من الإتيان ، وقد روى ذلك عن عاصم والتقدير ائتوني بزبر الحديد ثم حذف الباء كقوله : شكرته وشكرت له وكفرته وكفرت له ، وقوله : ( حتى إذا ساوى بين الصدفين ) فيه إضمار أي فأتوه بها فوضع تلك الزبر بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا ، واعلم أن هذا معجز قاهر لأن هذه الزبر الكثيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان على القرب منها ، والنفخ عليها لا يمكن إلا مع القرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها . قال صاحب الكشاف : قيل بعدما بين : ( السدين ) مائة فرسخ . ( والصدفان ) بفتحتين جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان وقرئ : ( الصدفين ) بضمتين . ( والصدفين ) بضمة وسكون والقطر النحاس المذاب لأنه يقطر ، وقوله : ( قطرا ) منصوب بقوله : ( أفرغ ) وتقديره آتوني قطرا : ( أفرغ عليه قطرا ) فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ثم قال : ( فما اسطاعوا ) فحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء وقرئ : ( فما اصطاعوا ) بقلب السين صادا ( أن يظهروه ) أن يعلوه أي ما قدروا على الصعود عليه لأجل ارتفاعه وملاسته ولا على نقبه لأجل صلابته وثخانته ، ثم قال ذو القرنين : ( هذا رحمة من ربي ) فقوله هذا إشارة إلى السد ، أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده أو هذا الاقتدار والتمكين من تسويته : ( فإذا جاء وعد ربي ) يعني فإذا دنا مجيء القيامة جعل السد دكا أي مدكوكا مسوى بالأرض . وكل ما انبسط بعد الارتفاع فقد اندك وقرئ دكاء بالمد أي أرضا مستوية ( وكان وعد ربي حقا ) وههنا آخر حكاية ذي القرنين)) .
اهم شيء يمكن ان نستفاد منه من مناقشة الرازي للقصة هو ان ذا القرنيين كان معروفا قبل البعثة.
***


















يقول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان - ج 13 - ص 377 وما بعدها:
(( 1 - قصة ذي القرنين في القرآن : لم يعترض لاسمه ولا لتاريخ زمان ولادته وحياته ولا لنسبه وسائر مشخصاته على ما هو دأبه في ذكر قصص الماضين بل اكتفى على ذكر ثلاث رحلات منه فرحلة أولى إلى المغرب حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ( أو حامية ) ووجد عندها قوما ، ورحلة ثانيه إلى المشرق حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترا ، ورحله ثالثة حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا فشكوا إليه إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض وعرضوا عليه أن يجعلوا له خرجا على أن يجعل بين القوم وبين يأجوج ومأجوج سدا فأجابهم إلى بناء السد ووعدهم أن يبني لهم فوق ما يأملون وأبى أن يقبل خرجهم وإنما طلب منهم أن يعينوه بقوة وقد أشير منها في القصة إلى الرجال وزبر الحديد والمنافخ والقطر .
والخصوصيات والجهات الجوهرية التي تستفاد من القصة هي:
أولا: أن صاحب القصة كان يسمى قبل نزول قصته في القرآن بل حتى في زمان حياته بذي القرنين كما يظهر في سياق القصة من قوله : " يسألونك عن ذي القرنين " " قلنا يا ذا القرنين " " و قالوا يا ذا القرنين " .
وثانيا : أنه كان مؤمنا بالله واليوم الآخر ومتدينا بدين الحق كما يظهر من قوله : " هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربى جعله دكاء و كان وعد ربي حقا " وقوله : " أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا " الخ ويزيد في كرامته الدينية أن قوله تعالى : " قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " يدل على تأييده بوحي أو إلهام أو نبي من أنبياء الله كان عنده يسدده بتبليغ الوحي .
وثالثا : أنه كان ممن جمع الله له خير الدنيا والآخرة ، أما خير الدنيا فالملك العظيم الذي بلغ به مغرب الشمس ومطلعها فلم يقم له شئ وقد ذلت له الأسباب ، وأما خير الآخرة فبسط العدل وإقامة الحق والصفح والعفو والرفق وكرامة النفس وبث الخير ودفع الشر ، وهذا كله مما يدل عليه قوله تعالى : " إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئ سببا " مضافا إلى ما يستفاد من سياق القصة من سيطرته الجسمانية والروحانية .
ورابعا : أنه صادف قوما ظالمين بالمغرب فعذبهم .
وخامسا : أن الردم الذي بناه هو في غير مغرب الشمس ومطلعها فإنه بعد ما بلغ مطلع الشمس أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين . ومن مشخصات ردمه مضافا إلى كونه واقعا في غير المغرب والمشرق أنه واقع بين جبلين كالحائطين ، وأنه ساوى بين صدفيهما وأنه استعمل في بنائه زبر الحديد والقطر ، ولا محالة هو في مضيق هو الرابط بين ناحيتين من نواحي الأرض المسكونة .
2 – (...) لم يذكر القدماء من المؤرخين في أخبارهم ملكا يسمى في عهده بذي القرنين أو ما يؤدي معناه من غير اللفظ العربي ولا يأجوج ومأجوج بهذين اللفظين ولا سدا ينسب إليه باسمه نعم ينسب إلى بعض ملوك حمير من اليمنيين أشعار في المباهاة يذكر فيها ذا القرنين وأنه من أسلافه التبابعة ، وفيها ذكر سيره إلى المغرب والمشرق وسد يأجوج ومأجوج وسيوافيك نبذة منها في بعض الفصول الآتية .
وورد ذكر " مأجوج " و " جوج ومأجوج " في مواضع من كتب العهد العتيق ففي الاصلاح العاشر من سفر التكوين من التوراة . " وهذه مواليد بنى نوح : سام وحام ويافث . وولد لهم بنون بعد الطوفان . بنو يافث جومر ومأجوج وماداي وباوان ونوبال وما شك ونبراس " .
وفي كتاب حزقيال الأصحاح الثامن والثلاثون " وكان إلى كلام الرب قائلا : يا بن آدم اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ما شك ونوبال ، وتنبأ عليه وقل : هكذا قال السيد الرب : ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش وما شك ونوبال وأرجعك وأضع شكائم في فكيك وأخرجك أنت وكل جيشك خيلا وفرسانا كلهم لا بسين أفخر لباس جماعة عظيمة مع أتراس ومجان كلهم ممسكين السيوف .
فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجن وخوذة ، وجومر وكل جيوشه وبيت نوجرمه من أقاصى الشمال مع كل جيشه شعوبا كثيرين معك " قال : " لذلك تنبأ يابن آدم وقل لجوج : هكذا قال السيد الرب في ذلك اليوم عند سكنى شعب إسرائيل آمنين أفلا تعلم وتأتي من موضعك من أقاصى الشمال " الخ
وقال في الأصحاح التاسع والثلاثين ماضيا في الحديث السابق : وأنت يابن آدم تنبأ على جوج وقل : هكذا قال السيد الرب ها أنا ذا عليك يأجوج رئيس روش ما شك ونوبال وأردك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال . وآتي بك على جبال إسرائيل وأضرب قوسك من يدك اليسرى وأسقط سهامك من يدك اليمنى فتسقط على جبال إسرائيل أنت وكل جيشك والشعوب الذين معك أبذلك مأكلا للطيور الكاسرة من كل نوع ولوحوش الحفل ، على وجه الحفل تسقط لأني تكلمت بقول السيد الرب ، وأرسل نارا على مأجوج وعلى الساكنين في الجزائر آمنين فيعلمون أني أنا الرب " الخ .
وفي رؤيا يوحنا في الأصحاح العشرين : " ورأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده فقبض على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس الشيطان ، وقيده ألف سنة وطرحه في الهاوية وأغلق عليه وختم عليه لكيلا يضل الأمم فيما بعد حتى تتم الألف سنة وبعد ذلك لا بد أن يحل زمانا يسيرا .
قال : " ثم متى تمت الألف سنة لن يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج ومأجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر فصعدوا على عرض الأرض ، وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم ، وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب وسيعذبون نهارا وليلا إلى أبد الابدين ".
ويستفاد منها أن " مأجوج " أو " جوج ومأجوج " أمة أو أمم عظيمة كانت قاطنه في أقاصي شمال آسيا من معمورة الأرض يومئذ ، وأنهم كانوا أمما حربية معروفة بالمغازي والغارات .
ويقرب حينئذ أن يحدس أن ذا القرنين هذا هو أحد الملوك العظام الذين سدوا الطريق على هذه الأمم المفسدة في الأرض ، وأن السد المنسوب إليه يجب أن يكون فاصلا بين منطقة شمالية من قارة آسيا وجنوبها كحائط الصين أو سد باب الأبواب أو سد " داريال " أو غير هذه .
وقد تسلمت تواريخ الأمم اليوم من أن ناحية الشمال الشرقي من آسيا وهي الأحداب والمرتفعات في شمال الصين كانت موطنا لامة كبيره بدوية همجية لم تزل تزداد عددا وتكثر سوادا فتكر على الأمم المجاورة لها كالصين وربما نسلت من أحدابها وهبطت إلى بلاد آسيا الوسطى والدنيا وبلغت إلى شمال أو ربه فمنهم من قطن في أراض أغار عليها كأغلب سكنه أو ربه الشمالية فتمدين بها واشتغل بالزراعة والصناعة ، ومنهم من رجع ثم عاد وعاد.
وهذا أيضا مما يؤيد ما استقر بناه آنفا أن السد الذي نبحث عنه هو أحد الأسداد الموجودة في شمال آسيا الفاصلة بين الشمال وجنوبه .
3 - من هو ذو القرنين ؟ وأين سده ؟ للمؤرخين وأرباب التفسير في ذلك أقوال بحسب اختلاف انظارهم في تطبيق القصة :
آ - ينسب إلى بعضهم أن السد المذكور في القرآن هو حائط الصين ، وهو حائط طويل يحول بين الصين وبين منغوليا بناه " شين هوانك تي " أحد ملوك الصين لصد هجمات المغول عن الصين ، طوله ثلاثة آلاف كيلو متر في عرض تسعة أمتار ارتفاع خمسة عشر مترا ، وقد بني بالأحجار شرع في بنائه سنه 264 ق م وقد تم بناؤه في عشر أو عشرين وعلى هذا فذو القرنين هو الملك المذكور .
ويدفعه أن الأوصاف والمشخصات المذكورة في القرآن لذي القرنين وسدة لا تنطبق على هذا الملك وحائط الصين الكبير فلم يذكر من هذا الملك أنه سار من أرضه إلى المغرب الأقصى ، والسد الذي يذكره القرآن يصفه بأنه ردم بين جبلين وقد استعمل فيه زبر الحديد والقطر وهو النحاس المذاب والحائط الكبير يمتد ثلاثة آلاف كيلو متر يمر في طريقه على السهول والجبال ، وليس بين جبلين وهو مبنى بالحجارة لم يستعمل فيه حديد ولا قطر .
ب - نسب إلى بعضهم أن الذي بنى السد هو أحد ملوك آشور وقد كان يهجم في حوالي القرن السابع قبل الميلاد أقوام سيت من مضيق جبال قفقاز إلى أرمينستان ثم غربي إيران وربما بلغوا بلاد آشور وعاصمتها نينوا فأحاطوا بهم قتلا وسبيا ونهبا فبني ملك آشور السد لصدهم ، وكأن المراد به سد باب الأبواب المنسوب تعميره أو ترميمه إلى كسرى أنو شيروان من ملوك الفرس هذا . ولكن الشأن في انطباق خصوصيات القصة عليه .
ج - قال في روح المعاني : وقيل : هو يعني ذا القرنين فريدون بن أثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية ، وكان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى ، وفي ، كتاب صور الأقاليم لأبي زيد البلخي : أنه كان مؤيدا بالوحي وفي عامة التواريخ أنه ملك الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة : إيرج وسلم وتور فأعطى إيرج العراق والهند والحجاز وجعله صاحب التاج ، وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب ، وأعطى تور الصين والترك والمشرق ، ووضع لكل قانونا يحكم به ، وسميت القوانين الثلاثة " سياسة " وهي معربة " سي أيسا " أي ثلاثة قوانين .
ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة ، أو عظم شجاعته وقهره الملوك انتهى .
وفيه أن التاريخ لا يعترف بذلك .
د - وقيل : إن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني وهو المشهور في الألسن وسد الإسكندر كالمثل السائر بينهم وقد ورد ذلك في بعض الروايات كما في رواية قرب الاسناد عن موسي بن جعفر عليهما السلام ورواية عقبه بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواية وهب بن منبه المرويتين في الدر المنثور .
وبه قال بعض قدماء المفسرين من الصحابة والتابعين كمعاذ بن جبل على ما في مجمع البيان ، وقتادة على ما رواه في الدر المنثور ، ووصفه الشيخ أبو على بن سينا عندما ذكره في كتاب الشفاء بذي القرنين ، وأصر على ذلك الإمام الرازي في تفسيره الكبير .
قال فيه ما ملخصه : ان القرآن دل على أن ملك الرجل بلغ إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق وجهة الشمال ، وذلك تمام المعمورة من الأرض ، ومثل هذا الملك يجب أن يبقى اسمه مخلدا ، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أن ملكه بلغ هذا المبلغ ليس إلا الإسكندر .
وذلك أنه بعد موت أبيه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم ، وانتهى إلى البحر الأخضر ثم إلى مصر ، وبنى الإسكندرية ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس ، وذبح في مذبحه . ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ، ودان له العراقيون والقبط والبربر ، واستولى على إيران ، وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ، ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ثم رجع إلى العراق ومات في شهر زور أو روميةالمدائن وحمل إلى إسكندرية ودفن بها ، وعاش ثلاثا وثلاثين سنة ، ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة .
فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة ، وثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر . انتهى .
وفيه أولا : أن الذي ذكره من انحصار ملك معظم المعمورة في الإسكندر المقدوني غير مسلم في التاريخ ففي الملوك من يماثله أو يزيد عليه ملكا .
وثانيا : أن الذي يذكره القرآن من أوصاف ذي القرنين لا يتسلمه التاريخ للاسكندر أو ينفيه عنه فقد ذكر القرآن أن ذا القرنين كان مؤمنا بالله واليوم الآخر وهو دين التوحيد وكان الإسكندر وثنيا من الصابئين كما يحكى أنه ذبح ذبيحته للمشترى ، وذكر القرآن أن ذا القرنين كان من صالحي عباد الله ذا عدل ورفق والتاريخ يقص للاسكندر خلاف ذلك .
وثالثا : أنه لم يرد في شئ من تواريخهم أن الإسكندر المقدوني بنى سد يأجوج ومأجوج على ما يذكره القرآن .
وقال في البداية والنهاية في خبر ذي القرنين : وقال إسحاق بن بشر عن سعيد بن بشير عن قتادة قال : إسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة ، وكان من ولد سام ابن نوح .
فأما ذو القرنين الثاني فهو إسكندر بن فيلبس ( وساق نسبه إلى عيص بن إسحاق بن إبراهيم المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم ، وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل .
وكان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان أرسطاطاليس الفيلسوف وزيره ، وهو الذي قتل دارا بن دارا وأذل ملوك الفرس وأوطأ أرضهم .
قال : وإنما نبهنا عليه لان كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير ، وفساد عريض طويل كثير فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا ، وملكا عادلا ، وكان وزيره الخضر ، وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا ، وأما الثاني فكان مشركا ، وقد كان وزيره فيلسوفا ، وقد كان بين زمانيهما ، أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور انتهى .
وفيه تعريض بالامام الرازي في مقاله السابق لكنك لو أمعنت فيما نقلنا من كلامه ثم راجعت كتابه فيما ذكره من قصة ذي القرنين وجدته لا يرتكب من الخطأ أقل مما ارتكبه الإمام الرازي فلا أثر في التاريخ عن ملك كان قبل المسيح بأكثر من ألفين وثلاثمائة سنة ملك الأرض من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق وجهة الشمال وبنى السد وكان مؤمنا صالحا بل نبيا ووزيره الخضر ودخل الظلمات في طلب ماء الحياة سواء كان اسمه الإسكندر أو غير ذلك .
ه‍ - ذكر جمع من المؤرخين أن ذا القرنين أحد التبابعة الاذواء اليمنيين من ملوك حمير باليمن كالأصمعي في تاريخ العرب قبل الاسلام ، وابن هشام في السيرة والتيجان وأبى ريحان البيروني في الآثار الباقية ونشوان بن سعيد الحميري في شمس العلوم – على ما نقل عنهم - وغيرهم .
وقد اختلفوا في اسمه فقيل اسمه مصعب بن عبد الله ، وقيل : صعب بن ذي المرائد وهو أول التبابعة ، وهو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع ، وقيل : تبع الأقرن واسمه حسان ، وذكر الأصمعي أنه أسعد الكامل الرابع من التبابعة بن حسان الأقرن ملكي كرب تبع الثاني ابن الملك تبع الأول ، وقيل : اسمه " شمر يرعش " .
وقد ورد ذكر ذي القرنين والافتخار به في عدة من أشعار الحميريين وبعض شعراء الجاهلية (...).
قال المقريزي في الخطط : إعلم أن التحقيق عند علماء الاخبار أن ذا القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز فقال : " ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئ سببا " الآيات عربي قد كثر ذكره في أشعار العرب .
وان اسمه الصعب بن ذي مرائد بن الحارث الرائش ابن الهمال ذي سدد بن عاد ذي منح بن عار الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب ابن قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام .
وأنه ملك من ملوك حمير وهم العرب العاربة ، ويقال لهم أيضا العرب العرباء ،وكان ذو القرنين تبعا متوجا ، ولما ولي الملك تجبر ثم تواضع لله ، واجتمع بالخضر وقد غلط من ظن أن الإسكندر بن فيلبس هو ذو القرنين الذي بنى السد فإن لفظة ذو عربية ، وذو القرنين من ألقاب العرب ملوك اليمن ، وذاك رومي يوناني .
قال أبو جعفر الطبري : وكان الخضر في أيام أفريدون الملك بن الضحاك في قول عامه علماء أهل الكتاب الأول ، وقيل : موسى بن عمران عليه السلام ، وقيل : إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان على أيام إبراهيم الخليل عليه السلام وان الخضر بلغ مع ذي القرنين أيام مسيره في البلاد نهر الحياة فشرب من مائه وهو لا يعلم به ذو القرنين ولا من معه فخلد وهو حي عندهم إلى الان ، وقال آخرون إن ذا القرنين الذي كان على عهد إبراهيم الخليل عليه السلام هو أفريدون بن الضحاك وعلى مقدمته كان الخضر .
وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان في معرفة ملوك الزمان بعد ما ذكر نسب ذي القرنين الذي ذكرناه : وكان تبعا متوجا لما ولي الملك تجبر ثم تواضع واجتمع بالخضر ببيت المقدس ، وسار معه مشارق الأرض ومغاربها وأوتي من كل شئ سببا كما أخبر الله تعالى ، وبنى السد على يأجوج ومأجوج ومات بالعراق .
وأما الإسكندر فإنه يوناني ، ويعرف بالإسكندر المجدوني ( ويقال المقدوني ) سئل ابن عباس عن ذي القرنين : ممن كان ؟ فقال : من حمير وهو الصعب بن ذي مرائد الذي مكنه الله في الأرض وآتاه من كل شئ سببا فبلغ قرني الشمس ورأس الأرض وبنى السد على يأجوج ومأجوج . قيل له : فالإسكندر ؟ قال : كان رجلا صالحا روميا حكيما بنى على البحر في أفريقية منارا ، وأخذ أرض رومة ، وأتى بحر العرب ، وأكثر عمل الآثار في العرب من المصانع والمدن .
وسئل كعب الأحبار عن ذي القرنين فقال : الصحيح عندنا من أحبارنا وأسلافنا أنه من حمير وأنه الصعب بن ذي مرائد ، والإسكندر كان رجلا من يونان من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ، ورجال الإسكندر أدركوا المسيح بن مريم منهم جالينوس وأرسطاطاليس .
وقال الهمداني في كتاب الأنساب وولد كهلان بن سبا زيدا فولد ، زيد عريبا ومالكا وغالبا وعميكرب ، وقال الهيثم : عميكرب بن سبا أخو حمير وكهلان فولد عميكرب أبا مالك فدرحا ومهيليل ابني عميكرب ، وولد غالب جنادة بن غالب وقد ملك بعد مهيليل بن عميكرب بن سبا ، وولد عريب عمرا فولد عمرو زيدا والهميسع ويكنى أبا الصعب وهو ذو القرنين الأول ، وهو المساح والبناء ، وفيه يقول النعمان ابن بشير .
(... ) قال الهمداني : وعلماء همدان تقول ذو القرنين الصعب بن مالك بن الحارث الاعلى ابن ربيعة بن الحيار بن مالك وف ذي القرنين أقاويل كثيرة . انتهى كلام المقريزي .
وهو كلام جامع ، ويستفاد منه أولا أن لقب ذي القرنين تسمى به أكثر من واحد من ملوك حمير وأن هناك ذا القرنين الأول ( الكبير ) وغيره .
وثانيا : أن ذا القرنين الأول وهو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج قبل الإسكندر المقدوني بقرون كثيرة سواء كان معاصرا للخليل عليه السلام أو بعده كما هو مقتضى ما نقله ابن هشام من ملاقاته الخضر ببيت المقدس المبني بعد إبراهيم بعدة قرون في زمن داود وسليمان عليهما السلام فهو على أي حال قبله مع ما في تاريخ ملوك حمير من الابهام .
ويبقى الكلام على ما ذكره واختاره من جهتين :
أحدهما : أنه أين موضع هذا السد الذي بناه تبع الحميري ؟ .
وثانيهما : أنه من هم هذه الأمة المفسدة في الأرض التي بنى السد لصدهم فهل هذا السد أحد الأسداد المبنية في اليمن أو ما والاها كسد مأرب وغيره فهي أسداد مبنية لادخار المياه للشرب والسقي لا للصد على أنها لم يعمل فيها زبر الحديد والقطر كما ذكره الله في كتابه ، أو غيرها ؟ وهل كان هناك أمة مفسده مهاجمة ، وليس فيما يجاورهم إلا أمثال القبط والاشور وكلدان وغيرهم وهم أهل حضارة ومدنية .
وذكر بعض أجله المحققين من معاصرينا في تأييد هذا القول ما محصله : أن ذا القرنين المذكور في القرآن قبل الإسكندر المقدوني بمئات من السنين فليس هو هو بل هو أحد الملوك الصالحين من التبابعة الأذواء من ملوك اليمن ، وكان من شيمة طائفة منهم التسمي بذي كذي همدان وذي غمدان وذي المنار وذي الأذعار وذي يزن وغيرهم .
وكان مسلما موحدا وعادلا حسن السيرة وقويا ذا هيبة وشوكه سار في جيش كثيف نحو المغرب فاستولى على مصر وما وراءها ثم لم يزل يسير على سواحل البحر الأبيض حتى بلغ ساحل المحيط الغربي فوجد الشمس تغيب في عين حمئة أو حامية .
ثم رجع سائرا نحو المشرق وبنى في مسيره " أفريقية" وكان شديد الولع وذا خبرة في البناء والعمارة ولم يزل يسير حتى مر بشبه جزيرة وبراري آسيا الوسطى وبلغ تركستان وحائط الصين ووجد هناك قوما لم يجعل الله لهم من دون الشمس سترا. .
ثم مال إلى الجانب الشمالي حتى بلغ مدار السرطان ، ولعله الذي شاع في الألسن أنه دخل الظلمات ، فسأله أهل تلك البلاد أن يبني لهم سدا يصد عنهم يأجوج ومأجوج لما أن اليمنيين - وذو القرنين منهم - كانوا معروفين بعمل السد والخبرة فيه فبنى لهم السد .
فإن كان هذا السد هو الحائط الكبير الحائل بين الصين ومنغوليا فقد كان ذلك ترميما منه لمواضع تهدمت من الحائط بمرور الأيام وإلا فأصل الحائط إنما بناه بعض ملوك الصين قبل ذلك ، وإن كان سدا آخر غير الحائط فلا إشكال . ومما بناه ذو القرنين واسمه الأصلي " شمر يرعش " في تلك النواحي مدينة سمرقند على ما قيل . وأيد ذلك بأن كون ذي القرنين ملكا عربيا صالحا يسأل عنه الاعراب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويذكره القرآن الكريم للتذكر والاعتبار أقرب للقبول من أن يذكر قصة بعض ملوك الروم أو العجم أو الصين ، وهم من الأمم البعيدة التي لم يكن للأعراب هوى في أن يسمعوا أخبارهم أو يعتبروا بآثارهم ، ولذا لم يتعرض القرآن لشئ من أخبارهم .
انتهى ملخصا .
والذي يبقى عليه أن كون حائط الصين هو سد ذي القرنين لا سبيل إليه فإن ذا القرنين قبل الإسكندر بعدة قرون على ما ذكره وقد بنى حائط الصين بعد الإسكندر بما يقرب من نصف قرن وأما غير الحائط الكبير ففي ناحية الشمال الغربي من الصين بعض أسداد اخر لكنها مبنية من الحجارة على ما يذكر لا أثر فيها من زبر الحديد والقطر .
وقال في تفسير الجواهر بعد ذكر مقدمة ملخصها أن المعروف من دول اليمن بمعونة من النقوش المكشوفة في خرائب اليمن ثلاث دول :
دولة معين وعاصمتها قرناء وقد قدر العلماء أن آثار دولة معين تبتدئ من القرن الرابع عشر قبل الميلاد إلى القرن السابع أو الثامن قبله ، وقد عثروا على بعض ملوك هذه الدولة وهم ستة وعشرون ملكا مثل " أب يدع " و " أب يدع ينيع " أي المنقد .
ودولة سبا وهم من القحطانيين كانوا أولا أذواء فأقيالا ، والذي نبغ منهم " سبا " صاحب قصر صرواح شرقي صنعاء فاستولى على الجميع ، ويبتدئ ملكهم من 85. ق م إلى 115 ق م والمعروف من ملوكهم سبعة وعشرون ملكا خمسة عشر منهم يسمى مكربا كالمكرب " يثعمر " والمكرب " ذمر على " واثنا عشرة منهم يسمى ملكا فقط كالملك " ذرح " والملك " يريم أيمن " .
ودولة الحميريين وهم طبقتان الأولى ملوك سبا وريدان من سنة 115 ق م إلى سنة 275 ق م وهؤلاء ملوك فقط ، والطبقة الثانية ملوك سبا وريدان وحضر موت وغيرها ، وهؤلاء أربعة عشر ملكا أكثرهم تبابعة أولهم " شمر يرعش " وثانيهم " ذو القرنين " وثالثهم " عمرو " زوج بلقيس وينتهي إلي ذي جدن ويبتدئ ملكهم من سنة 275 م إلى سنة 525 .
ثم قال : فقد ظهرت صلة الاتصاف بلقب " ذي " بملوك اليمن ولا نجد في غيرهم كملوك الروم مثلا من يلقب بذي فذو القرنين من ملوك اليمن ، وقد تقدم من ملوكهم من يسمي بذي القرنين ، ولكن هل هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن ؟
نحن نقول : كلا لان هذا مذكور في ملوك قريبي العهد منا جدا ، ولم ينقل ذلك عنهم اللهم إلا في روايات ذكرها القصاصون في التاريخ مثل أن " شمر يرعش " وصل إلى بلاد العراق وفارس وخراسان والصغد وبنى مدينة سمرقند وأصله شمر كند ، وأن أسعد أبو كرب غزا آذربيجان ، وبعث حسانا ابنه إلى الصغد ، وابنه يعفر إلى الروم ، وابن أخيه إلى الفرس ، وأن من الحميريين من بقوا في الصين لهذا العهد بعد غزو ذلك الملك لها .
وكذب ابن خلدون وغيره هذه الأخبار ، ووسموها بأنها مبالغ فيها ونقضوها بأدلة جغرافية وأخرى تاريخية .
إذن يكون ذو القرنين من أمة العرب ولكنه في تاريخ قديم قبل التاريخ المعروف . انتهى ملخصا .
و - وقيل : إن ذا القرنين هو كورش أحد ملوك الفرس الهخامنشيين ( 539 - 560 ق م وهو الذي أسس الإمبراطورية الإيرانية ، وجمع بين مملكتي الفارس وماد ، وسخر بابل وأذن في رجوع اليهود من بابل إلى أورشليم وساعد في بناء الهيكل وسخر مصر ثم اجتاز إلى يونان فغلبهم وبلغ المغرب ثم سار إلى أقاصي المعمورة في المشرق .
ذكر بعض من قارب عصرنا ثم بذل الجهد في إيضاحه وتقريبه بعض محققي الهند في هذه الأواخر بيان ذلك إجمالا أن الذي ذكره القرآن من وصف ذي القرنين منطبق على هذا الملك العظيم فقد كان مؤمنا بالله بدين التوحيد عادلا في رعيته سائرا بالرأفة والرفق والاحسان سائسا لأهل الظلم والعدوان ، وقد آتاه الله من كل شئ سببا فجمع بين الدين والعقل وفضائل الأخلاق والعدة والقوة والثروة والشوكة ومطاوعة الأسباب .
وقد سار كما ذكره الله في كتابه مره نحو المغرب حتى استولى علي ليديا وحواليها ثم سار ثانيا نحو المشرق حتى بلغ مطلع الشمس ووجد عنده قوما بدويين همجيين يسكنون في البراري ثم بنى السد وهو على ما يدل عليه الشواهد السد المعمول في مضيق داريال بين جبال قفقاز بقرب " مدينة تفليس " هذا إجمال الكلام ودونك التفصيل .
ايمانه بالله واليوم الآخر : يدل على ذلك ما في كتب العهد العتيق ككتاب عزرا ( الأصحاح 1 ) وكتاب دانيال ( الأصحاح 6 ) وكتاب أشعياء ( الأصحاح 44 و 45 ) من تجليله وتقديسه حتى سماه في كتاب الأشعياء " راعي الرب " وقال في الأصحاح الخامس والأربعين : " هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لادوس أمامه أمما وأحقاء ملوك أحل لا فتح أمامه المصراعين والأبواب لا تغلق . أنا أسير قدامك والهضاب أمهد أكسر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف . وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابي . لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك . لقبتك وأنت لست تعرفني .
ولو قطع النظر عن كونه وحيا فاليهود على ما بهم من العصبية المذهبية لا يعدون رجلا مشركا مجوسيا أو وثنيا - لو كان كورش كذلك - مسيحا إلهيا مهديا مؤيدا وراعيا للرب .
على أن النقوش والكتابات المخطوطة بالخط المسماري المأثور عن داريوش الكبير وبينهما من الفصل الزماني ثماني سنين ناطقة بكونه موحدا غير مشرك ، وليس من المعقول أن يتغير ما كان عليه كورش في هذا الزمن القصير .
وأما فضائله النفسانية فيكفي في ذلك الرجوع إلى المحفوظ من أخباره وسيرته وما قابل به الطغاة والجبابرة الذين خرجوا عليه أو حاربهم كملوك " ماد " و " ليديا " و " بابل " و " مصر " وطغاة البدو في أطراف " بكتريا " وهو البلخ وغيرهم ، وكان كلما ظهر على قوم عفا عن مجرميهم ، وأكرم كريمهم ورحم ضعيفهم وساس مفسدهم وخائنهم .
وقد أثنى عليه كتب العهد القديم ، واليهود يحترمه أعظم الاحترام لما نجاهم من أساره بابل وأرجعهم إلى بلادهم وبذل لهم الأموال لتجديد بناء الهيكل ورد إليهم نفائس الهيكل المنهوبة المخزونة في خزائن ملوك بابل ، وهذا في نفسه مؤيد آخر لكون ذي القرنين هو كورش فان السؤال عن ذي القرنين إنما كان بتلقين من اليهود على ما في الروايات .
وقد ذكره مؤرخو يونان القدماء كهرودت وغيره فلم يسعهم إلا أن يصفوه بالمروة والفتوة والسماحة والكرم والصفح وقلة الحرص والرحمة والرأفة ويثنوا عليه بأحسن الثناء .
واما تسميته بذي القرنين فالتواريخ وإن كانت خاليه عما يدل على شئ في ذلك لكن اكتشاف تمثاله الحجري أخيرا في مشهد مرغاب في جنوب إيران يزيل الريب في اتصافه بذي القرنين فإنه مثل فيه ذا قرنين نابتين من أم رأسه من منبت واحد أحد القرنين مائل إلى قدام والاخر آخذ جهة الخلف . وهذا قريب من قول من قال من القدماء في وجه تسمية ذي القرنين أنه كان له تاج أو خوذة فيه قرنان .
وقد ورد في كتاب دانيال ذكر رؤيا رأى كورش فيه في صورة كبش ذي قرنين قال فيه.
" في السنة الثالثة من ملك " بيلشاصر " الملك ظهرت لي انا دانيال رؤيا بعد التي ظهرت لي في الابتداء . فرأيت في الرؤيا وكأن في رؤياي وانا في " شوشن " القصر الذي في ولاية عيلام . ورأيت في الرؤيا وأنا عند نهر " أولاي " فرفعت عيني وإذا بكبش واقف عند النهر وله قرنان والقرنان عاليان والواحد اعلى من الاخر والأعلى طالع أخيرا . رأيت الكبش ينطح غربا وشمالا وجنوبا فلم يقف حيوان قدامه ولا منفذ من يده وفعل كمرضاته وعظم .
وبينما كنت متأملا إذا بتيس من المعزجاء من المغرب على وجه كل الأرض ولم يمس الأرض وللتيس قرن معتبر بين عينيه . وجاء إلى الكبش صاحب القرنين الذي رأيته واقفا عند النهر وركض إليه بشدة قوته ورايته قد وصل إلى جانب الكبش فاستشاط عليه وضرب الكبش وكسر قرنيه فلم تكن للكبش قوة على الوقوف امامه وطرحه على الأرض وداسه ولم يكن للكبش منفذ من يده . فتعظم تيس المعز جدا .
ثم ذكر بعد تمام الرؤيا ان جبرئيل تراءى له وعبر رؤياه بما ينطبق فيه الكبش ذو القرنين على كورش ، وقرناه مملكتا الفارس وماد ، والتيس ذو القرن الواحد على الإسكندر المقدوني .
واما سيره نحو المغرب والمشرق فسيره نحو المغرب كان لدفع طاغية " ليديا " وقد سار بجيوشه نحو كورش ظلما وطغيانا من غير أي عذر يجوز له ذلك فسار إليه وحاربه وهزمه ثم عقبه حتى حاصره في عاصمة ملكه ثم فتحها وأسره ثم عفا عنه وعن سائر أعضاده وأكرمه وإياهم وأحسن إليهم وكان له أن يسوسهم ويبيدهم وانطباق القصة على قوله تعالى : " حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة – ولعلها الساحل الغربي من آسيا الصغرى - ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " وذلك لاستحقاقهم العذاب بطغيانهم وظلمهم وفسادهم .
ثم إنه سار نحو الصحراء الكبير بالمشرق حوالي بكتريا لاخماد غائلة قبائل بدوية همجية انتهضوا هناك للمهاجمة والفساد وانطباق قوله تعالى : " حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا عليه ظاهر .
واما بناؤه السد : فالسد الموجود في مضيق جبال قفقاز الممتدة من بحر الخزر إلى البحر الأسود ، ويسمى المضيق " داريال " وهو واقع بلدة " تفليس " وبين " ولادي كيوكز " .
وهذا السد واقع في مضيق بين جبلين شاهقين يمتدان من جانبيه وهو وحده الفتحة الرابطة بين جانبي الجبال الجنوبي والشمالي والجبال مع ما ينضم إليها من بحر الخزر والبحر الأسود حاجز طبيعي في طول الوف من الكيلو مترات يحجز جنوب آسيا من شمالها .
وكان يهجم في تلك الاعصار أقوام شريرة من قاطني الشمال الشرقي من آسيا من مضيق جبال قفقاز إلى ما يواليها من الجنوب فيغيرون على ما دونها من أرمينستان ثم إيران حتى الآشور وكلده ، وهجموا في حوالي المائة السابعة قبل الميلاد فعمموا البلاد قتلا وسبيا ونهبا حتى بلغوا نينوى عاصمة الآشور وكان ذلك في القرن السابق على عهد كورش تقريبا .
وقد ذكر المؤرخون من القدماء كهرودوت اليوناني سير كورش إلى شمال إيران لاخماد نوائر فتن اشتعلت هناك ، والظاهر أنه بنى السد في مضيق داريال في مسيره هذا لاستدعاء من أهل الشمال وتظلم منهم ، وقد بناه بالحجارة والحديد وهو الردم الوحيد الذي استعمل فيه الحديد ، وهو بين سدين جبلين ، وانطباق قوله تعالى : " فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد " الآيات عليه ظاهر .
ومما أيد به هذا المدعى وجود نهر بالقرب منه يسمى " سايروس " وهو اسم كورش عند الغربيين ، ونهر آخر يمر بتفليس يسمى " كر " وقد ذكر هذا السد " يوسف " اليهودي المؤرخ عند ذكر رحلته إلى شمال قفقاز وليس هو الحائط الموجود في باب الأبواب على ساحل بحر الخزر فان التاريخ ينسب بناءه إلى كسرى أنو شيروان وكان يوسف قبله.
على أن سد باب الأبواب غير سد ذي القرنين المذكور في القرآن قطعا إذ لم يستعمل فيه حديد قط .
وأما يأجوج ومأجوج فالبحث عن التطورات الحاكمة على اللغات يهدينا إلى أنهم المغول فان الكلمة بالتكلم الصيني " منكوك " أو " منجوك " ولفظتا يأجوج ومأجوج كأنهما نقل عبراني وهما في التراجم اليونانية وغيرها للعهد العتيق " كوك " و " مأكوك " والشبه الكامل بين " ماكوك " و " منكوك " يقضي بأن الكلمة متطورة من التلفظ الصيني " منكوك " كما اشتق منه " منغول " و " مغول " ولذلك في باب تطورات الألفاظ نظائر لا تحصى .
فيأجوج ومأجوج هما المغول وكانت هذه الأمة القاطنة بالشمال الشرقي من آسيا من أقدم الاعصار أمة كبيرة مهاجمة تهجم برهة إلى الصين وبرهة من طريق داريال قفقاز إلى أرمينستان وشمال إيران وغيرها وبرهة وهى بعد بناء السد إلى شمال أوروبا وتسمى عندهم بسيت ومنهم الأمة الهاجمة على الروم وقد سقطت في هذه الكرة دولة رومان ، وقد تقدم أيضا أن المستفاد من كتب العهد العتيق أن هذه الأمة المفسدة من سكنة أقاصى الشمال .
هذه جملة ما لخصناه من كلامه ، وهو وإن لم يخل عن اعتراض ما في بعض أطرافه لكنه أوضح انطباقا على الآيات وأقرب إلى القبول من غيره .
ز - ومما قيل في ذي القرنين ما سمعته عن بعض مشايخي أنه من أهل بعض الأدوار السابقة على هذه الدورة الانسانية وهو غريب ولعله لتصحيح ما ورد في الاخبار من عجائب حالات ذي القرنين وغرائب ما وقع منه من الوقائع كموته وحياته مرة بعد مرة ورفعه إلى السماء ونزوله إلى الأرض وقد سخر له السحاب يسير به إلى المغرب والمشرق ، وتسخير النور والظلمة والرعد والبرق له ، ومن المعلوم أن تاريخ هذه الدورة لا يحفظ شيئا من ذلك فلا بد أن يكون ذلك في بعض الأدوار السابقة هذا ، وقد بالغ في حسن الظن بتلك الأخبار .
4 - أمعن أهل التفسير والمؤرخون في البحث حول القصة ، وأشبعوا الكلام في أطرافها ، وأكثرهم على أن يأجوج ومأجوج أمة كبيرة في شمال آسيا ، وقد طبق جمع منهم ما أخبر به القرآن من خروجهم في آخر الزمان وإفسادهم في الأرض على هجوم التتر في النصف الأول من القرن السابع الهجري على غربي آسيا ، وإفراطهم في إهلاك الحرث والنسل بهدم البلاد وإبادة النفوس ونهب الأموال وفجائع لم يسبقهم إليها سابق .
وقد أخضعوا أولا الصين ثم زحفوا إلى تركستان وإيران والعراق والشام وقفقاز إلى آسيا الصغرى ، وأفنوا كل ما قاومهم من المدن والبلاد والحصون كسمرقند وبخارا وخوارزم ومرو ونيسابور والري وغيرها ، فكانت المدينة من المدن تصبح وفيها مآت الألوف من النفوس وتمسي ولم يبق من عامة أهلها نافخ نار ، ولا من هامة أبنيتها حجر على حجر .
ثم رجعوا إلى بلادهم ثم عادوا وحملوا على الروس ودمروا أهل بولونيا وبلاد المجر وحملوا على الروم وألجأوهم على الجزية كل ذلك في فجائع يطول شرحها .
لكنهم أهملوا البحث عن أمر السد من جهة خروجهم منه وحل مشكلته فإن قوله تعالى : " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وجعلنا بعضهم يومئذ يموج في بعض الآيات ظاهره على ما فسروه أن هذه الأمة المفسدة محبوسون فيما وراءه لا مخرج لهم إلى سائر الأرض ما دام معمورا قائما على ساقه حتى إذا جاء وعد الله سبحانه جعله دكاء مثلما أو منهدما فخرجوا منه إلى الناس وساروا بالفساد والشر .
فكان عليهم - على هذا - أن يقرروا للسد وصفه هذا فإن كانت هذه الأمة المذكورة هي التتر وقد ساروا من شمال الصين إلى إيران والعراق والشام وقفقاز إلى آسيا الصغرى فأين كان هذا السد الموصوف في القرآن الذي وطؤوه ثم طلعوا منه إلى هذه البلاد وجعلوا عاليها سافلها ؟
وإن لم تكن هي التتر أو غيرها من الأمم المهاجمة في طول التاريخ فأين هذا السد المشيد بالحديد ومن صفته أنه يحبس أمة كبيرة منذ الوف من السنين من أن تهجم على سائر أقطار الأرض ولا مخرج لهم إلى سائر الدنيا دون السد المضروب دونهم وقد ارتبطت اليوم بقاع الأرض بعضها ببعض بالخطوط البرية والبحرية والهوائية وليس يحجز حاجز طبيعي كجبل أو بحر أو صناعي كسد أو سور أو خندق أمة من أمة فأي معنى لانصداد قوم عن الدنيا بسد بين جبلين بأي وصف وصف وعلى أي نحو فرض ؟ .
بيان: والذي أرى في دفع هذا الاشكال - والله أعلم - أن قوله : " دكاء " من الدك بمعنى الذلة قال في لسان العرب : وجبل دك : ذليل . انتهى . والمراد بجعل السد دكاء جعله ذليلا لا يعبأ بأمره ولا ينتفع به من جهة اتساع طرق الارتباط وتنوع وسائل الحركة والانتقال برا وبحرا وجوا .
فحقيقة هذا الوعد هو الوعد برقي المجتمع البشري في مدنيته ، واقتراب شتى أممه إلى حيث لا يسده سد ولا يحوطه حائط عن الانتقال من أي صقع من أصقاع الأرض إلى غيره ولا يمنعه من الهجوم والزحف إلى أي قوم شاؤوا .
ويؤيد هذا المعنى سياق قوله تعالى في موضع آخر يذكر فيه هجوم يأجوج ومأجوج " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون " حيث عبر بفتح يأجوج ومأجوج ولم يذكر السد .
وللدك معنى آخر وهو الدفن بالتراب ففي الصحاح : دككت الركى - وهو البئر - دفنته بالتراب انتهى ، ومعنى آخر وهو صيرورة الجبل رابية من طين ، قال في الصحاح وتدكدكت الجبال أي صارت روابي من طين واحدتها دكاء انتهى . فمن الممكن أن يحتمل أن السد من جملة أبنية العهود القديمة التي ذهبت مدفونة تحت التراب عن رياح عاصفة أو غريقة بانتقال البحار أو اتساع بعضها على ما تثبتها الأبحاث الجيولوجية ، وبذلك يندفع الاشكال لكن الوجه السابق أوجه والله أعلم قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ( 103 ) . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( 104 ) . أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا ( 105 ) . ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ( 106 ) . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ( 107 ) . خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ( 108 ) .
( بيان ):
الآيات الست في منزلة الاستنتاج مما تقدم من آيات السورة الشارحة لافتنان المشركين بزينة الحياة الدنيا واطمئنانهم بأولياء من دون الله وابتلائهم بما ابتلوا به من غشاوة الابصار ووقر الاذان وما يتعقب ذلك من سوء العاقبة وتمهيد لما سيأتي من قوله في آخر السورة : " قل إنما أنا بشر مثلكم الآية .
قوله تعالى : " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ظاهر السياق أن الخطاب للمشركين وهو مسوق سوق الكناية وهم المعنيون بالتوصيف وسيقترب من التصريح في قوله : " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه " فالمنكرون للنبوة والمعاد هم المشركون .
قيل : ولم يقل : بالأخسرين عملا ، مع أن الأصل في التمييز أن يأتي مفردا والمصدر شامل للقليل والكثير للايذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها .
قوله تعالى : " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " إنباء بالأخسرين أعمالا وهم الذين عرض في الآية السابقة على المشركين أن ينبئهم بهم ويعرفهم )).( انتهى تفسير الميزان)
نستنتج من اعلاه :
- أن صاحب القصة كان معروفا قبل نزول قصته في القرآن .
- لم يذكر القدماء من المؤرخين في أخبارهم ملكا يسمى في عهده بذي القرنين ، أو ما يؤدي معناه من غير اللفظ العربي ، ولا يأجوج ومأجوج بهذين اللفظين ، ولا سدا ينسب إليه باسمه .
وهذا ما تريد ان تؤكد عليه الدراسة.
***










فيما يخرج كاتب اخر بتفسير اخر ذكر من ضمن التفاسير السابقة ، هو أبو الكلام آزاد ، الذي يقدم تفسيره الدكتور عبد المنعم النمر، فيقول:
(( لم يرتض أبو الكلام آزاد (عالم الهند المعروف ترجم معاني القرآن إلى اللغة الأوردية) قولا من هذه الأقوال، بل ردها، و قال عنها: إنها قامت على افتراض مخطيء لا يدعمه دليل، و عنى بالرد على من يقول بأنه الإسكندر المقدوني.. بأنه لا يمكن أن يكون هو المقصود بالذكر في القرآن، إذ لا تعرف له فتوحات بالمغرب، كما لم يعرف عنه أنه بنى سدا، ثم إنه ما كان مؤمنا بالله، و لا شفيقا عادلا مع الشعوب المغلوبة، و تاريخه مدون معروف. كما عنى بالرد على من يقول بأنه عربي يمني.. بأن سبب النزول هو سؤال اليهود للنبي عليه الصلاة و السلام عن ذي القرنين لتعجيزه و إحراجه. و لو كان عربيا من اليمن لكان هناك احتمال قوي لدي اليهود- على الأقل- أن يكون عند قريش علم به، و بالتالي عند النبي صلى الله عليه و سلم، فيصبح قصد اليهود تعجيز الرسول عليه الصلاة و السلام غير وارد و لا محتمل. لكنهم كانوا متأكدين حين سألوه بأنه لم يصله خبر عنه، و كانوا ينتظرون لذلك عجزه عن الرد.. سواء قلنا بأنهم وجهوا السؤال مباشرة أو أوعزوا به للمشركين في مكة ليوجهوه للرسول عليه الصلاة و السلام. ثم قال : " و الحاصل أن المفسرين لم يصلوا إلى نتيجة مقنعة في بحثهم عن ذي القرنين، القدماء منهم لم يحاولوا التحقيق، و المتأخرون حاولوه، و لكن كان نصيبهم الفشل. و لا عجب فالطريق الذي سلكوه كان طريقا خاطئا. لقد صرحت الآثار بأن السؤال كان من قبل اليهود- وجهوه مباشرة أو أوعزوا لقريش بتوجيهه -فكان لائقا بالباحثين أن يرجعوا إلى أسفار اليهود و يبحثوا هل يوجد فيها شيىء يلقي الضوء على شخصية ذي القرنين، إنهم لو فعلوا ذلك لفازوا بالحقيقة ".
لماذا ؟ لأن توجيه السؤال من اليهود للنبي عليه الصلاة و السلام لإعجازه ينبىء عن أن لديهم في كتبهم و تاريخهم علما به، مع تأكدهم بأن النبي عليه الصلاة و السلام أو العرب لم يطلعوا علي ما جاء في كتبهم.. فكان الاتجاه السليم هو البحث عن المصدر الذي أخذ منه اليهود علمهم بهذا الشخص.. و مصدرهم الأول هو التوراة.
و أمسك أزاد بالخيط
و هذا هو الذي اتجه إليه أزاد، و أمسك بالخيط الدقيق الذي وصل به إلي الحقيقة.. و قرأ و بحث و وجد في الأسفار، و ما ذكر فيها من رؤى للأنبياء من بني إسرائيل و ما يشير إلى أصل التسمية : "ذي القرنين" أو " لوقرانائيم" كما جاء في التوراة.. و ما يشير كذلك إلي الملك الذي أطلقوا عليه هذه الكنية، و هو الملك "كورش" أو "خورس " كما ذكرت التوراة و تكتب أيضا "غورش" أو "قورش".
يقول أزاد : " خطر في بالي لأول مرة هذا التفسير لذي القرنين في القرآن،و أنا أطالع سفر دانيال ثم اطلعت علي ما كتبه مؤرخو اليونان فرجح عندي هذا الرأي، و لكن شهادة أخري خارج التوراة لم تكن قد قامت بعد، إذ لم يوجد في كلام مؤرخي اليونان ما يلقي الضوء علي هذا اللقب.
ثم بعد سنوات لما تمكنت من مشاهدة آثار إيران القديمة ومن مطالعة مؤلفات علماء الآثار فيها زال الحجاب، إذ ظهر كشف أثري قضي علي سائر الشكوك، فتقرر لدي بلا ريب أن المقصود بذي القرنين ليس إلا كورش نفسه فلا حاجة بعد ذلك أن نبحث عن شخص آخر غيره ". " إنه تمثال علي القامة الإنسانية، ظهر فيه كورش، و علي جانبيه جناحان، كجناحي العقاب، و علي رأسه قرنان كقرني الكبش، فهذا التمثال يثبت بلا شك أن تصور "ذي القرنين" كان قد تولد عند كورش، و لذلك نجد الملك في التمثال و علي رأسه قرنان" أي أن التصور الذي خلقه أو أوجده اليهود للملك المنقذ لهم "كورش" كان قد شاع و عرف حتى لدي كورش نفسه علي أنه الملك ذو القرنين.. أي ذو التاج المثبت علي ما يشبه القرنين..
و مع أن ما وصل إليه أزاد قد يعتبر لدى الباحثين كافيا، إلا أنه مفسر للقرآن و عليه أن يعقد المقارنة بين ما وصل إليه و بين ما جاء به القرآن عن ذي القرنين أو عن الملك كورش.. إذ أن هذا يعتبر الفيصل في الموضوع لدي المفسر المؤمن بالقرآن.. و يقول أزاد : أنه لم توجد مصادر فارسية يمكن الاعتماد عليها في هذا، و لكن الذي أسعفنا هو الكتب التاريخية اليونانية، ولعل شهادتها، تكون أوثق و أدعي للتصديق، إذ أن المؤرخين اليونان من أمة كان بينها و بين الفرس عداء مستحكم و مستمر، فإذا شهدوا لكورش فإن شهادتهم تكون شهادة حق لا رائحة فيها للتحيز، و يستشهد أزاد في هذا المقام بقول الشاعر العربي :
و مليحة شـــهدت لها ضراتها و الفضل ما شهدت به الأعداء
فقد أجمعوا علي أنه كان ملكا عادلا، كريما، سمحا، نبيلا مع أعدائه، صعد إلي المقام الأعلى من الإنسانية معهم. و قد حدد أزاد الصفات التي ذكرها القرآن لذي القرنين، و رجع لهذه المصادر اليونانية فوجدها متلاقية تماما مع القرآن الكريم، و كان هذا دليلا قويا آخر علي صحة ما وصل إليه من تحديد لشخصية ذي القرنين، تحديدا لا يرقي إليه شك..
إنه من أسرة فارسية ظهر في منتصف القرن السادس قبل الميلاد في وقت كانت فيه بلاده منقسمة إلي دويلتين تقعان تحت ضغط حكومتي بابل و آشور القويتين، فاستطاع توحيد الدولتين الفارسيتين تحت حكمه، ثم استطاع أن يضم إليها البلاد شرقا و غربا بفتوحاته التي أشار إليها القرآن الكريم، و أسس أول إمبراطورية فارسية، و حين هزم ملك بابل سنة 538 ق.م. أتاح للأسري اليهود فيها الرجوع لبلادهم، مزودين بعطفه و مساعدته و تكريمه. كما أشرنا إلي ذلك من قبل.. و ظل حاكما فريدا في شجاعته و عدله في الشرق حتى توفي سنة 529 ق.م.
إنما نسميه بهذا لأنه بني لمنع الإغارات التي كانت تقوم بها قبائل يأجوج و مأجوج من الشمال علي الجنوب، كما يسمي كذلك سد "ذي القرنين" لأنه هو الذي أقامه لهذا الغرض.. و يقول أزاد : " لقد تضافرت الشواهد علي أنهم لم يكونوا إلا قبائل همجية بدوية من السهول الشمالية الشرقية، تدفقت سيولها من قبل العصر التاريخي إلي القرن التاسع الميلادي نحو البلاد الغربية و الجنوبية، و قد سميت بأسماء مختلفة في عصور مختلفة، و عرف قسم منها في الزمن المتأخر باسم "ميغر" أو "ميكر" في أوروبا.. و باسم التتار قي آسيا، و لاشك أن فرعا لهؤلاء القوم كانوا قد انتشروا علي سواحل البحر الأسود في سنة 6.. ق.م.
و أغار علي آسيا الغربية نازلا من جبال القوقاز، و لنا أن نجزم بأن هؤلاء هم الذين شكت الشعوب الجبلية غاراتهم إلي "كورش" فبني السد الحديدي لمنعها"، و تسمي هذه البقعة الشمالية الشرقية ( الموطن الأصلي لهؤلاء باسم "منغوليا " و قبائلها الرحالة "منغول"، و تقول لنا المصادر اليونانية أن أصل منغول هو "منكوك" أو "منجوك" و في الحالتين تقرب الكلمة من النطق العبري "ماكوك" و النطق اليوناني "ميكاك" و يخبرنا التاريخ الصيني عن قبيلة أخري من هذه البقعة كانت تعرف باسم "يواسي" و الظاهر أن هذه الكلمة ما زالت تحرف حتى أصبحت يأجوج في العبرية.. " و يقول : " إن كلمتي : " يأجوج و مأجوج " تبدوان كأنهما عبريتان في أصلهما و لكنهما في أصلهما قد لا تكونان عبريتين، إنهما أجنبيتان اتخذتا صورة العبرية فهما تنطقان باليونانية "كاك Gag" و "ماكوك Magog" و قد ذكرتا بهذا الشكل في الترجمة السبعينية للتوراة، و راجتا بالشكل نفسه في سائر اللغات الأوروبية ". و الكلمتان تنطقان في القرآن الكريم بهمز و بدون همز. و قد استطرد أزاد بعد ذلك لذكر الأدوار السبعة أو الموجات السبع التي قام بها هؤلاء بالإغارة علي البلاد الغربية منها و الجنوبية.
ثم يحدد مكان السد بأنه في البقعة الواقعة بين بحر الخرز "قزوين" و "البحر الأسود" حيث توجد سلسلة جبال القوقاز بينهما، و تكاد تفصل بين الشمال و الجنوب إلا في ممر كان يهبط منه المغيرون من الشمال للجنوب، و في هذا الممر بني كورش سده، كما فصله القرآن الكريم، و تحدثت عنه كتب الآثار و التاريخ. و يؤكد أزاد كلامه بأن الكتابات الأرمنية – و هي كشهادة محلية – تسمي هذا الجدار أو هذا السد من قديم باسم " بهاك غورائي" أو "كابان غورائي" و معني الكلمتين واحد و هو مضيق "غورش" أو "ممر غورش" و "غور" هو اسم "غورش أو كورش". و يضيف أزاد فوق هذا شهادة أخري لها أهميتها أيضا و هي شهادة لغة بلاد جورجيا التي هي القوقاز بعينها. فقد سمي هذا المضيق باللغة الجورجية من الدهور الغابرة باسم " الباب الحديدي ".
و بهذا يكون أزاد قد حدد مكان السد و كشف المراد من يأجوج و مأجوج.. و قد تعرض لدفع ما قيل أن المراد بالسد هو سد الصين، لعدم مطابقة مواصفات سد الصين لمواصفات سد ذي القرنين و لأن هذا بني سنة 264 ق.م. بينما بني سد ذي القرنين في القرن السادس قبل الميلاد. كما تعرض للرد علي ما قيل بأن المراد بالسد هو جدار دربند، أو باب الأبواب كما اشتهر عند العرب بأن جدار دربند بناه أنوشروان ( من ملوك فارس من 531 – 579 م ) بعد السد بألف سنة، و أن مواصفاته غير مواصفات سد ذي القرنين و هو ممتد من الجبل إلي الساحل ناحية الشرق و ليس بين جبلين كما أنه من الحجارة و لا أثر فيه للحديد و النحاس.
و على ذلك يكون المقصود بالعين الحمئة هو الماء المائل للكدرة و العكارة وليس صافيا. و ذلك حين بلغ الشاطيء الغربي لآسيا الصغري و رأي الشمس تغرب في بحر إيجه في المنطقة المحصورة بين سواحل تركيا الغربية شرقا و اليونان غربا وهي كثيرة الجزر و الخلجان.
والمقصود بمطلع الشمس هو رحلته الثانية شرقا التي وصل فيها إلي حدود باكستان و أفغانستان الآن ليؤدب القبائل البدوية الجبلية التي كانت تغير علي مملكته. و المراد ببين السدين أي بين جبلين من جبال القوقاز التي تمتد من بحر الخزر ( قزوين ) إلي البحر الأسود حيث إتجه شمالا. و لقد كان أزاد بهذا البحث النفيس أول من حل لنا هذه الإشكالات التي طال عليها الأمد ، و حيرت كل المفكرين قبله. و حقق لنا هذا الدليل ، من دلائل النبوة الكثيرة.. رحمه الله و طيب ثراه)).(12)
***





تحت لافتة عريضة تؤكد حرمة مناقشة امور الدين ، او ما في سور القرآن ، او بعض امور الغيب ، راحت النسبة الكبيرة من المسلمين يغلقون عقولهم ، ويحجرون على تفكيرهم ، فتراهم يتهيبون من طرح بعض الاسئلة التي راحت تبرز امامهم وهم يعيشون عصر اللا امية في كل شيء ، وعصر التقدم العلمي ، والفكري والثقافي ، فاحد المسلمين يسأل الشيخ حسين المؤيد ( في وقت كان فيه مرجعا شيعيا ‘ذ بعدها تحول الى الوهابية فاصبح علامة)عن مشروعية السؤال عن قصة ذو القرنين ، فيجيبه برؤية علمية موضوعية لا تخرج من الايمان بما جاء في القرآن، قائلا:
(( لا يعتبر الاستفسار عن هذه القصة أمراً غير مشروع , فليس هناك من النصوص الشرعية ما يمنع من الاستفسار أو ما يحجر على العقول . و للانسان أن يبحث دائماً حتى يتمكن من الوصول الى الحقيقة , و ليس في البحث تكذيب للقرآن الكريم فالقرآن الكريم له مصداقية تتضائل أمامها و تذوب كل نقاط التشكيك , و ليس من المنطقي أن يعكس الانسان جهله الناشيء من قصور في رؤيته أو نضب في مادة بحثه على القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه . و ما أكثر الحقائق التي جاء بها القرآن الكريم و لم تكتشف في قرون مضت ثم جاء التطور العلمي ليكشف هذه الحقائق التي سبق اليها القرآن الكريم .
و لا بد للباحث أن يتقيد بمنهج معين في التعامل مع آيات القرآن الكريم فيما يتصل بامثال هذه الامور . فالقرآن الكريم ليس كتاب تاريخ أو جغرافيا و ليس كتاباً لبيان حقائق الفيزياء أو الكيمياء أو ما شاكل , و انما هو كتاب هداية و دستور عمل و سفر عقيدة و ايمان , و اذا تطرقت بعض آياته الى قصص تاريخية فليس الغرض منها سرد التاريخ و انما الغرض بيان الدروس و العبر التي تصب في الاهداف المتوخاة للقرآن الكريم ككتاب هداية و ايمان . و من هنا نجد أن آيات القرآن الكريم لا تتوقف كثيراً عند التفاصيل التاريخية الا في حدود معينة يقتضيها هدف النص القرآني .
و من هنا فان الآيات الكريمة التي تحدثت عن ذي القرنين و الأحداث التي جرت له لم تدخل في تفاصيل شخصية ذي القرنين و لا الخصوصيات الزمكانية لهذه الأحداث لان الهدف ليس الا استخلاص الدروس و العبر التي تتصل بالعقيدة و السلوك الايماني .
و من الامور المهمة كمنهج في التعامل مع الايات القرآنية التي تتحدث عن أحداث تاريخية :-
1. عدم التعويل على الأحاديث المروية في تفسير هذه الآيات مما لا ينسجم و حدود هذه الآيات و معطياتها أو لا ينسجم مع الواقع القطعي لان كثيراً من هذه الأحاديث ضعيف أو موضوع أو مدسوس من الإسرائيليات .
2. لا يصح محاكمة ما يعرضه القرآن الكريم الى التاريخ و قد أشار المرحوم سيد قطب في كتابه القيّم في ظلال القرآن الى هذه الحقيقة قائلاً :-
" و من البديهي أنه لا تجوز محاكمة القرآن الكريم الى التاريخ لسببين واضحين :-"
أولهما :- ان التاريخ مولود حديث العهد فاتته أحداث لا تحصى في تاريخ البشرية لم يعلم عنها شيئاً . و القرآن يروي بعض هذه الأحداث التي ليس لها لدى التاريخ علم عنها .
و ثانيهما :- ان التاريخ – و ان وعى بعض هذه الأحداث – هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من القصور و الخطأ و التحريف . و نحن نشهد في زماننا هذا – الذي تيسرت فيه اسباب الاتصال و وسائل الفحص – أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى على أوجه شتى و ينظر اليه من زوايا مختلفة و يفسر تفسيرات متناقضة و من مثل هذا الركام يصنع التاريخ مهما قيل بعد ذلك في التمحيص و التدقيق .
فمجرد الكلام عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص كلام تنكره القواعد العلمية المقررة التي ارتضاها البشر قبل أن تنكره العقيدة التي تقرر أن القرآن هو القول الفصل " .
و أقول يجب الالتفات الى ما يلي :-
1. لا يعوّل على الأحاديث التي توسعت في ذكر خصوصيات هذه القصة لا سيما ما يخرج عن حدود ما جاء به القرآن الكريم و ما لا يسنده الواقع القطعي و ما لا ينسجم و مضمون الآيات الكريمة الواردة بهذا الشأن .
2. ان عدم وجود شواهد تاريخية فيما بين أيدينا من تاريخ لا يمكن أن يزعزع ايماننا بصحة ما ورد في القرآن الكريم لان مصداقية القرآن الكريم فوق كل الشبهات و لأن المنهج العلمي يرفض محاكمة آيات القرآن الى التاريخ كما تقدم قبل قليل .
3. يجب التقيد بفهم معتدل لآيات القرآن الكريم و عدم تحميلها ما لا تحتمل فعلى سبيل المثال ليس في قوله تعالى " فما اسطاعوا أن يظهروه و ما أستطاعوا له نقبا " دلالة على التأبيد الدائم و انما يمكن أن يكون وصفاً للحالة في وقت بناء السد و في ذلك المقطع الزماني فلا ينافي تطور الأحداث فيما بعد و تغير المشهد التاريخي لذا لا يمكن طرح التساؤل عن أنه كيف لم يتم إكتشاف وجود هؤلاء الى الآن برغم التطور العلمي , لسبب بسيط و هو أن الآية الكريمة تتحدث عن مقطع زمني لا ينفي تغير المشهد التاريخي بفعل تسلسل الأحداث . و ليس من الصحيح تحميل الآيات أكثر من مداليلها . و قوله تعالى " قال هذا رحمة من ربي فاذا جاء وعد ربي جعله دكاء و كان وعد ربي حقاً " لا دلالة له على بقاء المشهد التاريخي الحاصل في ذلك الوقت . لأن المذكور في الآية الكريمة نقل لكلام ذي القرنين و هذا يعني تصور ذي القرنين نفسه . مضافاً الى أن الحديث هو عن السد نفسه و ليس عن الأقوام التي خلفه.
4. ان عدم اكتشاف السد على فرض عدم تشخيصه لا يثير أدنى شك في ما جاء به القرآن الكريم فالآية لم تذكر زمان هذا الحدث فقد يكون حدثاً بعيداً جداً في أعماق التاريخ السحيقة و يكون السد موجوداً حقيقة لكن التغيرات الجيولوجية أخفته . و نحن نشهد في زماننا إكتشاف آثار لم تكن معروفة أصلاً قبل عقود من الزمن بفعل التنقيبات الأثرية و تكتشف مدن تحت التراب , و التنقيبات الأثرية لم تبلغ مداها في جميع بقاع الأرض فمن الممكن أن يفاجأ الناس بفتح علمي أثري يكتشف هذا السد .
هذا , و للعلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره بيان يرى فيه أن ذا القرنين كان ملكاً من ملوك الصين و ذلك لما يلي :-
1. ان بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير و صنايع .
2. ان معظم ملوكهم كانوا أهل عدل و تدبير .
3. ان من سماتهم تطويل شعر رؤوسهم و جعلها في ظفيرتين .
4. ان سداً وردمدا عظيماً لا يعرف له مثيل في العالم موجود بين الصين و بلاد المغول و هو المشهور بالسور الأعظم .
5. ما روته أم حبيبة عن زينب بنت جحش رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه آله و سلم خرج ليلة فقال ويل للعرب من شر قد أقترب فتح اليوم من الردم ماجوج و ياجوج هكذا و أشار بعقد تسعين من السبابة و الابهام .
و من المعلوم أن زوال عظمة سلطان العرب كان على يد المغول فيتعين أن ياجوج و ماجوج هم المغول و أن الردم هو الفاصل بين الصين و منغوليا و كان موجوداً في حدود سنة 247 ق.م .
وهكذا يصل الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى الى أن الردم المذكور في الآية الكريمة هو سور الصين العظيم الذي بناه أحد ملوك الصين .
لكن المذكور عن سور الصين أنه مبني من الطين و الحجارة بينما القرآن الكريم يتحدث عن سور مبني من الحديد الذي أذيب عليه النحاس حيث أن إختلاط النحاس المذاب بالحديد يزيد من صلابته و قيل ان هذه الطريقة استخدمت حديثاً في تقوية الحديد حيث وجد أن اضافة نسبة من النحاس اليه تضاعف مقاومته و صلابته فكان هذا الذي هدى الله تعالى اليه ذا القرنين و ذكره في القرآن الكريم سبقاً للعلم البشري الحديث بقرون .
اذن ليس المقصود بالردم سور الصين و ربما يكون السد أمام هجمات المغول لكن ليس سور الصين و انما سد آخر لم يتم إكتشافه لحد الآن أو أن سور الصين ليس كله من طين و حجارة و انما كان جزء منه قديماً قد استعمل في بنائه الحديد و القطر.
و كيفما كان فإننا نتقيد بالحدود المذكورة في الآيات الكريمات , و قد ذكرته الآيات الكريمات لأخذ العبر و الدروس الإيمانية و لا يهمنا أين كان هذا السد مكاناً و في أي زمان و انما المهم وقوع هذه القضية كحدث تاريخي أخبر عن وقوعه القرآن الكريم و من أصدق من الله حديثاً)) (انتهى قول المرجع العلامة).
***
من اجابة الشيخ المؤيد لسؤال السائل ،قدم رؤيته عن القصة بصورة موضوعية ، ويطلب الشيخ من الباحثين في القرآن وما ورد فيه من قصص ان يتقيدوا بمنهج معين في التعامل مع آياته فيما يتصل بامثال هذه الامور .
لان القرآن كما يقول الشيخ :ليس كتاب تاريخ أو جغرافيا و ليس كتاباً لبيان حقائق الفيزياء أو الكيمياء أو ما شاكل , و انما هو كتاب هداية و دستور عمل و سفر عقيدة و ايمان.
لان التاريخ – كما يقول - مولود حديث العهد فاتته أحداث لا تحصى في تاريخ البشرية لم يعلم عنها شيئاً . و القرآن يروي بعض هذه الأحداث التي ليس لها لدى التاريخ علم عنها .
وهو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من القصور و الخطأ و التحريف .
فمجرد الكلام عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن من القصص كلام تنكره القواعد العلمية المقررة التي ارتضاها البشر قبل أن تنكره العقيدة التي تقرر أن القرآن هو القول الفصل ".
اما اذا تطرقت بعض آياته الى قصص تاريخية فيقول الشيخ : (( ليس الغرض منها سرد التاريخ و انما الغرض بيان الدروس و العبر التي تصب في الاهداف المتوخاة للقرآن الكريم ككتاب هداية و ايمان . و من هنا نجد أن آيات القرآن الكريم لا تتوقف كثيراً عند التفاصيل التاريخية الا في حدود معينة يقتضيها هدف النص القرآني)) .
اما قوله في نهاية رأيه الفقهي : ((و انما المهم وقوع هذه القضية كحدث تاريخي أخبر عن وقوعه القرآن الكريم و من أصدق من الله حديثاً)) ، فهو يعني – اعتمادا على ما في رأيه من افكار ومعان – ان هذه القصة القرآنية قد بنيت على واقعة تاريخية ، وهذا المعنى يتفق والمعنى الذي يجد في الاساطير انها قد بنيت اساسا على واقعة تاريخية وصبت في قالب اسطوري ، وهذا ما عبر عنه الدكتور صادق جلال العظم في رده اثناء محاكمته التي جرت في ستينيات القرن الماضي ، بأنه من النوع العلمي: (( ان للاساطير معنيان ، معنى متداول مذموم بحيث اننا عندما نريد ان نسفه شيئا ما نقول عنه "اسطورة" ، ومعنى جدي وعلمي للكلمة يشير الى التراث الاسطوري للشعوب )). (13)
***










الخلاصة:
توصلت الدراسة الى النتائج التالية:
1 – القرآن هو كتاب دعوة وهداية وارشاد.
2 – القرآن ليس كتاب علم ، ولا كتاب تاريخ ، ولا جغرافية.
3 - ان القصص فيه جاءت للعبرة والموعظة ، ولا يمكن محاكمتها بالتاريخ.
لهذا ، توصي هذه الدراسة بالنظر الى القصص القرآني من خلال منهج خاص بعيد عن المنهج التاريخي ، وينظر الى القصة على انها حكاية هدفها روحي ، وغايتها الترغيب والترهيب ، بصورة غير مباشرة .
نيسان/ 2011
***













الهوامش:
1 - ورد مرة اخرى اسم ياجوج وماجوج في (الأنبياء: 96-97).
2 - الفن القصصي في القرآن الكريم- محمد احمد خلف الله – ص 152 .
3 - أغراض القصة في القرآن - سيد قطب - ناشر الموضوع : Muslim – شبكة الانترنيت- بتصرف.
4 - إشكاليَّة تأويل القرآن- قديمًا وحديثًا - نصر حامد ابو زيد. وانظر كذلك: الفن القصصي في القرآن الكريم- ص200.
5 – راجع كتابنا : تجليات الاسطورة - قصة يوسف بين النص الاسطوري والنص الديني.
6 - وكما يستنتح ابو نصر من كلام الشيخ عبدة (تفسير المنار) والدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي) من ان ورود اغلب الحوادث التاريحية وايضا القصص القرآني ليس معناه ((دليل على صحتها التاريخية بقدر ما هو دليل على وجودها في وعي المخاطَبين بالقرآن وفي ضمائرهم)). - إشكاليَّة تأويل القرآن- قديمًا وحديثًا- نصر حامد ابو زيد - ص36 .
- ناقشنا هذا الامر في كتابنا :تجليات الاسطورة – قصة يوسف بين النص الاسطوري والنص الديني – 2009 .
7 - الفن القصصي في القران الكريم – ص 199.
8 - " الاسطورة في القرآن الكريم" دون ذكر اسم الكاتب ، موقع الذاكرة الالكتروني.
9 - لا يعني هذا اننا نطالب القرآن بتوضيح ذلك ، لانه قدم القصة – أي قصة – بصورة عامة و اجمالية للاسباب التي ذكرناها سالفا.
10- قصص الأنبياء - الجزائري. – انه رجم بالغيب – والامام حاشاه - من ذلك.
11- قصص الأنبياء - الجزائري - ص 167 – 172.
12 - من مقال للدكتور عبد المنعم النمر بمجلة العربي العدد 184 - http://en.wikipedia.org/wiki/Cyrus_the_Great.
13 – نقد الفكر الديني – صادق جلال العظم – دار الطليعة بيروت – ط9 – 2003.
***




















ملحق:
ولزيادة الفائدة نضع امام القاريء ملحقا للرد الذي كتبه د. كامل النجار على كتاب سبيط النيلي المذكور في هذه الدراسة وقد نشره على احدى المواقع الالكترونية .
((من وقت لآخر يطلع علينا بعض الكُتّاب بمقال مطوّل في موقع " كتابات " نحتار في فهم ما يرمي إليه الكاتب من نشر المقال. فمثلاً قرأت في " كتابات " مقالاً بتاريخ 29 تموز ( يوليو ) 2005 بعنوان " ياجوج وماجوج ورحلة ذي القرنين الفضائية " من إعداد كوثر المطوق. وبعد أن قرأت المقال سألت نفسي: هل القصد من هذا المقال إقناع المسلمين بعظمة القرآن، وهم أصلاً مؤمنين بأن القرآن من عند الله ولم يفرط الله في الكتاب من شئ، أم الغرض إقناع غير المسلمين به ؟ وصراحة لا أرى للموضوع أي فائدة محسوسة، فالمسلم لن يزيد إسلاماً وغير المسلم لن تقنعه مثل هذه الخطرفة بأن يُسلم. فكل محاولات الكاتب لإقحام العلم في رحلة ياجوج وماجوح محاولات سوف تبوء بالفشل لأنها مبنية على أخطاء علمية سوف أوضحها بالترتيب.
بدأ المقال بمقدمة معقولة عن تفسير مفسري القرآن لقصة ياجوج وماجوج: " قال بعض المفسرين لقصة ياجوج وماجوج :ان السد الذي بناه ذو القرنين كان في أذربيجان ، ولم يعثر احد في تلك المنطقة على ذلك السد !وقالوا أيضاً ربما يكون سور الصين هو ذلك السد ، علما ان سور الصين بني من حجر والسد المذكور في القرآن من الحديد والنحاس ...واعتقد البعض الآخر ان ياجوج وماجوج هم سكان الصين. " ثم انتقل المقال إلى شبه العلم أو Pseudo science كما يقول الإنكليز، فقال: " بالرغم من ان صفتهم ( ياجوج وماجوج ) في المأثور النبوي لا تشبه صفة بني الإنسان على أرضنا من قريب أو بعيد ". ثم استمر فقال: " يقول الإمام علي (ع)كل البشر ولد آدم ، الا يأجوج وماجوج )، هذه العبارة تكفي بمفردها لتؤكد ان رحلة ذي القرنين لم تكن أبداً رحلة أرضية .. بل كانت رحلة كونية انتقل فيها من كوكب إلى كوكب لغاية إلهية غالبا ما يقوم بها المصطفون (ع)تمهيدا للطور المهدوي .لان الطور المهدوي طور كوني ولا يقتصر على الأرض وسكانها."
ونفهم من هذا الطرح أن ياجوج وماجوج وقومهم بشر لكنهم ليسوا من بني آدم لأن الحديث المنسوب للإمام عليّ يقول " كل البشر ولد آدم ، الا يأجوج وماجوج " ونحن نعرف أن الحرف " إلا " حرف استثناء، يستثني البعض من الكل. فإذاً ياجوج وماجوج وقومهم بشر لكنهم لم يأتوا من آدم وحواء. فمن أين أتوا؟ القرآن يقول عندما يخاطب البشر " وخلقناكم من ذكر وأنثى " يعني آدم وحواء. فياجوج وماجوج إذا كانوا بشراً فلا بد أنهم أتوا من آدم وحواء، وإلا يكون القرآن قد أخطأ. وإذا لم يكونوا بشراً فلا بد أنهم من الجن، فكيف يسخر الله عباده المصطفين ليخدموا الجن ويبنوا لهم سدوداً، فالكاتب يقول: " بل كانت رحلة كونية انتقل فيها من كوكب إلى كوكب لغاية إلهية غالبا ما يقوم بها المصطفون ".
ويسأل الكاتب: " ما هي الدلائل على فضائية الرحلة وان يأجوج وماجوج ليسوا من سكان الأرض ؟ " ويجيب بالآتي: " أولاً من الأسلوب القرآني في سرد أحداث القصة فلم يذكر القرآن الكريم سفرة أو رحلة بعبارة (ثم اتبع سببا )، فهذه العبارة وحدها تدل على السفر في الفضاء الخارجي حيث استخدم هذا اللفظ في ثماني موارد :أربعة منها في سرد قصتنا وثلاثة اخرى هي : (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب ، أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى )(غافر 36 ) و(من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ )(الحج 15) و (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب )(ص 10) فهذه الموارد واضحة في معنى الارتقاء إلى الفضاء ..."
وهذا هو ليّ عنق الكلمات الذي يتحدثون عنه. فيجب على الكاتب أن يسأل نفسه: أرسل الله موسى إلى فرعون عندما كان المصريون في درجة من التقدم والرقي سمحت لهم ببناء الأهرامات وإجادة التحنيط والطب، ومع ذلك اختار الله لإقناعهم وسائل بسيطة مثل العصا التي انقلبت ثعباناً، وشق البحر عندما ضربه موسى بعصاه، ثم لما بعث عيسى في فلسطين التي كانت تحت الحكم الروماني وكانت قد وصلت مرحلة متقدمة نسبياً بمقاييس تلك الحقبة، اختار الله أن يقنع الناس بإعطاء عيسى آيات بينات مثل إحياء الموتى وعلاج البرص وغيره، فلماذا إذاً أختار الله أن يخاطب أجهل أمة في العالم في ذلك الوقت بلغة الطلاسم ليقنعهم بأن القرآن من عنده. لماذا استعمل كلمة عربية بسيطة مثل " سببا " التي تعني " حبل " حسب تفسير ابن كثير وتفسير الجلالين، ليرمز إلى رحلة فضائية يقوم بها ذو القرنين الذي مكّن الله له في الأرض وجعله ملِكاً وسخر له كل شئ: " إنّا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شئ سببا فاتبع سببا " ( الكهف 85). فبدل أن يقول " اتبع سببا " ليخبر العرب البدو عن رحلة الفضاء، لماذا لم يقل لهم " وعرج في السماء " أو " سافر في الفضاء " ؟ فالله عندما أراد أن يتحدث عن الفضاء لم يتحدث بلغة الطلاسم وإنما قال: " يآيها الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ". فالقرآن هنا واضح فيما يريد أن يقول، فقال أنفذوا من أقطار السموات والأرض. ويجب ألا ننسى أن القرآن نزل بلسان عربي مبين. وعلى كلٍ دعونا نستعرض تفسير المفسرين للكلمات " سببا وأسباب ". يقول تفسير الجلالين " سبباً يعني طريقاً يوصله إلى المراد " وقال مجاهد " السبب: وصلة. وأصل السبب الحبل يُشد بالشئ فيجذبه. ثم جعل كل ما جر شيئاً سبباً " ويقول ابن كثير " تقطعت بهم الأسباب أي الحيل. قال عطاء عن ابن عباس: الأسباب تعني المودة التي كانت بينهم في الدنيا" . ويقول تفسير الجلالن " فليمدد بسبب إلى السماء: بحبل إلى السماء". وكذلك قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: الأسباب تعني طُرق السماء ". وقال الشاعر زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم
وواضح من قول الشاعر أن أسباب تعني طُرق و أسباب السماء تعني طُرق السماء، وأسباب المنايا لا تعني الفضاء الخارجي للمنايا. فعندما قالت الآية عن ذي القرنين " ثم اتبع سببا " فقد عنى: اتبع طريقاً. ولم يقل سبباً في السماء حتى نقول أنه قصد طريقاً في السماء. فلا أدري من أين أتوا بفكرة أن الرحلة كانت في الفضاء لأن الله قال " واتبع سببا "؟
رحلة ذي القرنين:
يقول كاتب المقال: " يقول عز وجل (حتى اذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين اما ان تعذب واما ان تتخذ فيهم حسنا)(الكهف 86). يقول العلامة سبيط النيلي رحمه الله لقد تحرك ذو القرنين باتجاه الشمس لحظة غروبها -إذن فهو متجه نحو مدار الزهرة -وفي كل سنة تمر الزهرة بهذا المدار حيث تصبح مع الأرض في جهة واحدة.ووصل عند الغروب إلى الزهرة لأنه لا يستغرق وقتا يذكر)."
فنفهم من قول العلامة سبيط النيلي أن ذا القرنين كان على الأرض ثم تحرك قبل غروب الشمس غرباً ليصل إلى مغربها. ولكن استنتاج العلامة استنتاج في غاية الغرابة. فذو القرنين اتجه غرباً فكيف يكون متجهاً نحو مدار الزهرة، والمدار عبارة عن دائرة حول الشمس. فالشمس هي المركز، حولها دائرة عطارد Mercury وخارجها دائرة الزهرة Venus ثم خارج ذلك دائرة ثالثة وهي مدار الأرض. فإذا خرج ذو القرنين من الأرض متجهاً غرباً نحو مغيب الشمس فلن يصل إلى مدار الزهرة حتى لو سافر غرباً مدى الحياة.
وقول العلامة سبيط " وفي كل سنة تمر الزهرة بهذا المدار حيث تصبح مع الأرض في جهة واحدة. ووصل عند الغروب إلى الزهرة لأنه لا يستغرق وقتا يذكر." قول غريب كذلك لأن وصول ذي القرنين إلى الزهرة لا علاقة له بمغيب الشمس لأن الشمس لا تغيب في الزهرة في نفس اليوم أو الوقت الذي تغيب فيه في الأرض.
ثم انتقل الكاتب إلى الشموس الأخرى والكواكب واستدل بالحديث: " بحار الأنوار عن الصادق (ع) ان من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس)." وهذا قولٌ خطأ، إذ أن المجرة التي تحتوي على شمسنا تحتوي على مليارات النجوم التي هي شموس، بعضها أكبر من شمسنا بعدة مرات، ولكن لبعدها عنا نراها صغيرة. فالشموس ليست أربعين ولا أربعمائة، بل تفوق ذلك. وهناك مجرات أخرى غير مجرتنا هذه. فواضح أن القول عن أربعين شمساً أخرى قول خاطئ. ثم انتقل الكاتب ليتحدث عن المهدي، فقال: " في البشارة في علامات المهدي (ع)عنهم (ع) وبدنا بارزا نحو عين الشمس)." فشرح العبارة " عين الشمس " بقوله: " اما في اللغة فلها عدة معاني لكن الأصل هو :الشيء المكور بذاته والواضح وضوحا كافيا لذا سميت كرة الأبصار عينا وكرة الماء المتدفق ذاتيا من الأرض عينا .. اما كلمة (حمئة)فواضح انها تشير إلى ارتفاع درجة حرارة كوكب الزهرة والتي تبلغ 1.. درجة مئوية.كما انها شديدة اللمعان في السماء "
ومرة أخرى يتلاعب الكاتب باللغة العربية، فكلمة " عين " لا تعني شيئاً مكوراً، كما قال. فكلمة عين كما استعملها العرب وقت نزول القرآن كانت تعني: جاسوس، وحارس، وأداة النظر، وينبوع الماء، وكذلك نقداً، فنقول: بعته عيناً أي بالنقد. وكانت العرب تقول: ما بها عين، أي ما بها أحد. و نقول عين الشمس، ونعني قرصها، ونقول عين العاصفة، ونعني وسطها. فليس في كل هذه الاستعمالات ما يدل على التكور الذي قال به الكاتب. وإذا أردنا كرة العين فنقول: مقلة العين ( القاموس المحيط ).
وقوله: " اما كلمة (حمئة)فواضح انها تشير إلى ارتفاع درجة حرارة كوكب الزهرة والتي تبلغ 1.. درجة مئوية.كما انها شديدة اللمعان في السماء " قول مغلوط كذلك. لسان العرب يقول: " الحمأة: الطين الأسود المنتن، كما في القرآن " حمأٍ مسنون "، وحمئت البئر: إذا صارت فيها الحمأة. وحمئ الماء: خالطته الحمأة. وعين حمئة: ماء فيه حمأة أي طين أسود. ولكن ابن مسعود قرأ " عين حامية " وفي هذه الحالة تعني عين حارة. وقد أورد ابن الأثير في كتاب ( النهاية في غريب الحديث والأثر ) شعراً من شعر تُبّع، قبل الإسلام، يقول:
فرأى مغار الشمس عند غروبها في عين ذي خُلبٍ وثاطٍ حَرمدِ
والحرمد: طين أسود شديد السواد. فربما أخذت الآية من هذا الشعر
أما كوكب الزهرة فهو فعلاً كوكب حار ودرجة حرارته تبلغ 482 درجة مئوية ( 900درجة فهرنهايت) وليس مائة كما قال الكاتب. وهذه الحرارة كافية لإذابة معدن الرصاص.
ثم انتقل الكاتب إلى الحديث عن كوكب الزهرة فقال: " وهناك دليل آخر يقول العلماء ان كوكب الزهرة تكتنفه الغيوم الكثيفة مما يجعل سطح الكوكب مظلما وورد ذكر هذه الظلمة في النصوص التالية: الجزائري في قصص الأنبياء عن علي (ع) قال ذو القرنين اني أريد ان اسلك هذه الظلمة ... قالوا انك تطلب أمراً ما طلبه احد قبلك من الأنبياء والمرسلين ...قال لابد لي من ذلك). فحينما تكون الزهرة في منطقة قريبة من الأرض ينطلق ذو القرنين فيصل بطبيعة الحال إلى الجزء المظلم منها .(لاحظ الرسم أدناه)".
وكوكب الزهرة فعلاً تكتنفه غيوم كثيفة تتكون من غازات حامض الكبريت وهواؤه عبارة عن ثاني أوكسيد الكربون وليس به ماء على الإطلاق. والضغط الهوائي على سطحة يعادل 92 مرة الضغط الهوائي على الأرض عند سطح البحر. كل هذه العوامل جعلت الكوكب مظلماً وغير مناسب لحياة الحيوان أو النبات. حتى المركبات الفضائية تآكلت وتحطمت قبل أن تهبط على سطحه. فقد أرسل الاتحاد السوفيتي المركبة " البحار2 " Mariner 2 في عام 1962 فلم تتمكن من أن تحط على سطحه، ثم أرسلوا حوالي 20 مركبة أخرى قبل أن تستطيع إحداهم Venera 7 من الهبوط عليه. ثم أرسل الأمريكان Pioneer Venus في عام 1984 فحطت عليه.
فقول الكاتب: " فحينما تكون الزهرة في منطقة قريبة من الأرض ينطلق ذو القرنين فيصل بطبيعة الحال إلى الجزء المظلم منها " قولٌ تعوزه الحقائق. فكوكب الزهرة كله مظلم، كما قلنا بسبب الغيوم، ثم أن ليلها يعادل 243 يوماً من أيام الأرض لأنها تدور ببطء شديد، فالجزء المظلم منها يكون مظلماً ما يقارب عاماً من أيامنا. ولكن المشكلة بالنسبة للكاتب هي أن الزهرة لا تأتي بين الشمس والأرض، فتكون أقرب إلى الأرض إلا نادراً، فآخر مرة حدث هذا كان في عام 1882 ميلادية، ومتوقع أن تحدث مرة أخرى في عام 2012 والذي بعدها في عام 2117م. فعليه يكون ذو القرنين قد انتظر عدة مئات من السنين حتى تكون الزهرة بين الشمس والأرض، فيطير إليها في زمن وجيز وينزل على كوكب مظلم يستمر ظلامه حوالي 243 يوماً ثم يأتي النهار الذي تحجبه غيوم حامض الكبريت فيصبح كالليل. والغريب أن ذا القرنين الذي بعثه الله في رحلة فضائية فاقت في سرعتها وديمومتها الإسراء المحمدي، وصل إلى كوكب الزهرة ووجد بها قوماً في طور من التحضر يشابه سكان الأرض: " (ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ). اي وجد فيها قوما (بطور يقرب طور الأرض )فخيره الله تعالى بين ان يعاقب أو ان يقنعهم بالإحسان فاختار الجمع بين الطريقتين . (قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا .وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ). وقوله سوف نعذبه يدل على انه وضع لهم قوانين وأنظمة وعقوبات وافهمهم أم الدين وعين لهم مرشدين وهذا يدل على انه لم يكن مسافرا لوحده كما انه بقي عندهم مدة كافية وكذلك يدل على الغاية من الرحلة وهي إعداد أقوام الكواكب الأخرى للطور المهدوي ." انتهى
وهؤلاء الناس الذين كانوا في طور حضاري يشبه ما كان عليه سكان الأرض، استطاعوا أن يعيشوا على كوكب ليس به ماء، وحرارته تذيب الرصاص وليس به أوكسجين إذ أن 98 بالمائة من هوائه عبارة عن ثاني أوكسيد الكربون، وضغط الهواء به يعادل 92 مرة ضغط الهواء على الأرض، ألا يستحق من عاش في مثل هذه الأوضاع أن يدخل الجنة دون حساب ؟ و نحن نعلم أن الله لم يرسل الله لهم رسولاً قبل ذلك، ولكنه اختار أن يعطي ذا القرنين خيارين: أما أن يعذبهم أو يحسن إليهم. لماذا يعذبهم وهم قد التقوا ذا القرنين لتوهم ؟ وذو القرنين عصى الله ولم يتبع أحد الخيارين الذين أعطاه الله إياهما، بل فضل الجمع بينهما، فقال: أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا .وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ". فذو القرنين سوف يعذب بعضهم ثم يردهم إلى الله فيعذبهم كذلك عذاباً نكراً. ما هو الذنب الذي اقترفوه حتى يُعذبوا مرتين ؟
ثم يقول الكاتب: " وقد يقال:إذا بقى مدة طويلة فلا بد ان الشمس طلعت عليه عدة مرات مما يخالف المنقول عن القصة ؟
والجواب كلا لم تطلع عليه الشمس لسبب بسيط هو ان كوكب الزهرة يومها طويل جدا فهي الكوكب الوحيد من كواكب السيارة التي يومها أطول من سنتها...حيث يبلغ يومها 247 يوما من أيام الأرض.وهذا يفسر بقاءه في الظلمة لعدة أيام مواصلا السير كما في هذا النص : الجزائري في قصصه عن علي (ع) سار ذو القرنين في الظلمة ثمانية أيام وثمانية ليال ومعه أصحابه). ومن الواضح طبعا ان الإمام عليه السلام يقصد ثمانية أيام من أيام الأرض وليست من أيام الزهرة بطبيعة الحال. " انتهى
وكوكب الزهرة نسبةً إلى دورانه البطيئ حول نفسه لا يكمل الدورة حول نفسه إلا في 243 يوماً من أيامنا، ويعتبر هذا يوماً واحداً في الزهرة، بينما يدور حول الشمس في 225 يوماً، وعليه يكون يومه أطول من سنته. ولذلك يكون ليله 243 يوما من أيامناً، فكيف سار ذو القرنين ومن معه في الظلمة ثمانية أيام وثمانية ليالي من أيامنا على الأرض ثم خرج من الظلمة، والكوكب كله مظلم ؟
المرحلة الثانية
وصلنا في المرحلة السابقة إلى وصول ذي القرنين إلى كوكب الزهرة، ولا ندري كيف وصل إليها من الأرض وهو متجهاً غرباً نحو مغرب الشمس، ولكنه وصل وعذّب بعض من بها من القوم. ويستمر كاتب المقال في سرده فيقول: " (ثم اتبع سببا . حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا )(الكهف 89,90). انطلق أيضاً بسرعة فائقة لكن هذه المرة باتجاه مطلع الشمس ...ولان كوكب الزهرة هو الوحيد من بين الكواكب السيارة التي تدور حول نفسها من الشرق إلى الغرب ، أي انه إذا انطلق نحو مغيب الشمس كما في المرة السابقة فسوف يرجع إلى الأرض بينما يريد هو الانطلاق إلى كوكب آخر وهو عطارد ...لذلك انطلق نحو الشرق (مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ). انتهى
ففي المرحلة الثانية أراد ذو القرنين أن يترك كوكب الزهرة ويتجه إلى مشرق الشمس. وبما أن الزهرة تدور من الشرق إلى الغرب، فإن شمسها تشرق في الغرب وتغيب في الشرق. ولذلك إذا أراد ذو القرنين مطلع الشمس وهو بالزهرة، عليه أن يتجه غرباً. وبما أن مدار الزهرة خارج مدار عطارد، فلذي القرنين فرصة واحدة فقط للوصول إلى عطارد، وهي أن يسافر من الزهرة عندما تكون الزهرة في موقع الساعة الثالثة من مدارها، لأن ذا القرنين متجهاً غرباً. وعندما وصل ذو القرنين إلى عطارد، وجد قوماً لم يجعل الله لهم من الشمس ستراً. ولا ندري أي ستر جعل لسكان الزهرة التي وصفنا حالة المناخ فيها.
ثم يستمر الكاتب فيقول: " فوجد قوم يمرون بطور بدائي يشبه الطور الذي مرت به الأرض قبل الزراعة وبناء المساكن فوجدهم شبه عراة ليسوا من العلم بشيء ". انتهى.
وإذا تفكرنا في المناخ على سطح عطارد، أقرب الكواكب إلى الشمس، لاتضح لنا عدم مصداقية هذا القول. فعطارد يبعد عن الشمس 58 مليون كيلومتراً، أي ثلث المسافة بين الأرض والشمس، ودرجة الحرارة في الوجه المقابل للشمس 427 درجة مئوية وفي النصف الآخر 183 درجة مئوية تحت الصفر. وهذه البرودة كافية لتجمد أي سائل فلا يمكن للإنسان أو الحيوان أن يعيش فيها، خاصةّ إذا عرفنا أن القوم بدائيين وأن الله لم يجعل لهم ستراً، أي ليس لديهم منازل، كما قال الكاتب. أما في الوجه المقابل للشمس فإن الحرارة كافية لتذيب أجسامهم. والكوكب كذلك ليس به ماء. فكيف عاش هؤلاء القوم البسطاء؟
المرحلة الثالثة
واستمر الكاتب في تتبع رحلة ذي القرنين فقال: " (ثم اتبع سببا . حتى إذا بلغ بين السدين)، سار ذو القرنين بنفس الاتجاه -نحو الكواكب الداخلية أي باتجاه الشمس -والمشرق والمغرب أمر يخص الكرات الأرضية وهو لا علاقة له بذلك ولذا لم يذكر القران هذه المرة المغرب والمطلع لانه حدد لنا اتجاهه (بنقطتين يمكن رسم مستقيم بينهما)، فلا ضرورة لكلام زائد ." انتهى
فبعد أن وصل ذو القرنين كوكب عطارد، فإذا سار شرقاً فسوف يصل الشمس ويذوب، وإذا سار غرباً فسوف يرجع إلى الزهرة، إلا إذا سار غرباً وعطارد كان في موقع الساعة الثالثة من مداره، فإنه سوف يسير نحو الشمس، وهذا ما أراده الكاتب عندما قال: " سار ذو القرنين بنفس الاتجاه -نحو الكواكب الداخلية أي باتجاه الشمس ". ثم قال الكاتب إن القرآن حدد لنا مسار ذي القرنين بنقطتين يمكن الوصل بينهما بخط. فأي نقطتين يقصد ؟ هل يقصد الشرق والغرب الذي إذا رسمناه في كل كوكب فلن تتقابل الخطوط لأن الكواكب تكون في أماكن مختلفة من مداراتها ؟ أم يقصد الشرق والغرب بالنسبة لكل مجرتنا الشمسية ؟ ففي هذه الحالة لا يمكن رسم خط بينهما لأن المجرة غير محدودة حتى نرسم خطاً بين شرقها وغربها. المهم أن ذا القرنين سائر في اتجاه الشمس، مع العلم أن عطارد هو أقرب الكواكب المعروفة إلى الشمس، فليس بعده كوكب.
ذو القرنين وبناء السد
وهنا تفنن الكاتب فقال: " (حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ). يقول العلامة النيلي : (هؤلاء درجة تطورهم أدنى من القوم السابقين وهم مساكين لا يحسنون حتى التعبير. فجعل تخلف اللغة دليلا على تدني معارفهم وهو أدق المقاييس إطلاقاً .لم يعرف القوم من هو ذو القرنين ، لذلك عرضوا عليه مطلبهم بسذاجة لمجرد انهم رأوه ). انتهى
ولا القرآن ولا كاتب المقال ولا العلامة النيلي أخبرنا أين هذا الموقع بين السدين الذي يعيش فيه قوم بسطاء لا يعرفون حتى الكلام. وهؤلاء القوم البسطاء الذين لا يحسنون الكلام، رؤوا ذا القرنين فلم يعرفوه ولكن رغم ذلك طلبوا منه أن يبني لهم سداً يقيهم من هجوم ياجوج وماجوج. كيف يا ترى شرحوا لذي القرنين مطلبهم وهم لا يجيدون حتى التخاطب بينهم. وكيف اتفقوا فيما بينهم أن السد هو أفضل وسيلة تقيهم شر ياجوج وماجوج؟ تذكرت، وأنا أقرأ هذه القصة، قصة " جلفر في بلاد الأقزام ". والغريب أن القرآن يقول عن هؤلاء البسطاء: " قالوا ياذا القرنين إن ياجوج وماجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدا " ( الكهف 94). فيبدو أنهم عرفوا ذا القرنين، على عكس ما يقول العلامة النيلي. ثم أنهم قالوا له إن ياجوج وماجوج مفسدون في الأرض، فهم أرادوا السد لأن ياجوج وماجوج مفسدون في الأرض، ولا بد أن مفهومهم للفساد في الأرض هو نفس مفهوم الإسلام للفساد، فهم لا بد أنهم عرفوا أن ذا القرنين رجلٌ صالح لا يحب الفساد في الأرض. ثم أنهم عرضوا عليه أجراً ليبني لهم السد، فلا بد أنهم كانوا يعرفون النقود والأجر وكانوا يبيعون ويشترون فيما بينهم. فهل هم فعلاً قوم بسطاء ؟ وكيف تفاهموا مع ذي القرنين وعرضوا عليه أجراً ليبني لهم السد وهم لا يحسنون التخاطب ؟
ثم استمر الكاتب في محاولة يائسة لتوضيح مكان سكن هؤلاء القوم البسطاء، فقال: " وبناءا على افتراضنا السابق فان هؤلاء القوم يعيشون في قمر صغير نسبيا يقع بين كوكبين في نقطة تعادل الجاذبية(بلغ بين السدين )، لان السد في التعبير القرآني هو الحاجز المانع عن الحركة وغير المرئي حيث استخدم ثلاث مرات فقط في القرآن الكريم ...مرتان هنا ومرة في سورة يس (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون )، وهذا المورد يفك رموز الموردين السابقين في قصتنا " انتهى
لا أدري كيف قرر الكاتب أنهم يعيشون في قمر صغير بين كوكبين. وذو القرنين كان قد ترك عطارد في طريقه إلى الشمس، وبذا ترك كل الكواكب المعروفة لنا خلفه، فاحتمال وجود أقمار صغيرة بالقرب من الشمس احتمال ضعيف. فلماذا لا يكون هؤلاء القوم في كوكب آخر ؟ وما ذا يقصد من قوله : قمر صغير بين كوكبين في نقطة تعادل الجاذبية ؟ فكل كوكب حوله أقمار عديدة تمسك بها جاذبيته، ما عدا الكوكب عطارد الذي ليس له أقمار. وبدهاء عظيم سمى الكاتب المكان الذي يعيش فيه هؤلاء البسطاء " نقطة تعادل الجاذبية " بين السدين. فليس هناك نقطة تعادل للجاذبية، فالجاذبية في أي كوكب تنقص وتتلاشى تدريجيا كلما ابتعدنا عن الكوكب حتى تنعدم بالمرة، وهذا ما يحدث لرواد الفضاء الذين يسافرون من الأرض، فإذا خرجوا من فضاء الأرض انعدمت الجاذبية وأمكنهم السباحة في هواء مركبتهم بعد أن تخلصوا من جاذبية الأرض وما زالوا بعيدين عن جاذبية القمر. وجاذبية القمر تعادل حوالي خمس جاذبية الأرض. فأين هذه النقطة التي تتعادل فيها الجاذبية بين الأرض والقمر؟ فليس هناك نقطة تعادل جاذبية بين الكواكب
واستمر الكاتب في محاولاته الالتفاف حول الحقيقة فقال: " بينما يعيش قوم يأجوج وماجوج في الكوكب الصغير القريب من الشمس وهذا الكوكب ذو مجال مغناطيسي شديد الوطأة (حيث تتساوى كثافته مع كثافة الأرض مع الفارق الكبير في الحجم)." انتهى
غريب أن يقرر الكاتب أن قوم ياجوج وماجوج يعيشون في كوكب صغير قرب الشمس، ومغناطيسيته تعادل مغناطيسية الأرض، ولا يسمي لنا هذا الكوكب الصغير. وأقرب كوكب للشمس معروف لنا هو كوكب عطارد، فكيف عرف الكاتب عن هذا الكوكب الصغير وعن مقدار مغناطيسيته؟
ويستمر الكاتب فيقول: " ومن هنا نستطيع القول ان هذا الكوكب كانت فيه الخطوط المغناطيسية تخرج من القطب الشمالي وتمتد إلى القطب الجنوبي للكوكب وفي القطب بالذات ينعدم تأثير القوة المغناطيسية وهذا هو المنفذ الوحيد لخروج ياجوج وماجوج ويؤيد ذلك طبيعتهم القائمة على سرعة الحركة وكما في البحث اللغوي التالي في اصل اسم ياجوج وماجوج :" انتهى
ويبدو أن هذا الكوكب لا يختلف عن الأرض إطلاقاً، فمغناطيسيته تساوي مغنطيسية الأرض، وتخرج هذه المغنطيسية من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، وتنعدم المغنطيسية في القطب. ولكن لا نفهم لماذا يكون القطب هو المنفذ الوحيد لقوم ياجوج وماجوج، ونحن نستطيع أن ننفذ من الأرض في أي مكان شئنا، ومغنطيسية الأرض تساوي مغنطيسية هذا الكوكب المزعوم.
معنى كلمة ياجوج وماجوج
ثم عرّج الكاتب على معنى الاسمين: ياجوج وماجوج، فقال:
" البيضاوي في أنوار التنـزيل وأسرار التأويل في ياجوج وماجوج قال وقيل انهما من الترك وقيل انهما اسمان أعجميان بدلالة منع الصرف ، ولكن الله عز وجل يقول في محكم كتابه ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد).اذن ليس في القرآن ما هو أعجمي. اما اسم ياجوج فمشتق من (أج)أي أسرع وماجوج من (مج)اي تحدر أو انسل اي ان الأج والمج يعني المسرع والمنسل خفية ، وفي القاموس (أج اذا سرع)." انتهى
والتلاعب بمعاني الكلمات لا يخدم غرضاً، فالبيضاوي أصاب الحقيقة عندما قال إن الكلمتين أعجميتان، فالأصل مأخوذ من التلمود الذي يذكر " جوج " و " ماجوج "Gog and Magog . فتغيرت الكلمة الأولى في القرآن إلى " ياجوج ". أما الادعاء بأن الكلمة مشتقة من " أج " بمعنى " أسرع " فضحك على العقول. لأن تصريف كلمة " أج " يكون: أج،، يئج، أجاً ومأجوجاً وأجاجاً وليس ياجوجاً كما يحاول أن يوهمنا الكاتب. وكلمة " ماجوج " ليست من " مجّ " لأن تصريف مجّ يكون: مجّ، يمجُ مجاً ومجوجاً ومجاجاً، وليس ماجوجاً. ولسان العرب يقول في تعريف كلمة " أج " ما يلي: أجّ الرجلُ يئج أجيجاً: صوّت. الأج: الإسراع. والأجيج والأجاج شدة الحر. وماء أجاج: مالح. وجاء في الحديث: " إن الخلق عشرة أجزاء تسعة منها ياجوج وماجوج، وهما اسمان أعجميان، واشتقاق مثلهما من كلام العرب يخرج من أجّت النار ومن الماء الأجاج ". ويقول عن مجّ ما يلي: مجّ الشراب والشئ من فيه يمجه مجاً ومج به: رماه. وقال الشاعر يصف رجلاً مصاباً بداء الكلب:
يدعو ببرد الماء وهو بلاؤه وإنْ ما سقوه الماء مجّ وغرغرا
ومجّ بريقه: إذا لفظه. وفي حديث محمود بن الربيع: " عقلتُ من رسول الله (ص) مجّةً مجها في بئرٍ لنا ". والقاموس المحيط يقول: مجّ الماء من فيه: رماه. ومجاج النحل: العسل. وعندما جُرح النبي في غزوة أحُد ومصَّ مالك أبو أبى سَعِيدٍ الخُدْرىّ جرحَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى أنقاهُ، قال له: (( مُجَّهُ )) ( يعني الدم) قال: واللهِ لا أَمُجُّهُ أبداً، ثم أدبر، فقال النبى (ص): (( مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ منْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إلَى هذَا )). فلم أجد في أي قاموس أن مجّ تعني تحدر أو انسل، كما ذكر الكاتب.
وقول الكاتب " ليس في القرآن ما هو أعجمي " قول جافى الحقيقة، فالقرآن ملئ بالكلمات الأعجمية مثل " تابوت " و " جهنم " و " الأحبار " و " المثاني " و " زقوم " و " سلسبيل " وغيرها كثير. والقرآن نفسه يقول: " أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء " وهذا يعني أن القرآن بما فيه من الأعجمي والعربي، شفاء للذين يؤمنون به. ولذلك استعمل القرآن حرف العطف " و " ليعطف العربي إلى الأعجمي، أي جمعهما مع بعض، ولم يستعمل حرف العطف " أو " الذي يفيد التخيير أو التقسيم، ليفصل بينهما.
إغلاق الفجوة المغناطيسية:
ثم عاد الكاتب إلى حيلة التلاعب بالكلمات فقال: " ونعود لما قام به ذو القرنين فقد صحح طلب القوم لغويا فهم أرادوا سدا وهو اخبرهم بأنه سيجعل بينهم ردما!!! (قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما). والفرق واضح بينهما ، فالسد ولو كان غير مرئي ولكنه يشير في الخيال إلى ارتفاع طولي بينما الردم هو إغلاق فتحة ، وهذا بالضبط ما قام به ذو القرنين فقد ردم الفجوة المغناطيسية في الكوكب بان صنع مغناطيس عظيم في قطبه ... حيث قام ببناء مغناطيس شديد الفيض لتوصيل الفيض بين الصدفين " انتهى
يبدأ الكاتب بأن يقول صحح ذو القرنين لغة القوم وبنى لهم ردماً بدل السد. فكيف يصحح ذو القرنين لغة قوم لا يكادون يفقهون القول ولغتهم بدائية جداً. فقالوا لذي القرنين ابني لنا سداً، فقال لهم سأبني لكم ردماً لأن السد يختلف عن الردم. فهل من الممكن عقلاً أن يخاطب ذو القرنين قوماً بسطاء بمثل هذا المنطق ؟ ثم شطح الكاتب في تعريف السد باللغة القرآنية فقال: " فالسد ولو كان غير مرئي ولكنه يشير في الخيال إلى ارتفاع طولي بينما الردم هو إغلاق فتحة ". بينما يقول لسان العرب: " السد: إغلاق الخلل وردم الثلم. والسد: مصدر قولك سددت الشئ سداً. والسد: الجبل الحاجز. والسد: الردم والجبل، ومنه سد الروحاء وسد الصهباء وهما موضعان بين مكة والمدينة ". ويقول مختار الصحاح لأبي بكر الرازي: " ردم: ردم الثلمة سدها والردم أيضاً الاسم وهو السد. والسد: بالفتح هو الجبل الحاجز وقال بعضهم بالضم، من صنع الله وبالفتح من عمل بني آدم ". أما القاموس المحيط للفيروزآبادي فيقول: " السد: الجبل والحاجز، وبالضم مخلوقاً لله وبالفتح من فعلنا. وبالضم: السحاب الأسود. وسدود الوادي: حجارة وصخور تبقي الماء فيه زماناً ". فليس في اللغة العربية ما يقول إن السد غير مرئي وليس هناك ما يقول إن السد ذو ارتفاع طولي، فقد كان سد مأرب أطول أفقياً أكثر من طوله عمودياً، وكان مرئياً لكل القوم، وكذلك السد العالي بمصر. وليس من المعقول أن يكون عرب ما قبل الإسلام يعرفون موضع سد الروحاء ويتكلمون عنه، ثم يجئ القرآن فيقول لهم إن السد غير مرئي. وليس هناك في اللغة فرق بين الردم والسد كما قال الكاتب.
ثم قال الكاتب إن ذا القرنين سد الفجوة المغنطيسية في الكوكب الذي يعيش فيه هؤلاء القوم البسطاء، فقال: " وهذا بالضبط ما قام به ذو القرنين فقد ردم الفجوة المغناطيسية في الكوكب بان صنع مغناطيس عظيم في قطبه " ولكنه قال لنا قبل ذلك: " فان هؤلاء القوم يعيشون في قمر صغير نسبيا يقع بين كوكبين في نقطة تعادل الجاذبية " . فمن أين أتت هذه الفجوة المغنطيسية في قمرهم الصغير الذي نراه قد تحول فجأة إلى كوكب ؟ ولماذا لم تحدث فجوة مغناطيسية في بقية الكواكب مثل الأرض ؟ ومن أين عرف العلامة النيلي أن هذا الكوكب المجهول به فجوة مغناطيسية ؟
صناعة المغانيط:
انتقل الكاتب إلى موضوع علمي بحت، هو صناعة المغنطيس، فقال: " سؤال علمي:كيف تصنع المغانيط الحديثة ؟
الجواب بناء على نظرية الدايبولات الحديثة تكون ذرة الحديد هي أفضل المواد الفيرو مغناطيسية لانها تحتوي على أربع الكترونات لا ازدواجية في الطبقة الثالثة متشابهة في اتجاه البرم .وتصنع المغانيط الحديثة من خليط الفيرات وهي عبارة عن اوكسيدات الحديد مخلوطة مع اوكسيدات مواد فيرومغناطيسية اخرى كالنحاس إذ يأتي بالدرجة الثانية بعد الحديد بالقابلية على التمغنط حيث تطحن او تقطع هذه المواد إلى قطع صغيرة او تضغط ثم تحرق بالنار فنحصل على مغانيط قوية ذات خصائص فريدة ). انتهى
وهنا يدخل الكاتب في متاهات علمية، أما عن قصد لخدمة ما يرمي إليه، وأما عن عدم إلمام بالموضوع. فقوله إن النحاس يأتي بالدرجة الثانية بعد الحديد بالقابلية على التمغنط، قول أقل ما يوصف به أنه قول باطل أريد به باطل. فالمواد تنقسم إلى ثلاثة أقسام بالنسبة لقبولها للمغنطة:
القسم الأول: المواد المحتوية على الكترونات أثنين Diamagnetic مثل الهيدروجين والأمونيا والنحاس والقرانيت، وهذه المواد يدفعها المغنطيس بعيداً عنه
القسم الثاني: Paramagnetic مثل الأوكسجين، الألومينيوم وكبريتات النحاس Copper sulphate ، وهذه المواد تنجذب إلى المغناطيس
القسم الثالث: المواد الفيروماغنطيسية مثل الحديد والنيكل والكوبالت والمانغنيز، والزنك، وهذه هي المواد التي تدخل في صناعة المغنطيس. ونلاحظ هنا أن النحاس ليس منها وهو أقل المواد مغنطسة. أما النحاس فإنه يُخلط مع الصفيح فيخرج منهما البرونز، وإذا خُلط مع الزنك يخرج منهما النحاس الأصفر Brass. وعندما يحرق النحاس بالنار فإنه يُعطي غازات حامض الكبريت السامة، فلو أحرق ذو القرنين كمية هائلة من النحاس ليصنع مغناطيساً يسد الفجوة في الكوكب المذكور، لاختنق جميع من بالكوكب من الغازات السامة.
ثم استمر الكاتب فقال: " لقد قام ذو القرنين بالعمل على هذا النحو تماما...(أأتوني زبر الحديد )، اي أأتوني بقطع الحديد المقطعة قطعا ، اي المسحوق سحقا وهذا هو سبب قوله (أعينوني بقوة )، فقد احتاج قوتهم لتقطيع الحديد لا لحمله لانه كما يبدو متوفرا بكثرة، ومن هنا يتضح بان قول المفسرين قطعا عظيمة من الحديد لا مؤيد له لأنهم اعتقدوا ان السد بني كما يبنى الجدار باستخدام قطع الحديد الكبيرة ورصت بالنحاس!!!" انتهى
ومرة أخرى يُحمّل الكاتب اللغة العربية ما لا تستطيع حمله، فهو يقول: " ...(أأتوني زبر الحديد )، اي أأتوني بقطع الحديد المقطعة قطعا، اي المسحوق سحقا " وتعالوا ننظر ما يقول لسان العرب عن الزَبْر. (الزبر: الحجارة. الزبر طئ البئر بالحجارة، يقال بئر مزبورة. ماله زبر: ماله رأي أو عقل. وأصل الزبر طئ البئر إذا طويت تماسكت واستحكمت. والزبر: الصبر، يقال: ماله زبر ولا صبر. والزبر: وضع البنيان بعضه على بعض. والزبر: الكتاب والجمع زبور مثل قِدر وقدور، ( وآتينا داود زبورا). والزبر: الاجتماع ويقال: زبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله.) فلا ندري من أين أتى الكاتب بالتعريف الذي يقول الزبر هو الحديد المسحوق. فابن كثير يقول في تفسير هذه الآية: " الزبر جمع زبرة وهي القطعة منه، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة هي كاللبنة، يقال كل لبنة زنتها قنطار بالدمشقي أو تزيد." وكذلك قوله: " فقد احتاج قوتهم لتقطيع الحديد لا لحمله لانه كما يبدو متوفرا بكثرة " قول غريب، فمن أين بدا له أن الحديد متوفر بكثرة في هذا الكوكب الذي لا يعرف عنه أي شئ سوى أنه قريب من الشمس. فالكاتب لا يعرف حتى اسم الكوكب، فكيف بدا له أن الحديد متوفر به. والحديد حتى لو كان متوفراً فهو لا يتوفر في شكل حديد خالص ولكنه يكون في الحجارة، ولا بد من عملية تعدين لاستخراجه من الحجر، ولذلك قالت العرب: الزبر هو الحجارة.
ثم استمر الكاتب في رحلته الخيالية فقال: " فهو يقول أأتوني القطع المقطعة من الحديد لأحرقها واخلطها بالنحاس واصنع منها اكاسيد تكون مغانيط فريدة ، ولكي لا يضطر لنقل المغناطيس العظيم فقد وضع الحديد بنفس المكان والشكل المطلوب بحيث يساوي في فيضه المغناطيسي بين الصدفين (للكوكب) ثم احرقه إحراقاً شديدا ثم رمى فيه النحاس ". فالحديد لا يخلط بالنحاس لصنع المغنطيس، وحتى لو فعل ذلك ذو القرنين بقوة إلهية، فكم من الحديد احتاج ليبني مغناطيساً بالحجم الذي يصفه الكاتب ليسد الفجوة المغنطيسية في الكوكب ؟ وحتى لو توفر له الحديد والعمال من القوم البسطاء الذين لا يجيدون الكلام، كيف أحرق هذه الكمية الهائلة من الحديد ؟ فالنار تحتاج إلى أوكسجين، وكل الكواكب المعروفة ليس بها أوكسجين. ثم من أين أتى بالحطب وليس هناك أشجار على الكواكب ؟
وقال الكاتب: " فلم يقل يظهروا عليه لأنهم أول مرة رأوا الطريق مفتوحا الا هذا الشيء العجيب كحدوة الحصان ...انها تعني انهم لم يقدروا على خرق المجال كالعادة ، عندئذ عرفوا السبب هو ذلك الشيء الغريب (المغناطيس )فأرادوا تهديمه فما استطاعوا ". فما هو حجم هذا المغنطيس الذي في شكل حدوة الحصان ومنع قوم ياجوج وماجوج من المرور من تحته أو تفاديه والمرور من حوله ؟ لا بد أنه غطى الكوكب من قطب إلى قطب، وإلا كان في إمكان قوم ياجوج وماجوج السير حوله. فحتى لو سلمنا أن ذا القرنين بنى مثل هذا المغنطيس، كيف استطاع رفعه ليجعله سداً قائماً ؟ هل كان لديهم " كرينات " ضخمة لرفع مثل هذا الوزن ؟ وغريب أصلاً أن يختار ذو القرنين بناء سد من المغنطيس ليمنع ياجوج وماجوج من الدخول على هؤلاء القوم البسطاء الذين يعيشون في كوكب صغير في نقطة تعادل الجاذبية، بينما أخبرنا الكاتب سابقاً أن قوم ياجوج وماجوج معتادون على العيش في كوكب عالي المغنطة حينما قال: " بينما يعيش قوم يأجوج وماجوج في الكوكب الصغير القريب من الشمس وهذا الكوكب ذو مجال مغناطيسي شديد الوطأة ". فلا بد أنهم سوف يتغلبون على هذا المغنطيس الذي بناه ذو القرنين.
ويتضح من النقاش أعلاه أن ما كتبه العلامة النيلي ما هو إلا قصة علمية خيالية Science Fiction، تصلح أن تكون فيلماً ولكن لا تصلح كمادة لنقاش علمي. ثم بعد ذلك دخل الكاتب في محاولة إثبات أن قصة المهدي المنتظر حقيقة واقعة، وسوف لا أضيع وقت القارئ في مناقشتها )).