الصهيونية والإمبريالية، في تشابكات المشروعين

طلال عبدالله
2016 / 7 / 11 - 08:24     


"الصهيونية السياسية هي عقيدة تنبع من التسليم بعدم إمكانية خلق توافق ما بين اليهود وغيرهم، وتدعو لهجرة ضخمة إلى بلاد غير متقدّمة بهدف تأسيس دولة يهودبة" – ناثان وينستوك مؤلف كتاب "الصهيونية: المخلّص الزائف".

ايباك


لكي لا يبدو الحديث مستهلكاً ومكرراً؛ لن تتناول هذه المادة الصهيونية بوصفها ذراعاً للإمبريالية، أو لنكن أكثر دقة، لن تتحدث هذه المادة عن الكيان الصهيوني بوصفه ذراعاً للإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة، كثيراً ما ترددت هذه العبارة على مسامعنا دون التمحيص في محتواها، فإذا اعتبرنا أن الولايات المتحدة قوة إمبريالية وصلت إلى أعلى مراحل الرأسمالية، وأكدنا أن اللوبي الصهيوني هو من يرسم السياسات الأمريكية، الداخلية منها والخارجية، فإننا هنا لا نتحدث عن ذراع، بل عن مشروع واحد، متداخل في كافة النواحي، وعلى رأسها النواحي الاقتصادية، والتي ترسم بالتأكيد الملامح السياسية.

وفي سياق متصل، فلن تتناول هذه المادة الاختلاف بين اليهودية كدين والصهيونية كفكر استعماري رأسمالي، بل ستتحدث عن بداية العلاقة بين الصهيونية والإمبريالية، منذ تأسيس الحركة الصهيونية وصولاً إلى يومنا هذا.

الصهيونية تتودد للإمبريالية – تأسيس الحركة الصهيونية وحتى إعلان قيام الكيان الصهيوني

عند تأسيس الحركة الصهيونية، ادعى الصف الأول فيها أنها قامت من أجل “تحرر وطني”، ونسف هذه الفكرة لا يحتاج إلى أكثر من سطرين سيأخذان شكل الأسئلة؛ كيف تكون الحركة الصهيونية حركة تحرر وطني وهي لا تحارب الإمبريالية؟ كيف لها أن تكون حركة تحرر وطني وهي حركة توددت للإمبريالية -البريطانية آنذاك- لتصبح قوة إستعمارية؟ تلك الأسئلة تنفي عن الصهيونية صفة التحرر الوطني بكل تأكيد.

ولكن علينا الالتفات هنا إلى مسألة مهمة، وهي أن الشكل الاجتماعي-السياسي لأوروبا في القرن التاسع عشر، وبالتحديد دول أوروبا الشرقية، هو ما شكّل بيئة خصبة دفعت اليهود الأوروبيين للالتفاف حول الحركة الصهيونية والأب الروحي لها ثيودور هيرتزل، نظراً للاضطهاد الذي عاناه اليهود في أوروبا آنذاك.

وبالتأكيد فإن هذا ما حاول بعض الشيوعيين مواجهته، على عكس التهم التي تنسب إليهم، فهم لم يروا اليهود سوى في الإطار الطبقي، فرفضوا الاضطهاد والعنصرية بحقهم، ورأوا في المشروع الصهيوني ضربة لوحدة الطبقة العاملة وتفتيها، فكيف لا يكون المشروع الصهيوني وليد المشروع الإمبريالي، ويتحوّل لاحقاً إلى مشروع توأم؟

ليس صحيحاً أن الحركة الصهيونية لم تكن ترى غير فلسطين، ذلك بأن الصهاينة لم يتركوا أي تعلّق أيديولوجي بفلسطين يؤثر على مشروعهم القائم على اختراع شعب جديد، أو إنشاء شعب جديد، ومن ذلك أن الحركة الصهيونية ناقشت المناطق المقترحة لإنشاء وطن اليهود، من الأرجنتين وأوغندا، وصولاً إلى أنغولا، وحتى بعض دول شمال أفريقيا، مع الإشارة إلى أن ثيودور هيرتزل في كتابه “دولة إسرائيل” تحدّث بالتفصيل عن شكل “الدولة” التي يطمح لتأسيسها دون النظر إلى الموقع الجغرافي، وكان قد قبل بالفعل بمقترح بريطانيا بإنشاء وطن لليهود في أوغندا عام 1903.

ما يحمله لنا هذا الحدث التاريخي من استنتاجات يرتكز على فكرتين اثنتين، أن الصهيونية رفعت من مكانة مشروعها الاستعماري فوق الحنين الديني اليهودي المزعوم لفلسطين، وبأنها اتكأت في البداية على القوى الرأسمالية والإمبريالية الأوروبية، وسرعان ما تحوّلت إلى جزء منها.

ما كان يريده هيرتزل، وما كان يتردد على لسانه دائماً للقوى الرأسمالية والإمبريالية الداعمة لحركته: “نريد دولة لتكون جزءاً من درع أوروبا ضد آسيا، قاعدة أمامية للحضارة في مواجهة البربرية”، وهنا تتضح فكرته بضرورة إنشاء وتأسيس كيان عنصري لمساعدة الإمبريالية ضد ما يراه هؤلاء “الشعوب المتخلّفة في آسيا وأفريقيا”، دون إغفال أن الصهيونية سعت منذ اللحظة الأولى للبحث عن رعاية إمبريالية، ومن ذلك تعاملها مع أنظمة كانت “معادية للسامية”، وهي البروباغندا التي نشرتها الصهيونية في كافة أنحاء أوروبا من أجل خدمة فكرتها الاستعمارية.

هيرتزل

الاتفاق المبطّن وغير المعلن بين الإمبريالية البريطانية والحركة الصهيونية كان تأسيس “دولة يهودية” تقف سدّاً منيعاً في مواجهة الثورة التي غيّرت شكل العالم آنذاك، الثورة البلشفية، ومنع انتقال هذه الثورة إلى أوروبا، ولن ندخل هنا في تفاصيل تاريخية يعرفها الجميع، لنترك المجال قليلاً للحديث عن آيباك.

الصهيونية تتحكّم في دوائر صنع القرار السياسي للقوى الإمبريالية – الحركة الصهيونية في القرن الحادي والعشرين، آيباك أنموذجاً

قد يرى القارئ لهذه العناوين الفرعية بأن المثل الشعبي القائل “تمسكن لحد ما تمكن” ينطبق على العلاقة التي تجمع الصهيونية بالإمبريالية، والحقيقة أن هذا ليس صحيحاً، ذلك بأنهما وجهان لعملة واحدة، الثانية تحمي الأولى، والأولى تتحكم في دوائر صنع قرار الثانية، وهنا يبدو الحديث معقّداً في فك التشابكات التي تجمع المشروعين.

منذ تأسيس الحركة الصهيونية، وحتى يومنا هذا، وهي تدور في فلك الإمبريالية، حتى عند بزوغ نجم الولايات المتحدة وأفول نجم بريطانيا.

منذ أن كانت الحركة الصهيونية في مهدها، وعلى مدار تطور المشروع الصهيوني، برزت العديد من المؤسسات التي كان ولايزال هدفها ضمان الدعم اللازم للمشروع الصهيوني، مالياً وسياسياً. “لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية”، والتي تعرف اختصاراً بآيباك، هي واحدة من مئات التجمّعات التي تشكّل جماعات ضاغطة في الولايات المتحدة، ولعلّها الأكثر تأثيراً. من الصعب أن ترسم أي سياسة أمريكية، سواء داخلية أو خارجية، دون أن تنال رضاها، ولها حضور واضح في الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة.

بصفتنا نتحدّث هنا عن آيباك تحديداً، فمن الواجب الإشارة إلى أن هذه اللجنة ليست جماعة ضغط عادية في الولايات المتحدة، فهي تلعب دوراً كبيراً في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وأي مرشح للرئاسة يدرك بأنه لا بد من أن يغازلها حتى لا تنعدم فرص نجاحه. كما أنها تسيطر على الإعلام الأمريكي.

ترامب آيباك

منطق العصا والجزرة هو ما تتبعه آيباك مع أعدائها -إن وجدوا-، فهي من جهة تجمع الأموال الانتخابية وتنشر دعاية إعلامية تمدح وتؤيد كل من تريده في الكونغرس أو البيت الأبيض، ومن جهة أخرى تهدد وتلوّح بحملات التشهير في الإعلام، وترمي بتهمة معاداة السامية، وتحجب الموارد المالية عن كل من لا تريده في دوائر صنع القرار.

يتواجد أعضاء آيباك على الدوام في مجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة، وما يؤكد لنا أن اللوبي الصهيوني -وآيباك جزء منه- واسع النفوذ في الولايات المتحدة، هو أن أكثر من 100 تشريع لصالح الكيان الصهيوني حسمت بفضله، وبأن الولايات المتحدة الأمريكية استخدمت الفيتو في مجلس الأمن فقط لحماية الكيان الصهيوني.

كلينتون آيباك

ما بين الأمس واليوم

لم تتغير العلاقة بين الإمبريالية والصهيونية كثيراً، أتحدّث عن جوهر العلاقة، تبادل المصالح، خدمة مشروع واحد، تكريس الرأسمالية والمبادئ الليبرالية، ما تغيّر هو أن الصهيونية توددت للإمبريالية إلى حين حصولها على كيان سياسي، ففرضت حضورها في داخله، لحماية نفسها، وباتت مؤثرة في دوائر صنع القرار، وسيطرت على الإعلام والاقتصاد، فأبقت على كيانها الهزيل، وقدمت الخدمة تلو الأخرى للمشروع الرأسمالي، أو الإمبريالي، لا بصفتها الخادم الأمين، بل بوصفها جزءاً من هذا الإطار.

قلّة الدراسات الفكرية العربية التي تتحدث عن المشروع الصهيوني، هي السبب في اللبس الذي يجتاح الشارع عند الحديث عن احتلال فلسطين، وهو ما تحدّث عنه محمد العملة في مادة له بعنوان “الصهيونية بين الاستعمار وتزوير التاريخ” في العدد الخامس والخمسين من مجلة راديكال؛ الحركة الصهيونية قامت باختراع شعب جديد ليستوطن قلب الوطن العربي، وبصفته “شعباً” ينتمي إلى أعراق وقوميات عدة، فكان من اللازم تحويل الدين إلى عرق أو “قومية” لجمع كل هؤلاء، فكان هذا الاختراع وكان احتلال الأرض، والعين في الأساس على خانة الاقتصاد.