صناعة الكاريزما وعبادة البطل


قاسم علي فنجان
2016 / 7 / 9 - 04:24     

(إن الإلهة قد اختارتني عندما كنت في بطن أمي) سنحاريب "1".

تتعاقب الأحداث وتتكثف وتتركز لتؤلف حياة شخص ما داخل مجتمع ما, هذه الأحداث تشكل وقائع اجتماعية وسياسية, تعد نقطة تحول في مسار هذه الشخصية, وأيضا ذلك المجتمع, فالفرد جزء من المجتمع يتفاعل معه, يؤثر به ويتأثر فيه, والمجتمع يقوم بوظيفته ما دام هو الذي يفرض هيمنته, فإذا ما اختل توازنه -بفقدانه هذه الهيمنة- أصيب بالتعطل"2",هنا يأتي دور الفرد, بعد أن تهيأت له الظروف, من خلال واقع معطل ومشلول, تغيب فيه الحلول ويختفي منه الأفق, هذا الواقع ينزل الألم بقوة بهذا المجتمع, فيتراجع عن مواقعه, التي كان يعيشها على أساس أنه كُل متجمع, فتأتي الفردانية لتحتل مواقع هذا الكل الاجتماعي"3", هنا يدافع المجتمع عن بقائه, بإنتاجه إفراداً"مقدسين" تتجسد فيهم كل صفات هذا المجتمع أو طموحاته, يريد بهم أن يلملم أجزاءه المبعثرة, يصنعهم هذا المجتمع المأزوم, يجد في إيجادهم أو يوجدهم, يتبعهم, ويضع فيهم كل المواصفات الخارقة, يؤلههم أو يحولهم إلى أنصاف إلهه, يجعلهم باستمرار دائمي النمو, يؤسطرهم وهم أحياء "4".. فهم شموس تدور من حولهم الكواكب, وهم أسياد الملاحم والوقائع, يتراءى للمجتمع الذي صنعهم أو الذي ساهم في صنعهم, أن الإحداث متعلقة بهم, أو هم من يجب أن يديروها, لا نقد يمسهم, لأنهم ارتفعوا عن مصاف البشرية, فالفرد ((المقدس بالنسبة للمؤمن به هو ما يعلق عليه الإنسان سلوكه بالكامل, انه كل ما لا يقبل الإنسان أن يطرحه على بساط البحث, وما يرفض رؤيته مهينا, محتقرا, وأيضا ما لا ينكره ولا يخونه مهما كان الثمن)) "5", يركز هذا المجتمع قوته فيهم, يتنافس ويتصارع فيما بينه على أفضلية هذا الفرد القائد أو ذاك "6", في ممارسة تنتقل من الفرد القائد إلى الجمهور وبالعكس, هنا نرى التفاعل يتجسد بين هذا المنتج الجديد (القائد, البطل, الكاريزما) وبين منتجيه (جمهوره, أتباعه, مريدوه), الذي سيكون هو المحافظ والمنتج لهذا الجمهور فيما بعد, والعلاقة بين هذا القائد وجمهوره تكتسب أهمية تاريخيه حاسمة في فهم نمو كلا الطرفين.
هذان الطرفان "القائد والجمهور" يسعيان إلى تحقيق شخصيتهما كاملة, والتحقيق هذا لا يكون إلا عبر القيام بحدث أو ملحمة تاريخية, تتجسد وتبرز فيها أهميتهم التاريخية "اجتماعيا وسياسيا", وفي توقف احد هذين الطرفين عن وظيفته "الأمر, الطاعة", فأن العملية كلها ستصاب بالشلل والتعطل, لأن التوقف معناه أن احد الطرفين لا ينتج فعلا أو أفعالا, ترسم مصير المجتمع كله, وأن الذي أخذ على عاتقه اتخاذ الأفعال ورسم المصير, يجب عليه أن لا يفرط أو ينكث أو يخل بهذه العلاقة, لأن هذه العلاقة تبدو "مقدسة" على الأقل لدى الطرفين, والطرف الذي ينكث بهذه العلاقة سيدير له التاريخ ظهره "7".

أسئلة معدة للطرح

لهذا فدائما ما أثار استغرابنا وحفز لدينا مشاعر الاستفهام, كيفية تتبع جمهور معين لقائد معين؟ ونبدأ بطرح الكثير من هذه الأسئلة التي تواجهنا, هل لهذا القائد صفات معينة -خارقة- لا توجد في غيره؟ وما هي هذه الصفات؟ وما هي المعايير في اختيار هذا القائد ومن يضعها؟ هل القضية تكمن في طوله, أو في شكله, أو في ملبسه, أو في اللغة التي ينطقها, أو في الزمان أو البيئة التي وجد فيها "8"؟ هل تكمن كاريزميته في ثقافته, أو في الفكرة أو القضية التي أختار الدفاع عنها, أو في أخلاقه وقيمه التي يعيش عليها؟ "9", أو هل كانت الأجواء مهيأة لهذا الفرد دون غيره, أو أنه تدخل في وقت كان مناسبا؟. كل تلك الأسئلة وغيرها تدور في أذهاننا, إذا كنا نقرأ التاريخ, أو نعيش في الحاضر, فنحن نلمس هذا الوجود المشخص (القائد), وتتضح الفكرة أكثر إذا كنا فاعلين في السياسة, فنحن لا نخرج عن دائرة "الأتباع" أيضا, فنحن الجمهور "أ" نرى أن الجمهور "ب", يذهب أو يركض خلف شخص غير جدير بالثقة, التي توليها أليه جماهيره, أو أنه متخلف ثقافيا وفكريا, أو لا يملك الوعي السياسي الكافي الذي يؤهله لاستلام السلطة, إلى غير ذلك من المبررات التي نعطيها لأنفسنا, والتي بها نستطيع أن نحافظ على جمهورنا, لأن المعايير التي نقيس بها من نتبعه تختلف عن تلك التي عند الجمهور "ب", ونمضي بإثارة التساءولات بيننا عن الكيفية التي يتبعون بها ذلك "الأحمق أو الأخرق أو الغبي", أو قد نسأل عن هذا الجمهور, هل هم غوغاء؟ أم مجرد رعاع, أم هم مجموعة متخلفين؟ هذه التساءولات نفسها قد يطرحها الجمهور"ب" على الجمهور"أ" "10".
لكن لنفترض أن معاييرنا هي الأصح عن شخصية البطل أو القائد, وتساءلنا عن ذلك الجمهور في الجانب الآخر الذي يتبع ذلك القائد والذي اعتبرناه غير مؤهل, ونقول ما الذي وجدوه فيه لكي يتبعوه؟ ألا يقودنا هذا التساؤل, في نتيجته النهائية إلى تصور مثالي عن هذه الشخصيات, ليس له علاقة بالتاريخ وحركته, أو كما يقول لوكاش بصواب بالغ ((ومعنى هذا أن الشخصيات التاريخية مفصولة عن القوى الدافعة الحقيقية في عصرها, وعن مآثرها, وبذلك تصبح مستحيلة الفهم))؟ "11"..
مع ذلك, لا تزال تلك الأسئلة تطرح حتى داخل القوى اليسارية, والتي لم تستطع أن تثقف جمهورها, بأن علم الاجتماع المادي, يؤكد بما لا مجال للشك, أن الجماهير هي من يقع على عاتقها صناعة التاريخ وإنتاج أفراده, ولم تقل البطل أو القائد المعزول عن واقعه الاجتماعي والسياسي, لكن تأثيرات الفكر البورجوازي, وما تحمله من نظرات ورؤى عن الأبطال, وعلى مر تاريخها الطويل, جعلت هذه الرؤى تنغرس في لا وعي الجماهير, ممتدةً تأثيراتها حتى على تلك القوى اليسارية "12".

بداية الحديث

لفتت انتباهي عبارة للوجودي الدنماركي سورين كريكجورد كنت قد قرأتها في مكان ما, تقول ((اختر ذاتك قبل أن يختارها الآخرون)), هذه العبارة تحمل طابع الفردانية, لأن فلسفة كريكجورد تدفع باتجاه خلق الفرد لذاته بذاته ((كل فرد هو بذاته عالم, له قدس أقداسه الذي لا يمكن أن تنفذ أليه يد أجنبية)) "13", وهذه إحدى التصورات المثالية المرتبطة بخلق "الإرادة" التي هي القوة بالنتيجة النهائية, "العالم هو إرادتي", والحديث عن شخصية البطل أو الكاريزما في التاريخ والمجتمع, ينتهي إلى المدرسة الإرادية, وهي احد تيارات الفلسفة المثالية, والسبب في ذلك إنها قد تكون أوضح المدارس في هذا الشأن, أو الأكثر انغراسا في لا وعي المجتمع, لأن مثل هذه الفلسفات تحيل خلق الكون إلى إرادة الذات الخارقة -الله أراد-, ومن ثم فأن تطور المجتمع يجب أن ينبع من الفرد القائد, أو أن المجتمع مناط وجوده وتطوره بهذا البطل, الذي يجب عليه أن يختار ذاته القائدة, هذا البطل, القديس, النبي, المختار لذاته, الذي تدفعه القوى الخارقة التي تتمثل في إرادته, هو الذي يكون أو سيكون موضوعا لحب الناس واحترامهم وعبادتهم, لكن إرادة الإنسان تتلاشى إذا ما علمنا أن هذا الإنسان الفرد لا يعيش منعزلا, بل أنه مرتبط بالحياة الواقعية بكل تفاصيلها وميادينها, لهذا فأن ما يصنعه, ليس فقط وعيه أو إرادته, بل طابع الحياة الاجتماعية, وما تحمله من تعقيدات في كل مجالاتها. فالإنسان الفرد ليس هو من يحدد شخصيته -دون أن ننسى أو نزيل نسبية العامل الذاتي بهذا الشأن- بل هو المجتمع الذي يرسم, يصنع, أو يقولب شخصية هذا الفرد, ومن هذا الجانب نستطيع أن نفسر ظهور الفرد التاريخي "البطل أو القائد" على مسرح الحياة, كضرورة للواقع الاجتماعي. لقد أختار المجتمع "ذات" هذا الإنسان, بهذه الصفات وهذه الخصائص, لأن جميع الحقائق والوقائع تدل على أن الإنسان الفرد, لا يملك الكثير من الخيارات في نشأته وتطور شخصيته, وأن للمجتمع وأنماط الحياة التي يعيش عليها, القول الفصل في ذلك, وعند هذه النقطة نتساءل, كيف يصنع أو يتكون القائد في مجتمع ما؟.

من هو القائد أو البطل؟

انتبهوا لأقوالي, أصغوا أليها.
أتكلم إليكم, أجعلكم تعون.
أنني أبن "رع", المولود من جسده.
اجلس على عرشه فرحاً, إذ جعلني ملكاً, سيد هذا البلد.
نصائحي خير, خططي تتحقق.
أحمي مصر, وأدافع عنها "14".

في البدء علينا أن نجد تعريفا للقائد أو البطل, نستطيع من خلاله أن نتلمس الطريق الذي سنسير فيه لاكتشاف عملية الخضوع أو الامتثال أو الطاعة لهذا القائد, الذي يجسد فيه المجتمع كل صفات البطولة الخارقة, واضعه بذلك في القمة, ومحوله إلى شخص في ذاته, ترى هل من سبيل لمعرفته؟ سنبحث ذلك.
قد نرى أو نتذكر إننا في يوم من أيام الدراسة, وفي مراحلها الأولية, كنا نلاحظ كيف يقوم المعلم أو إدارة المدرسة, باختيار أحد التلاميذ من أصدقائنا ليكون (قدوة) أو (مراقب), وهي مفردات توحي بالسيطرة والقيادة, وفي المعمل فهناك دائما موجود (المدير) الذي تقع عليه مسؤولية إدارة شؤون العمال, وفي المؤسسة العسكرية, تتجلى بوضوح اكبر مسألة وجود القائد, في دور العبادة هناك دائما (أب, إمام, كاهن أعلى), وفي الحزب السياسي أيضا يوجد (السكرتير), وفي العائلة, يوجد الأب أو الأخ الأكبر, وفي الرياضة يوجد (الكابتن), وفي الصحافة يوجد (النقيب), وإلى كل مناحي ومجالات الحياة, التي يرتسم فيها القائد, أو يوجد فيها رأس الهرم كما يقولون, وقد يكون تشكيل هذا النظام من العلاقات الاجتماعية هو ما يراد تأبيده, وبالتالي صنع نسق من الاستعدادات السيكولوجية والسسيولوجية, التي تستطيع بها القوى المهيمنة أن تنشئ عليها المجتمع, فلا حلول إلا بوجود البطل الفرد, أذن هناك تكثيف ومراكمة لعملية صنع البطل أو القائد, و((إن ما يبدو أبديا في التاريخ, ليس سوى نتاج عمل التأبيد, الذي يوجب على مؤسسات تعمل في ما بينها -ليل نهار- كالعائلة والكنيسة والدولة والمدرسة, وكذلك الرياضة والصحافة))"15".
ولقد عرف علم النفس الاجتماعي القائد بأنه, ((الشخص الذي يمارس أكبر قدر من التأثير في الجماعة))"16", وهذا التعريف رتيب, وليس فيه شيء يلفت الانتباه, لكن ما يستوقفنا هو سؤال ألما بعد, الأكثر أهمية, والذي يجب أن يطرح, هو كيف يؤثر شخصً ما أو يمارس تأثيراً في جماعة أو مجموعة ما؟ ما هي الخصائص أو السمات التي وجدت في هذا الشخص؟...
سادت عدة نظريات بشأن تفسير وجود القائد, منها نظرية الشخص العظيم, وخلاصتها أن القادة أشخاص متميزون وغير عاديين, يملكون خصائص أو سمات شخصية خاصة -التأكيد مني- تجعلهم ملائمين للبقاء على القمة. ثم هناك نظرية الموقف وظهور القائد, والتي تقول بوجود الفرد الذي يتمتع بالمهارات والقدرات الأكثر فائدة للجماعة في موقف معين "17". يلاحظ أن كلمات مثل"غير عادي" أو "سمات خاصة" نجدها شائعة في التعريفات السيكولوجية المبنية أصلا على تصورات مثالية, والتي تريد أن ترسخ فكرة "الإنسان المختلف", هذه الفكرة -على الأقل في العصر الحديث- نستطيع أن نقول عنها إنها المفتاح لفهم الكيفية التي يصنع بها البطل ويمارس التأثير في المجموع, فنشأة الطفل على مفاهيم معينه قد تعزز لديه الفهم بين مفردات الفرق والاختلاف"18", لهذا فأن الفروق بين الناس, والفرق بين من يمتلك المواهب والقدرات وبين من لا يملك شئاً من هذه القدرات, هي التي تفسر ظهور "الفرد الخاص", وإذا ما أوصلنا هذه الرؤى إلى نهايتها فأنها ستعطينا صورة واضحة عن البناء الاجتماعي والسياسي للمجتمع.

نظرية الرجل العظيم

يتساءل فرويد في معرض تحليله لشخصية (موسى), عن الكيفية التي نتصور بها أن رجلا فردا استطاع أن ينجز تلك المهمة الخارقة "19". وفي تحليله لهذه الشخصية, فأن عقدة الأب هي المحور الرئيسي الذي يبني عليه فرويد أساسياته, فالصورة الأبوية الجلية والمهيبة, والظاهرة من خلال قسمات الوجه الإلهي -الذي هو الأب في النتيجة النهائية حسب التحليل الفرويدي- هي التي يستطيع بها الرجل العظيم أن يمارس تأثيره على مؤيديه ويكسب قلوبهم "20", فالبشر كان لهم في يوم ما أب بدائي وأنهم قتلوه غيلة, وحتى يكفروا عن جريمتهم الأولى فأنهم لجأوا إلى تمثيل المشهد, مكونين بذلك ما أطلق عليه فرويد "الأنا الأعلى" الذي هو وليد الشعور بالذنب, فلقد أخذهم الندم على ما فعلوه, وقرروا أن يقدموا شخصا أضافوا له كل صفات البطولة "الأب الأولي", لقد أرادوا بإعادتهم المشهد أنشاء دولة قومية "21", وهو ما يتطلب وجود بطل الهي, نسجت أو تنسج حوله كل الأساطير والخرافات, منذ ولادته حتى مماته "22", فعقدة قتل الأب "الأوديب", والموقف إزاء هذا الأب هي نواة تحليل كل شخصية, حسب الرؤية الفرويدية.
أن مأساة هذا الحدث الأسطوري المصور وتحليله هي التي جعلت الاعتقاد, بأنه يجب أن يكون للبطل شكل أبوي مهيب, يحمل كل صفات الأبوة, ومنه تفرعت بعض النظريات السيكولوجية بشأن القائد, مثل نظرية (السمات). وأيضاً فأن عبادة الأبطال بعد موتهم قد فسرت على أساس قصة هذا "النقيل البدائي" الداروينية "23", وموت البطل فيه هو النقطة الأساسية والمحورية لتشكل الأسطورة, وهنا أصبحت علاقة الماضي بالحاضر متصلة اتصالا وثيقا, وترسخت هذه العلاقة في لا وعي البشر, فكلما نظرنا إلى قائد ما, عدنا إلى تلك الصورة المرسومة -أو التي رسمت- في أذهاننا عن شكل البطل وصفاته, وإذا ما أقيم يوما تمثال أو صورة لزعيم أو قائد أو بطل, فأنها تمثل بالشكل الأبوي, كما نراها لدى مايكل أنجلو عند نحته تمثال موسى "24", فالبطل خالد لأنه يحمل شكلا يقبع في مخيلتنا, ويعيش باستمرار وإلى الأبد في هذه الدنيا, ويمتد الشعور بالولاء له حتى بعد موته, وعبادته تكون جزءا من فلسفة الدولة, وتقام له النذور والأضاحي, ويستذكرونه دائما أمام أطفالهم, معبرين عن احترامهم وتمجيدهم له, بهذا فأن التحليل النفسي الفرويدي هو أيضا يرهن تقدم المجتمع وتطوره بظهور وبروز القادة والأبطال "العصابيين" "25".

البطل وجمهوره

نحن منطلقون! الطبول تقرع! الراية ترفرف !
أنا لا أعرف الطريق الذي تسير فيه الحملة.
يكفي أن يعرفه رب الحرب,
خطته وصيحة معركته هو ! وجهدنا وعرقنا نحن "26".

هي ذي الفكرة التي نسمعها ونشاهدها دائما عن القائد وجمهوره, فهم دائما في علاقة, يحضر فيها الأول بقوة, فهو صاحب القدرة المطلقة, المسددة خطواته من الآلهة, وهو الذي يملك المعرفة الكاملة, فالسير وراءه نجاة من كل مكروه, فهو المتبحر بكل الأمور, وصاحب الهيبة والاحترام "27", وهو ((الينبوع الحي المتدفق بالنور, الذي يضيىء الظلمات, فهو ليس مجرد شمعة متعددة فقط, وإنما هو فيض من النور الطبيعي الذي منحته السماء, الينبوع الذي منه تشرق الأنوار, يتحلى بالتبصر والتأمل, والنظر الثاقب, والرأي الحصيف, والرجولة, والنبالة البطولية.. ومن روحه تنبعث الأنوار التي تدخل السعادة والرفاهية إلى كل الأرواح)) "28". ويغيب الآخر -الجمهور- الفاعل الأكبر في العلاقة, الذي يسير كالأعمى خلف قائده, ممتثلا مطيعا, يندمج لديه الواقع بالخيال والوهم, فلا يرى خلاصه ونجدته إلا بوجود بطله ومنقذه, لا يستطيع أن يفكر بنفسه -أو يقنع نفسه بذلك-, يبدي عجزه أو قدرته على التفكير, من ثم لا يقدر على تشكيل حكم عن الواقع, فهو ينتظر الأحكام التي ستحركه وتوجهه, والتي ستكون أحكاماً قطعية, يقف كله مشلول الإرادة, منتظرا خطاب الرئيس أو البطل أو القائد, الذي يعتقد أنه سيعبر له عن الحلول لوضعه, لمأزقه, لأزمته, التي هو فيها, يبحث عن مخرج لوضعه, لكنه يبحثه في رأس القائد, لا في فعاليته هو القائمة على احتياجاته, والذي هو المعبر الوحيد عنها, وإذا كان الجمهور لا يعي ذاته كقوة قادرة على انجاز الأعمال الكبرى, فأنه سيبقى خاضعا للأوهام, أوهام المنقذ, وقد يسهم -ولو جزئيا- في تدمير ذاته, جاعلا نفسه في عزلة, وإذا ما عجز (قائده) عن أن يلبي مطالبه, فأنه سيعيش حالة من التفكك والانهيار, وسيتمرد على هذا (البطل) ويدير له ظهره, لأنه غاضب ومحبط, وعندما تدير الجماهير ظهرها للقائد فأنها ((تحتقره علنا في الغد, بل أن رد فعلها ضده يكون عنيفا بقدر ما كان احترامها له كبيرا. وعندئذ تنظر الكثرة للبطل الذي سقط كنظير لها وتنتقم منه لأنها كانت قد انحنت أمامه وأمام تفوقه المزعوم الذي لم تعد تعترف به. فالمؤمنون يحطمون دائما بنوع من الهيجان تماثيل آلهتهم السابقة)) "29".
عند هذه النقطة, ربما جاز لنا أن نتساءل, هل يستمر الجمهور بالبحث عن بطل, منقذ؟ أم أنهم سيلوذون بالمنقذ الإلهي, الذي تتحدث عنه الأديان بأنه كامل الصفات, وأنه غير خاضع للزمان والمكان, (المسيح, المهدي, الخضر..الخ) الذي تتجسد فيه إرادة الروح الكونية, ذلك الذي سيملأ الأرض عدلا كما تقول الأساطير, لأن هذا الجمهور إذا ما توالت عليه الانكسارات والهزائم بسبب قائده, فأنه حتما سيلجأ إلى قادة معلقين في الهواء.
البطل أو القائد لا يمكن أن يكون بطلاً أو قائدا إلا بالجمهور, فشرط وجوده مرهون بالجمهور الذي أنتجه, والتاريخ يثبت هذا, وحتى يكتسب جدارة هذا الوجود, فهو بحاجة إلى اعتراف هذا الجمهور به على أنه القائد, فهو ليس جوهرا ولن يكون إلا بوجود الجوهر الفعلي الذي هو الجمهور"صانعه", فلقد وجد بعض الانثربولوجيين مجتمعات بدون رئيس أو قائد "30", لكنهم لم ولن يجدوا قائدا بلا جمهور, وهذه حقيقة عامة من حقائق الحياة. فلا توجد هناك ضرورة لوجود قائد في مجتمع الصيادين أو جامعي الغذاء, ذلك أن إيقاع الحياة يفرض بالضرورة على الجميع المشاركة في الصيد أو جمع الغذاء, فهو مجتمع متوازن, لم يتطور فيه الصراع الاجتماعي, ((يجتمع فيه كل الرجال في المساء حول نار يوقدونها وسط المعسكر, ومن أحاديثهم تنبثق القرارات المتعلقة بأعمال المجتمع)) "31". لكن جاء الوقت الذي أضحت معد بعض الناس ملأى بالطعام, كما يقول أدم سميث, وصار هناك فائض, وهذا الفائض يحتاج إلى تبادل, والتبادل قسم المجتمع إلى مراتب, " رؤساء, ورجال دين, وجيوش, وعبيد...الخ" من التقسيمات التي شهدها ويشهدها المجتمع في خلال مسيرته الطويلة والمريرة, هنا يفقد المجتمع توازنه ويختل, فستكون هناك معادلة جديدة, من يملك ومن لا يملك, أسياد وعبيد, وعند هذه النقطة من الصراع, سيكون وجود القائد ضرورة حتمها الواقع الاجتماعي والسياسي والنفسي لقوتي المجتمع. فهذا يريد أن يدافع عن ما يملك, والأخر يريد أن يملك ما ملكه الأخر.
هذا القائد الذي صنعه الجمهور على طول مسار التاريخ البشري, لن يكون بلا خرافات أو أوهام يسيطر بها على الجمهور, والخرافات قد خلقها المجتمع على مدى تاريخه الطويل, وسدنة وحاشية القائد موجودة بوجوده, وهي التي عليها تقع مسؤولية تفعيل هذه الخرافة من تلك, فهم الذين بمقدورهم بلورة هذه الخرافة, وإعطاءها شكلها الذي يحسون بأن الجمهور سيتقبلها, وبطل الجمهور هذا هو الذي سيكون المتلاعب بمشاعر وأحاسيس جمهوره, وسيعرف على أي وتر يعزف, مثلما يقال, حتى يحافظ على عبوديتهم له من جانب, ويزيد من أتباعه من جانب آخر "32".

كلمة لن تكون أخيرة

((أيها المواطنون! أستطيع أن أوجز في كلمة ما أريد أن أقول: لقد مات أوديب, ولكن الظروف التي أحاطت بموته والآيات التي ظهرت حوله ليست من الأشياء التي يمكن أن تقص في أيجاز)) "33".
لا شك أن ما قلناه لا يمكن أن يكون الخلاصة لموضوع بهذا القدر من الأهمية, فلقد اقتصر فهمنا وطرحنا على جوانب كانت في اعتقادنا مهمة, ونعرف أننا لم نستطع أن نلم بالموضوع من كل جوانبه, بسبب تعقيداته, فلا نريد أن يساء فهمنا عن بعض القضايا, التي ذكرت, فالكل يعلم أن الأبطال, القابعين منهم في التاريخ, أو الذين هم بين ظهرانينا, هم مقدسون, بل هم أنصاف ألهة عند مريديهم, وهم أبطال ايجابيون في نظرتهم ورؤاهم, وهم الذين تسكن فيهم روح أسلاف-نا, ولا نريد أيضا أن نتبنى فكرة تجريد الجماهير من قادتها, فهذا الخلاص يأتي فقط من إزالة نمط علاقات إنتاج محددة, وليس بكتابة مقالة هنا أو خطاب هناك.
ما أثار انتباهنا بشأن هذا الموضوع, هو المد البشري الهائل من الأتباع لقادة دينيين, تركزت فيهم مصالح الجماهير, من بابا الفاتيكان إلى رجال الفتوة في مكة والمدينة إلى مشيخة الأزهر وإلى أئمة النجف وقم وطهران, فهم الآلهة الجديدة التي تهيمن على هذا العالم, وهؤلاء لديهم من القادة الصغار الكثير, ولأن رجال الدين هؤلاء هم الانعكاس الحقيقي للواقع الاقتصادي والسياسي الذي نعيش فيه, واقع يعيش أزمة, هي في جانبها الأكبر اقتصادية, فأن الجماهير في هذا الواقع أصبحت تجيش العناصر الرجعية -وتتخذ منهم أبطالاً وقادةً- مثلما تجيش العناصر الثورية, في أزمان الثورات "34", ونحن المنتمين إلى هذا العصر الرجعي, لا نستطيع أن ننسجم مع واقع كهذا, وسنكون مضطرين إلى التوقف أمام هذه الظاهرة الدولية, كما لو كنا أمام عالم غريب ومجهول, عالم مملوء بالأوهام والأصنام, فكانت دهشتنا كبيرة, عندما رأينا هذه الجماهير وهي تتسابق بولاء ليس له حدود لهذا القائد أو ذاك, ممتثلة طائعة. لكن ما يجب علينا أن نفهمه أنه ليس كل ما هو بديهي عندنا وفي معرفتنا, سيكون بالضرورة بديهيا عند الآخرين, فأن من المهم جدا كما يقول لينين ((هو أن لا نعتبر ما هو متجاوز في أعيننا, متجاوز في أعين الطبقة, في أعين الجماهير)) "35".
لقد صوروا لنا التاريخ وعلى طول عمره البشري, أن الجماهير لا تستطيع أن تفعل شيئاً بدون وجود القائد, وكانت هذه القراءة التي نزعت عن التاريخ فعاليته, وجعلته فعالية أفراداً ينفي أحدهم الآخر, لقد نبذوا التاريخ الجماهيري, واستعاضوا عنه بتاريخ افراد, لقد عملقوا وضخموا شخصية البطل, وجعلوه غريبا عن واقعه ومجتمعه, لم تصنعه ظروف, بل هو من صنعها, لم يصنعه مجتمع بل هو صنعه, فهو الأول في بداية كل شيء, وهو الذي يصنع الأحداث والوقائع, فكلكامش هو من أوجد أوروك, واخيل هو قائد ملحمة طروادة, والاسكندر هو بطل اليونان...الخ. في الماضي رفعت البشرية قادتها إلى السماء " أنليل, أنكي, رع, زوس....الخ", واليوم يعاد التاريخ لكن بصورة ساخرة.
قدمت إحدى الصحف في عام 1789 الشعار التالي: ((يبدو الكبير كبيرا في أعيننا. لأننا نركع فقط. ألا فلننهض)). وعلق ماركس عليها قائلا ((ولكن حتى ننهض لا يكفي أن ننهض في الفكر)) "36".

قاسم علي فنجان
16 / 6 / 2016

الهوامش:
************
"1": سنحاريب ملك أشوري حكم عام 704 ق.م, دام حكمه ثلاثة وعشرين عاما حتى سنة 681 ق.م, أبن سرجون الأشوري, كان مولعا بغرس الحدائق والبساتين فجلب لتجميل عاصمته الأشجار النادرة من أقطار مختلفة إلى حدائق نينوى, والمرجح أنه كان أول من أدخل زراعة القطن إلى العراق, وقد سماه الشجرة التي تحمل الصوف. كما يذكر ذلك المؤرخ العراقي طه باقر في كتابه مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة, ص 572, طبعة الوراق 2012. وحتى لا يكون هناك لبس في الأسماء فأن سرجون الأشوري أبو سنحاريب, هو ملك لا نعرف أسمه الحقيقي, ولكنه تسمى بأسم مؤسس بابل سرجون الأكدي في حدود 2800 ق.م, والملفت أن سرجون الأكدي هو أحد الملوك الذين ارتبطت بهم خرافة الولادة, "وهي عادة وجود الأبطال والأنبياء", ومن المفيد أن نثبت هنا القصة التي يقال أنه مؤلفها, كما يقول فرويد في كتابه "موسى والتوحيد" ص 13: (( أنا سرجون, الملك القوي, ملك أكد, كانت أمي من عذارى الهيكل, لم أعرف أبي, بينما لبث أخو أبي في الجبل. وفي مدينة آزو بيراني, على ضفاف الفرات, حبلت أمي بي, ولدتني سرا, ووضعتني في سلة من الأسل وسدت فتحاتها بالجلبان وتركتني للتيار حيث لم أغرق, وحملني التيار حتى آكي, غراف الماء, الطيب القلب من المياه, ورباني آكي, غراف الماء, وكأنني أبنه. وصرت بستاني آكي, غراف الماء, وحين كنت بستانيا, مال قلب عشتار إلي. فأصبحت ملكا وحكمت طوال خمسة وأربعين عاماً)).
************
"2": يتعطل المجتمع عن أداء دوره, كقائد للحركة بفعل ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية, ويصيبه التشتت والتشرذم, ويتخلى عن حياة الجماعة, وتضحى الحياة الفردية هي النموذج العام, وهنا يسمح للفرد بالظهور على مسرح الحياة, وقيادة المجتمع, ويتجلى بوضوح أكثر البطل, واعتقد أن هتلر وموسوليني وستالين وفرانكو وغيرهم, قد يكونوا نماذج واضحة وصريحة لما يصيب المجتمع عندما يفقد دوره كقائد.
************
"3": اعتقد ماكس فيبر بأن مسيرة التاريخ التقدمية متجهة دائما نحو العقلانية, ولكن تتخلل هذه المسيرة انقطاعات يبرز فيها, أبطال كارزميون, أرسلتهم العناية الإلهية إلى شعوبهم, في مراحل خاصة, وظهورهم يمثل العنصر اللاعقلي في التاريخ. كما يورد ذلك الدكتور عبد الجليل الطاهر في كتابه (مسيرة مجتمع) ص 448, المكتبة العصرية, صيدا, 1966 . هنا يرفع فيبر هؤلاء القادة إلى مصاف الآلهة "المقدسين", أو أن الآلهة هي التي أرسلتهم, ولا يجعل وجودهم كضرورة اجتماعية.
************
"4": في تسعينات القرن العشرين وعندما قاد صدام حسين حملته الإيمانية, للتغطية على واقع اقتصادي وسياسي سيئ جدا -ودائما الدين هو المنفذ لخلاص السلطة- في تلك الفترة, ظهر فجأة رجل دين, يحمل أو حٌمًل صفات القائد أو الكاريزما, وسرعان ما تجمع حوله الكثير من المؤيدين له, وأصبحوا أتباعا, يمتثلون لأوامره, ويحفظون خطبه, وينفذون فتاويه, وأصبحت أي كلمة تصدر منه أو أشارة بمثابة دستور لأتباعه, حتى أنهم صاروا يروون عنه قصصا اعجازية, لقوى خارقة يملكها, في عملية اسطرة لشخص حي. ((الأفراد هم الذين يخلقون أصنامهم ويحيطونها بالأساطير والخرافات والأوهام, وهم الذين يضفون عليها المعاني والقدسية والسيطرة نتيجة لفعالياتهم التعاونية الجماعية)) عبد الجليل الطاهر, أصنام المجتمع, ص 19, مطبعة الرابطة - بغداد 1956.
************
"5": الإنسان والمقدس, تأليف روجيه كايوا, ترجمة , سمير ريشا, المنظمة العربية ص 189.
************
"6": منذ البزوغ الدموي لرجال الدين كسلطة سياسية في العراق بعد عام 2003, احتدم الصراع فيما بينهم على قيادة المجتمع, يتصارعون كقيادات طائفية داخل الدين, وصراع قادة تيارات داخل نفس هذه الطوائف, وهذا الصراع انعكس بشكل مباشر على المجتمع, الذي اخذ أبعادا دموية مميتة, إلى الآن نراها بوضوح, وتشتعل بين الفترة والأخرى, لإثبات أن هذا القائد أفضل من الآخر في أدارة المجتمع.
************
"7": لا ندعي أننا سنلم بكامل تفاصيل الموضوع, لكننا سنشارك معرفتنا ووعينا مع الآخرين, وسنحاول قدر الإمكان تتبع الصورة المرسومة "للقائد" عند المجتمع من جانبين (سوسيولوجي وسيكولوجي), لما وجدنا لهذين الجانبين من أهمية في هذا الموضوع.
************
"8": نجد صفات كثيرة عن الشخص القائد أو الزعيم قد غرست في مخيلتنا, منها صفات جسمية كطول هذا القائد, أو ضخامته, أو شكله المهيب, وعندما كان أهلنا يروون لنا قصصاً عن شيخ عشيرة ما, أو عن بطل من ذلك الزمان الأسطوري, فأنهم يضفون عليه هالة من الصفات الجسمية والعضلية الكبيرة, وهو ما رسخ فينا فكرة أن البطل يجب أن يكون "عملاقا".
************
"9": لم نخرج عن الفهم ألذكوري لشخص القائد أو البطل, فهو يوجد دائما على أساس جنس معين الذي هو"الذكر", فبعد "الهزيمة" التي لحقت بالأنثى, وأبعدتها عن مسرح الحياة, في العصور الغابرة, أصبح الرجل هو المتحكم بكل ميادين الحياة, فلا نستغرب من بعض التقارير العلمية التي تشير إلى أن ((النساء يمتثلن أكثر من الرجال)).انظر في ذلك كتاب, مدخل إلى علم النفس الاجتماعي, ص 12, تأليف: روبرت مكلفين ورتشارد غروس, ترجمة: ياسمين حداد, موفق الحمداني, فارس حلمي. عمان 2001.
************
"10": في المناقشات التي تدور بيننا في أماكن العمل, سخر مني أحدهم قائلاً: لا اعرف كيف "تركضون" خلف حميد مجيد موسى "سكرتير الحزب الشيوعي العراقي", ما الذي رأيتموه فيه, -مع أني لم أنتم للحزب الشيوعي العراقي, لكن الغالب في هذه الأيام, الذي يتحدث بغير الصيغة الدينية يعد شيوعيا- المهم أن صيغة الأسئلة التي نطرحها نحن, تكن مساوية لما يطرح في الجانب الآخر عن شخص القائد.
************
"11": جورج لوكاش, الرواية التاريخية, ص258, ترجمة صالح جواد الكاظم, منشورات وزارة الثقافة والفنون, بغداد 1979. وأن غالبية المجتمع تتحدث عن هذا القائد أو ذاك, بأن لديه "بخت أو حظ أو أنه موهوب من الله", أو أنهم أكثر من مجرد أفراد, ويذكر الدكتور عبد الجليل الطاهر, ((أن اصطلاح الكارزما يعني من الوجهة اللفظية (هبة الله), أي الشخص الذي ترسله العناية الإلهية لإنقاذ أمته. فهو الشخص الذي يتميز بخصائص لا تتوافر في غيره من الناس, وهو الموهوب الذي يتحلى بقوة خارقة, وصفات فوق طبيعية, وفوق البشرية, تنفجر من ينبوع الهي)). مسيرة مجتمع ص 445.
************
"12": مثل هذه التأثيرات لمسناها عند بعض القوى اليسارية, كبقاء سكرتير الحزب لأطول فترة, أو نشر فكرة أن هؤلاء جماعة فلان, أشارة إلى قائد الحزب, أو ترديد أسمه بشكل متكرر, أو نشر صوره, الخ.... وهذه هي الأساليب التي ترهن حركة القوى اليسارية بشخص القائد, حتى أنهم يتمنون لو أن الحياة تصنع لهم شخصاً مثل لينين, وهو تسريب واضح للأفكار المثالية, إلى عقلية هذه القوى.
************
"13": وهي فلسفة تعزل الفرد عن واقعه الاجتماعي والاقتصادي, وتجعله في تحد أمام هذا الواقع, الذي لا يستطيع أن يواجهه بمفرده, فيصنع أبطالاً, ليعوض بهم عجزه عن مواجهة وتغيير العالم, (المسيح, المهدي, باتمان, سبايدرمان, سوبرمان, الخ...) وتنعدم خيارات الفرد بالخلاص, بصنعه لهذه الشخصيات الوهمية. يقول نيتشه الذي طور مفهوم السوبرمان أو الإنسان الكامل- ((إن الهدف من التطور التاريخي هو خلق الشخصيات النادرة المتفوقة التي يحق لها استعباد الجمهور من أجل تحقيق بعض الأهداف)), فليس الوجود إلا الحياة, وليست الحياة إلا إرادة, وليست الإرادة إلا القوة. راجع عبد الجليل الطاهر: مسيرة مجتمع ص 420 - 421.
************
"14": أبيات شعر لأحد ملوك مصر القديمة, عن كتاب, (ما قبل الفلسفة, الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى) ص 55, تأليف: هنري فرانكفورت, ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا. منشورات مكتبة الحياة - بغداد.
************
"15": بيار بورديو, "الهيمنة الذكورية", ص12 ترجمة: سلمان قعفراني, المنظمة العربية, الطبعة الأولى بيروت 2009.
************
"16": مدخل إلى علم النفس الاجتماعي, ص63, وكثيرة هي التعريفات التي تدخل بهذا المجال, لما له من أهمية في السلوك الاجتماعي, فالفيلسوف الفرنسي هنري برجسون في كتابة منبعا الدين والأخلاق, ص60 , قال ((أن البطولة يوعظ بها وعظا, وليس عليها إلا أن تظهر على المسرح حتى تهز الناس, وتبعث فيهم الحركة)). وهو تعريف يندرج ضمن التعريفات الصوفية لأنه يرى أن ليس لكل الأفراد حدس عميق, فقط الأنبياء والقديسون والمصلحون العظام, وهو يرى ((أن كبار المتصوفين يعلنون أنهم يشعرون أن ثمة تيارا يسري في نفوسهم إلى الله, ثم يهبط من الله إلى الإنسانية))، بالتالي فأن هذه الأنا العميقة غير القابلة للتفسير هي التي تعطي سمات وخصائص هؤلاء القادة والأبطال الذين يمارسون كل التأثير على المجتمع الذي يملك بالنتيجة أنا سطحية. ويعرف الدكتور شاكر مصطفى سليم مصطلح الرئيس (chief) في الهامش رقم 242: ويعني المصطلح أيضا شيخ قبيلة أو عشيرة, وهو شخص بارز, مميز, يقود جماعة, تعترف بقيادته لتمتعه بمركز ديني, أو سياسي موروث, أو لبروزه في قيادة الحروب, أو لأنه يملك صفات مميزة في مجتمعه. مقدمة في الانثربولوجيا الاجتماعية, تأليف: لوسي مير, ترجمة شاكر مصطفى سليم, ص410 . دائرة الشؤون الثقافية بغداد 1983.
************
"17": مدخل إلى علم النفس الاجتماعي ص64 - 65 . وحول شخصية البطل واختلافها فقد لاحظ ماكس فيبر بأن ((السيكوباثيين"المرضى النفسيين" حتى في المجتمعات البدائية يتحولون عادة إلى متنبئين ومخلٌصين ومصلحين)). وحتى المفردات المستخدمة في هذا الشأن تذهب إلى أن البطل أو القائد هو شخص مختلف فكلمة دوق (duke) مثلا تعني (dux) أي الزعيم أو القائد, وكلمة (king) تعني (konning) أي الرجل الذي يعرف وله القدرة. كما يلاحظ ذلك الدكتور عبد الجليل الطاهر في مسيرة مجتمع ص 441.
************
"18": وإذا ما ذهبنا إلى شكل الدولة القائم على مر التاريخ, فسنجد أنه شكل هرمي, فيه يجد كل إنسان أن إنسانا آخر فوقه, عليه أن يخضع له, وشخصا تحته ليحس بقوة ذاته إزاءه. فمجموع ما يتربى عليه الإنسان من أفكار وقيم وتصورات وثقافة, تكٌون عنده ذلك التدرج والهرمية, ((لأن التحيز ينشأ في أحضان الأم, وفي العائلة, وبين الأقارب والأصدقاء والمدرسة.. ومادام الإنسان حيوانا قيميا متحيزا فمن الضروري أن يتعصب لفكرة وأن ينضم لفئة)) عبد الجليل الطاهر, أصنام المجتمع, ص 29.
************
"19": "موسى والتوحيد", سيغموند فرويد, ترجمة: جورج طرابيشي. دار الطليعة ط 2 1977. ويعترف فرويد في بداية كتابه بأن ((تجريد شعب من الشعوب من الرجل الذي يحتفي به على أنه أعظم أبنائه ليس بمهمة بهيجة ينجزها المرء بخفة قلب)). لأن هذه الصعوبة تكمن في إزالة التعريف الرتيب عن شخصية البطل كمقدس, وأن على المجتمع أن يعرف إن هؤلاء الأبطال, يجري عليهم التحليل والدراسة كأي إنسان آخر, ولهذا فأن فرويد كان قد أصدر كتابه هذا قبل وفاته بعام, وهو ما يؤكد أنه حتى في المجتمعات التي تعد أكثر مدنية فأن "نظرية الرجل العظيم" تبقى غير قابلة للمس.
************
"20": وقد اتبع فرويد الكثير من المحللين النفسيين في هذا المجال, وطبقوا هذه المفاهيم على شخصيات تاريخية من قادة ومفكرين ومصلحين, مثل المسيح ونابليون ومارتن لوثر, وغيرهم, مع أن العيب الرئيسي في النظرية الفرويدية كما يرى ذلك جورج لوكاش, هو أنها ((تنطلق من الإنسان الفردي, والمعزول على نحو مفتعل من قبل المجتمع ونظام الإنتاج الرأسماليين, فهو يسعى إلى تفسير علاقات الإنسان الاجتماعية انطلاقا من وعيه الفردي أو لا وعيه, بدلا من أن يوضح الأسباب الاجتماعية لانعزاله إزاء الكل, والمشكلات المتعلقة بعلاقاته مع أمثاله. أنه يتجاهل الوضع الطبقي للفرد "ومعه البيئة التاريخية للطبقة نفسها")) الأدب والفلسفة والوعي الطبقي. ص61 ترجمة هنرييت عبود. دار الطليعة 1980.
************
"21": أو كما يقول "رانك" مستشهدا به فرويد نفسه في كتابه موسى والتوحيد, ص 15 ((وقد عدلت الخرافة فيما بعد بالاتجاه المعروف لدينا لدواع قومية)). وهي رؤية مثالية ترى أن رغبتهم في التكفير عن الجريمة التي اقترفوها, حدت بهم إلى صنع قائد شبيه بالأب ليحافظ على تجمعهم في أمة واحدة, ويذهب في ذلك أيضا الانثربولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس في دراسته لبعض القبائل البدائية, فهو يقول: ((أسم الرئيس في لغة النامبيكورا "اوليكانديه " أي "من يوحد", أو "الذي يضم", ويوحي هذا الاشتقاق اللغوي بأن عقل الأهالي واع, أي أن الرئيس يظهر كسبب لرغبة الجماعة في تكونها كجماعة, وليس نتيجة الحاجة إلى سلطة مركزية, تشعر بها جماعة متكونة بالأصل)) مداريات حزينة -ترجمة محمد صبح, ص 396, دمشق 2000. بذلك هو يقدم الرغبة على الحاجة.
************
"22": في ثمانينات القرن العشرين, ,والعراق في خضم حرب قاسية مع إيران, والمجتمع واقع تحت نظام قومي بوليسي مستبد, كان هذا المجتمع يتداول قصصا عن عودة "الزعيم", ويقصدون به عبد الكريم قاسم مؤسس الجمهورية, فهذا المجتمع لم يصدق انه اعدم, وعندما كنا نسأل أهلنا هل صحيح أنه حي وأنه لم يقتل؟ كانوا يجيبون وهل يستطيع هؤلاء أن يقتلوا الزعيم, وكانوا يقصدون بهم "البعثيين", وعندما أنهار نظام البعث بعد أحداث 2003, وألقت القوات الأمريكية القبض على صدام حسين, وحاكمته وأعدمته, لم يصدق الكثير من مؤيديه أنه مات, وهم ينتظرون عودته, فالبطل لا يموت بنظر أتباعه, خاصة إذا كان هؤلاء الأتباع يعيشون أزمة. حتى في بلدان متطورة مثل ألمانيا, فأن الشيوخ والعجائز يعتقدون بأن هتلر لم يمت, وأنه سيعود في يوم ما.
************
"23": ويرى الدكتور عبد الجليل في مسيرة مجتمع ص 439, ((أن المفتاح الذي يفسر لنا أسباب ظهور عبادة الأبطال هو الاعتقاد بالأموات, ووجود الأنظمة الأبوية, والظروف الاجتماعية القائمة على فكرة القرابة والأسرة التي وجدت تعبيرها الديني في تقديس الأجداد واحترامهم)) ويقول قباري محمد إسماعيل, أن ((عبادة الأسلاف هي جوهر الدين العائلي, العبادة التي تطورت فيما بعد, واتخذت شكل عبادة الأبطال, تلك العادة الاجتماعية التي ظهرت بظهور المدن)) في كتاب: علم الاجتماع والفلسفة, الأخلاق والدين ص83 دار الكتاب - مصر 1967.
************
"24": يذكر أن سيغموند فرويد كان قد قضى أمام تمثال موسى في كنيسة القديس بطرس ثلاثة أسابيع في العام 1913 محاولا دراسة التأثير الانفعالي للتمثال. لأن مايكل أنجلو كان قد أبدع في نحته وتصويره, وجعله موضوعا للدراسة.
************
"25": وربما كان احدهم على حق عندما قال (إن معايير السوي والمرضي ليست ذات قيمه مطلقة, لكنها ذات قيمة نسبية, فبعض الأفراد الذين يعيشون سجناء في مشافي الطب النفسي قد يكونون في مكان أخر, سحرة مبجلون أو قادة شعوب يمجد الشعراء مآثرهم) روجر باستيد, علم الاجتماع والتحليل النفسي, ترجمة وجيه أسعد, دمشق 2005. ونحن دائما نقول على قائد ما بأنه "مريض نفسي", أو أنه يجب أن يعالج, أو يوضع بمصحة نفسية.
************
"26": الرواية التاريخية, لوكاش, ص 326. وهذه الأبيات الشعرية ذكرتني بموقف قد عايشناه, فعندما كنا نخرج إلى التظاهرات على حكومة الإسلام السياسي, بسبب التجربة السيئة والمرة في حكم العراق, في ذلك الوقت دعا أحد رجال الدين المشتركين في الحكومة -بل احد أقطابها الرئيسيين- دعا أنصاره إلى النزول للشارع والتظاهر, وإن هؤلاء الأتباع قد لبوا النداء بكل قوة, وجاءوا من كل المدن العراقية, وعندما كنا نسألهم -أي مجموعه نلتقي بها- عن المطالب التي جعلتهم يتظاهرون, كانوا يجيبون أن: "السيد كال" أي أمر, قرر. وبنفس الإجابة كان جمهور الانتخابات التي مرت يرد بأن "المرجعية أمرت".
************
"27": ولقد فصل غوستاف لوبون مفردة الهيبة وقال إنها: ((عبارة عن نوع من الجاذبية التي يمارسها فرد على روحنا, أو يمارسها عمل أدبي ما أو عقيدة ما. وهذه الجاذبية تشل كل ملكاتنا النقدية وتملأ روحنا بالدهشة والاحترام. وهي أساس كل هيمنة. وقال أن هناك نوعين من الهيبة: مكتسبة تجيئ عن طريق أسم العائلة, والثروة والشهرة. والهيبة الذاتية "الشخصية" وهي تشكل ملكة مستقلة, وأن قادة البشر الكبار -بوذا والمسيح ومحمد وجان دارك ونابليون- يمتلكون هذا النوع من الهيبة. والآلهة والأبطال والعقائد تفرض نفسها فرضا ولا تناقش. بل إنها تتلاشى مباشرة ما أن نناقشها)). سيكولوجية الجماهير, الصفحات 139 - 138 - 137, ترجمة هاشم صالح, بيروت 2011. وغوستاف لوبون هو أيضا أسير التصورات المثالية حول القادة والأبطال, بقوله إن الهيبة الشخصية هي من (طبيعة مختلفة, وملكة مستقلة), وهي كإرادة كريكجورد, أو تفوقية نيتشه, أو حدس برجسون, أو رغبة شتراوس, فكلها قائمة بذاتها, خارجة عن الواقع الاجتماعي وضروراته, ومثل هذه الآراء هي التي رسخت لدى الجمهور فكرة أن هذا القائد أو ذاك البطل, فيه شيء خاص -إلهي-, موجبة وجوده, رافعته فوق مستوى النقد, ومخضعة الجماهير له.
************
"28": مسيرة مجتمع - عبد الجليل الطاهر ص 440.
************
"29": غوستاف لوبون, سيكولوجية الجماهير, ص 143.
************
"30": من المفيد جدا الاطلاع على الدراسات التي قام بها الانثربولوجي الإنكليزي أيفانز برتشارد خلال أقامته بين قبائل النوير في جنوبي السودان, وهذه القبائل التي يقوم اقتصادها حين درست 1930 بصورة أساسية, على تربية الماشية, ويزاول إلى حد جدً محدود, زراعة الذرة, لا تخضع لسلطة موحدة, فهم مجتمع بلا رئيس, فكل جماعة قرابية, وكل قرية مستقلة استقلالا ذاتيا. واحترام الأشخاص لحقوق الآخرين يتحقق من خلال التعارف على أن الرجل الذي ينزل به أذى يحق له أن يأخذ حقه بالقوة, وسيحظى إن فعل ذلك, بتأييد أقاربه وأقرانه في القرية.
للمزيد أنظر لوسي مير في الانثربولوجيا الاجتماعية, ترجمة: شاكر مصطفى سليم ص132 .
************
"31": لوسي مير ص 131.
************
"32": ((إننا خلقنا خرافتنا, فالخرافة عقيدة وشعور وليس من الضروري أنها ستكون في يوم من الأيام حقيقة واقعية. ولكنها بالرغم من ذلك فهي حقيقية, لأنها أمل وعقيدة وشجاعة. أن خرافتنا هي أمتنا, خرافتنا عظمة أمتنا)) موسوليني. من كتاب أصنام المجتمع, عبد الجليل الطاهر ص137 .
************
"33": أوديب في كولونا, سوفوكليس ص321. ترجمة طه حسين. دار العلم للملايين, بيروت 1978.
************
"34": كارل كاوتسكي, عن سيكولوجية الجماهير, غوستاف لوبون ص 23.
************
"35": جورج لوكاش: تحطيم العقل, الجزء الأول ص13. ترجمة الياس مرقص, دار الحقيقة, بيروت 1980.
************
"36": العائلة المقدسة, كارل ماركس - فريدريك أنجلس, ص103, ترجمة حنا عبود دار دمشق.