التخلف بين الاستعمار و الازمات الداخلية


مارك مجدي
2016 / 7 / 8 - 23:08     

قامت الثورة الصناعية لتحدث تقدم رهيب في تاريخ البشرية، ولكن لحق هذا التقدم ظاهرة خطيرة كانت نتيجة لتطور الرأسمالية كنمط، وهو التقسيم الدولي للعمل الذي بدأ في القرن السابع عشر، ولم يتوقف عن النمو حتى تعاظم في القرنين اللاحقين، وكان من نتائجة تقسيم العالم الى بلدان متخلفة زراعية واخرى بلدان رأسمالية صناعية متقدمة، حيث أقام بين المجموعتين علاقات عدم مساواة وتبعية سياسية واقتصادية وسيطرة واستغلال.

والتخلف الواقع على مجتمعات العالم الثالث هو نتيجة الاستعمار بالدرجة الأولى ثم انعكاس للتناقضات الداخلية لتلك المجتمعات، والاستعمار ظاهرة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتخلف، والتخلف بدورة يسود في اطار التطور المركب اللامتكافيء. ان التخلف كما نعرفة اليوم قد جاء نتيجة انغراس الرأسمالية في المجتمعات غير الصناعية وهو يبدو كسمة أساسية من سمات النظام الرأسمالي على المستوي العالمي.

وقد حاول بعض علماء الاقتصاد والاجتماع الغربيين تفسير التخلف، فنسبوه الي معطيات قديمة وديانات محلية وقيم وتقاليد, وفي بعض الأحيان نتيجة لعوامل عرقية. وفي كل هذة الأسباب التي يذكرها هؤلاء العلماء نلاحظ محاولة إلصاق أزلية التخلف بالمجتمعات المتخلفة، أي أن المجتمعات المتخلفة ستبقى متخلفة وفقا لطبيعتها ومصيرها المحتوم.

إلا أن التطور التاريخي والتراكم المعرفي قد أثبت خطأ هذه التحليلات، حيث التخلف ظاهرة أكثر عمقا وأهمية, وفي الصدارة يأتي التدخل الاستعماري كمسبب للتخلف، فالملاحظ أن الغالبية من الدول المتخلفة كانت في وضع الاستعمار والتبعية، وانتشار الاقتصاد الحديث لم يقم عبر العالم على أساس المبادلات الاقتصادية المتكافئة، بل حسب علاقة وثيقة مع توطيد هيمنة سياسية مباشرة أو غير مباشرة. فبعد أن تحولت البلدان المتخلفة الى خادمة أصبح عليها أن توفر للدول المستعمرة ما لا تستطيع تلك البلدان أن تنتجة أو ما لا ترغب أن تنتجه.

ولفهم دور تلك الأبعاد على تلك المجتمعات علينا أن نستعين بمفهوم ماركس عن الاغتراب، فالإنسان في هذه المجتمعات يعاني مشكلة انفصال حاد وصميمي في داخل نفسه، صراع بين إنسان الطبقة وإنسان الحاجة. أي أن ثمة تعارض يحدث في داخله بين الإنسان الكائن بذاته وإنسان الحاجة _أي الإنسان الكائن للآخرين. وقد حولت الرأسمالية الغربية اغتراب العمال في أوروبا الي اغتراب شامل وكوني لجميع البلدان المتخلفة، فأفقدتها قدرتها على أن تكون بلدانا كائنة بذاتها، وحولتها لبلدات تابعة يغترب بداخلها أبنائها. فكان على الدول التابعة أن تتاجر مع الدولة المستعمرة وعليها أن تمتنع عن أي فعالية اختصت بها الدولة الحاكمة.

وعلى الرغم من أهمية الاستعمار في صناعة التخلف، إلا أنه ينبغي أن نشير الى عوامل التخلف الذاتية في البلدان المتأخرة، التي مكنت الاستعمار من السيطرة عليها ونهبها. ولعل ما يلفت النظر أن عددا كبيرا من الدول التي وقعت في شراك الاستعمار مثل الصين، الهند، مصر، كانت على درجة من التقدم الحضاري والاقتصادي بسبب النشاط التجازي أو الزراعي، وكان لديها قدر كبير من التراكم المادي والتطور التقني. فلماذا إذن لم تستطيع هذة البلدان الاستمرار في تقدمها؟ أي أن تحدث ثورة صناعية شبيهة بتلك التي وفعت في أوروبا؟.

لقد بين لنا تاريخ أوروبا أن الثورة الصناعية لم تكن وليدة لتراكم الثروات وحسب بل جاءت نتيجة لبروز الطبقة البرجوازية في صميم المجتمع الإقطاعي ونضالها الحاد لإسقاط النظام الإقطاعي وجميع قيمه وأفكارة. أما تاريخ البلدان المتخلفة فيبين غياب هذة الطبقة البرجوازية قبل الاجتياح الاستعماري لها. حتى البلدان التي شهدت تقدم مدني كبير مثل مصر في تجربة محمد علي، لم نرى سوى الأرستقراطيات التي خلقها النظام الحاكم من خلال توزيع الأراضي الكبرى عليها، وبقيت الدولة مسيطرة (منذ عهد محمد علي انتهاءا بالاحتلال الإنجليزي) على الملكية رغم وجود تلك الأرستقراطيات، فقد كانت الدولة القوة الضاربة التي تهب وتمنح الملكية, وتؤثر حتى في التكوين القبلي للمجتمع، فقد قام محمد علي على سبيل المثال بتوطين القبائل العربية في أنحاء مصر وإعطائهم الأراضي الزراعية. وتعتبر مصر هي نموذج لمفهوم نمط الإنتاج الآسيوي الذي يعرقل تطور المجتمع في السياق المطلوب, فمنذ الآف السنين ظهرت الدولة المصرية قبل الطبقات الاجتماعية كضرورة لتقويد النهر، فكانت دولة مركزية يملك الحاكم الأرض من خلال المعتقدات الدينية، ويخلق الطبقات ويميتها، حيث كانت الدولة هي المصدر الحقيقي للثروة من خلال احتكارها القدرة على توفير المياة للزراعة وتخزين المحاصيل. وكل ضعف لجهاز الدولة كان يتبعه بشكل ميكانيكي انقلاب في الحكم أو ثورة شعبية.

وباختصار الأسلوب الآسيوي للإنتاج هو مفهوم ماركسي طرحه ماركس لأول مرة في رسالة الى إنجلز في 2 يونيو/حزيران 1853، ثم مرة ثانية في مخطوطة الأشكال (1857-1858) الذي لم يخرج الى النور إلا متأخرا (1939-1941) مع مجموعة الغوندريسه. ويطرح هذا المفهوم أن غياب الملكية الخاصة هو مفتاح التخلف في الشرق حيث أنه ينتج الاستبداد في الحكم ويبقي الأرض حصرا في أيدي الجماعات القروية، وهو أسلوب يتسم بطابع ركودي ومستقر، يعرقل الصراعات الطبقية ويمنع بروزها، فالوحدة الأساسية هنا ليست الطبقة رغم وجود طبقات في هذا المجتمع، فالطبقة في هذة الحالة لا تملك دورا ديناميكيا في الواقع الاقتصادي والسياسي، وتستبدلها العائلة أو العشيرة أو القبيلة أو الطائفة وهي أنواع من الجماعات المغلقة بما تحمله من سكون وأفكار بالضرورة رجعية ومحافظة تتمثل في الخمول السياسي والاجتماعي والثقافي. حيث تنشأ الدولة بشكل مختلف في البلدان النهرية لتقويد النهر، وبالتالي تصبح الدولة هي الكيان الأهم والأقوى ولها الأسبقية في النشوء علي الطبقات. وقد أدى ضعف التناقضات في هذه المجتمعات الى تخلفها وتباطؤ تطورها. فعدم وجود طبقة فاعلة ومتوافقة مع مصالحها قلب النظام السائد جعل من المستحيل تحقيق الثورة الصناعية. فطبيعة أسلوب الإنتاج الآسيوي، وغياب طبقة برجوازية فعالة، كانا وراء التخلف الاقتصادي في هذة المجتمعات، ليست الديانات المحلية كما يزعم ماكس فيبر، أو المناخ والعرق كما يدعي بعض المفكرين الغربيين.

و في الحالة المصرية كما هو الحال في بعض البلدان الاخري كان الأسلوب الآسيوي للإنتاج في طريقة للانحلال، ومع صعود الثورة العرابية, اتى الاحتلال ليعمق جذور التخلف بعد أن ضرب محمد علي وحاصر مصر لتتحول الأسرة العلوية الى اسرة ملكية تحكم بالتوارث وينتهي مشروع النهضة والتحديث. وبالتالي اتي الاستعمار ليواجهة مجتمع مفكك ومتخلف، مجزأ على شكل جماعات قروية وخلايا صغيرة متخاصمة بين بعضها، يوفق بينهم الحاكم المستبد على رأس الدولة. وما أن ضعف هذا الحاكم المستبد، ظهرت الحركة العرابية ثم اتي الاحتلال ليهزمها ويوطد التخلف، وينهي كل محاولة للتحديث.

وقد كانت دول متخلفة اخري فاقدة لاندماجها القومي ووحدتها الوطنية مثل الهند، التي صور ماركس في مقال له عنها الصدام الواقع بين المجتمع المتقدم المتماسك القادم للنهب والمجتمع الاخر المفكك: "كيف استطاعت الهيمنة الإنكليزية أن تشاد في الهند؟ حطم نواب الملك سلطة كبير المغول، وحمت شعوب المهرات سلطة نواب الملك. وحطم الأفغان سلطة المهرات وبينما كان الجميع يكافحون الجميع دخل البريطاني وأخضع الجميع، بلد تنقسم بين المسلمين والهندوس، وبين قبيلة وقبيلة، وطبقة وطبقة، مجتمع قائم على ضرب من التوازن الناجم عن تنابذ عام وعن انعزالية عضوية لاعدائه: هذا البلد هذا المجتمع، الم يكن فريسة للغزو و الاستيلاء؟ حتى لو لم نكن نعرف شيئا عن تاريخ الهند، افلا تبقى الحقيقة الصارخة أن الهند، حتى في الوقت الحاضر، ترزح بفضل جيش هندي يعيش علي نفقة الهند.

إذن التخلف هو وليد لقاء الإمبريالية مع الأسلوب الآسيوي للإنتاج في طريقة للتحلل، ولكن في أحيان اخري استطاع الاستعمار أن يؤخر بلدانا بدون أرضية نمط الإنتاج الآسيوي كما في بلدان أمريكا اللاتينية، لذلك نضع أولوية للاستعمار في صناعة التخلف على التناقضات الداخلية في المجتمعات المتخلفة.

ويتضح في النص الذي اقتبس عن ماركس، أهمية الفئات المتعاونة مع الاستعمار، والتي تشكل في الغالب التجار وشيوخ العشائر ورؤساء القبائل، التي كانت في تحالف مع الاستبداد، وبعض حكام المناطق والقرى، وقد شكلت هذه الأرستقراطية المحلية نواة للإدارة الاستعمارية، حيث استعان الاستعمار بما يتمتعون به من نفوذ محلي في تعزيز سلطته وهيمنته. وكان لإعادة توزيع الملكية الخاصة وتفتت القروية دور في حيازة هذه الأستقراطية على الأراضي في زيادة ثرواتها. وهكذا نشأ تحالف متين بين الاستعمار والأرستقراطيات المحلية، وتحولت هذه الفئات الي عتاصر تابعة للاستعمار. ولم يكتفي الاستعمار بتحطيم الاكتفاء الذاتي الذي كان قائما في المجتمعات الزراعية القروية وتحويلها الى إنتاج محصولات قابلة للتصدير، فقد عمق التداول السلعي واستولى على النهوض بعلاقات الملكية والعلاقات القانونية التي تتوافق مع اقتصاد السوق وعليه أقامت المؤسسات الإدارية اللازمة لفرض هذة العلاقات. وقد أشرنا سابقا الى خطورة انغراس الرأسمالية في المجتمعات غير الصناعية وكيف تتطور هذة المجتمعات بشكل لامتكافيء يعيق التقدم.