احتمالات


نعيم الأشهب
2016 / 7 / 1 - 17:52     




احتماﻻت
ما بعد خروج بريطانيا من اﻹتحاد اﻷوروبي
جاءت نتيجة اﻹستفتاء في بريطانيا، على عضويتها في اﻹتحاد اﻷوروبي، باكورة أحداث متوقعة، نضجت وتنضج تحت تاثير العاملين أﻷساسيين التاليين ، اﻷول - اﻵثار التراكمية للأزمة المالية - اﻹقتصادية التي اندلعت عام ٢٠٠٨ وتداعيات استمرارها ، صعودا وهبوطا ، دون أفق ظاهر للخروج منها، ومن مفاعيلها في الميدانين اﻹجتماعي والسياسي ؛ والثاني - المتغيرات الدولية العاصفة ، منذ انهيار النظام الدولي ثنائي القطبية، هذه المتغيرات التي تتحدى نظام القطب الواحد - الوﻻيات المتحدة.

ولعله ﻻفت للنظر، قبل التعرض لبعض هذه اﻹحتماﻻت، حالة التآكل في نفوذ الحزبين الرئيسيين في بريطانيا اللذين يتناوبان السلطة : المحافظون والعمال، اللذان تلاقيا في الدعوة للبقاء في اﻹتحاد ، لكن اﻷكثرية جاءت ضد إرادتهما ؛ ويمكن قول الشيء ذاته فيما يتعلق بمعركة الرئاسة اﻷميركية، فترامب ، الذي فرض نفسه مرشحا للحزب الجمهوري ، جاء من خارجه ؛ وكذلك ساندرز، الذي بقي حتى اللحظة اﻷخيرة المنافس اﻷقوي لهيلري كلينتون ، جاء بدوره من خارج الحزب الديموقراطي، واستقطب جمهوره من الشباب الذي يمتنع عادة عن المشاركة في مثل هذه اﻻنتخابات.

أما اﻹحتمالات ، فلعل أحدها هو تداعي عملية الدومينو. وفي هذا المجال هناك أكثر من دولة أوروبية يمكن أن تتبع بريطانيا ، بخاصة تلك التي تفاقمت معاناة الطبقات الدنيا فيها من آثار سياسة التقشف وإلقاء أعباء أزمة العام ٢٠٠٨، على كاهل هذه الطبقات . وهنا ، تتردد أسماء بلدان مثل اسبانيا والبرتغال واليونان وإيطاليا وحتى فرنسا. في الوقت ذاته ، عاد الحديث عن عمليات انفصال داخل بعض الدول ، كاسكتلندا وإيرلندا الشمالية عن بريطانيا، واللتان صوتتا لصالح البقاء داخل اﻹتحاد اﻷوروبي وتريدان البقاء فيه ، والباسك عن إسبانيا ، وهكذا.

وأخذا في الحسبان أن بريطانيا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية هي الحليف الدائم واﻷقرب للوﻻيات المتحدة في القارة اﻷوروبية ، بل وفي العالم كله، وتمثل نوعا من الجسر بين أوروبا والوﻻيات المتحدة، فإن خروجها من اﻹتحاد اﻷوروبي يشكل نكسة للنفوذ اﻷميركي في أوروبا، كما أنه يضعف احتماﻻت توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الوﻻيات المتحدة واﻹتحاد اﻷوروبي، هذه المعاهدة التي تتزايد اﻷصوات اﻷوروبية التي تعترض عليها وتنتقدها،باعتبارها تفتح أسواق أوروبا أمام المنتجات الزراعية اﻷميركية المعدّلة جينيا ، والتي يتحفظ اﻷوروبيون عليه ، وتلحق أضرارا كبيرة بالمزارعين اﻷوروبيين؛ وكان آخر من انتقد هذه اﻹتفاقية وعبّر عن معارضته لها رئيس وزراء فرنسا ، فانس، يوم ٢٦ من حزيران. وتوقيت تصريحه بعد التصويت على خروج بريطانيا من اﻹتحاد اﻷوروبي ليس بلا معنى . وبالتالي، فخروج بريطانيا من اﻹتحاد اﻷوروبي يشكل نكسة لهذا المشروع اﻷميركي .

أما بالنسبة ﻹسرائيل ، فقد جاء أحد عناوين صحيفة هآرتس يوم ٢٦ حزيران كالتالي:"بخروج بريطانيا من اﻹتحاد اﻷوروبي تخسر إسرائيل عنصرا رئيسيا"، وتضيف "لقد ساعدت بريطانيا في تعديل وتوازن قرارات اﻹتحاد اﻷوروبي حول عملية السلام" أي الفلسطينية-اﻹسرائيلية. والحقيقة، أن بريطانيا، ﻻ تعبر فقط عن نفسها في هذا الشأن ، بل وعن الوﻻيات المتحدة . وقد مثلت قوة لجم داخل اﻹتحاد اﻷوروبي لمنع اتخاذ مواقف أوروبية أكثر جدية تجاه هذا النزاع ، وضد ممارسات اﻻحتلال اﻹسرائيلي العنصرية واﻹرهابية ضد الشعب الفلسطيني.

وإذا كانت هناك احتماﻻت أخرى، وهي عديدة لخروج بريطانيا من اﻹتحاد اﻷوروبي ، فلعل أهمها هو تأثير هذا الخروج على تماسك المحور اﻹمبريالي الذي تشكل عقب سقوط اﻹتحاد السوفياتي ، من الوﻻيات المتحدة واﻹتحاد اﻷوروبي واليابان، بقيادة اﻷولى ، حيث مثلّت بريطانيا فيه ، دور الجسر بين الوﻻيات المتحدة وأوروب وأحد العوامل في توجه أوروبا غربا في المجال اقتصادي. وقد أخذ هذا المحور على عاتقه مهمة اﻹحتفاظ بهيمنته على بقية دول العالم وتشديدها، سواء بوسائل العنف ، أو بالحصار والعقوبات اﻹقتصادية. وهذا ما يفسر اﻻحتفاظ بحلف الناتو، بعد انهيار المعسكر الشرقي ، الذي كان المبرر المعلن لقيامه ، بل والسعي لتعزيزه وتوسيع مداه خارج القارة اﻷوروربية ، التي يفترض حصر نشاطه فيها، بموجب ميثاقه. وإذا كانت أوروبا قد سلّمت قيادتها، مجددا، للوﻻيات المتحدة ، في إطار هذا المحور، فلأن اﻷخيرة هي القوة العسكرية الرئيسية فيه التي ﻻ غنى عنها في عملية إخضاع شعوب العالم لهذا المحور. فهي تنفق لوحدها أكثر من ٤٠٪ من اﻹنفاق العسكري للعالم كله ، ولها قرابة ٨٠٠ قاعدة عسكرية منتشرة في أكثر من سبعين بلدا . وقد بدت وحدة موقف هذا المحور اﻹمبريالي في اﻷعمال العسكرية التي مارستها أطرافه ، وبخاصة الوﻻيات المتحدة ، في الشرق اﻷوسط، ، وفي فرض العقوبات اﻹقتصادية على بعض الدول مثل إيران وسورية وروسيا وغيرها.

لكن فرض العقوبات اﻹقتصادية على روسيا ، على وجه الخصوص ، ألحق أضرارا متفاوتة ببعض الدول اﻷوروبية ، وبخاصة ألمانيا ، زعيمة اﻹتحاد اﻷوروبي وقاطرته اﻹقتصادية ، في ضوء ما تشكل بينها وبين روسيا ، وبخاصة بعد سقوط اﻻتحاد السوفياتي ، من علاقات إقتصادية متنوعة، بدءا باستيراد الغاز والنفط الروسيين، مرورا بتصدير المنتجات الصناعية والزراعية اﻷلمانية الى روسيا ، وانتهاءا بتوظيف اﻹستثمارات اﻷلمانية في روسيا. ومع ذلك ، فواشنطن لم تكتف بالعقوبات اﻻقتصادية ، بل أرفقتها بنشاط عسكري متفاقم على الحدود الروسية ، سواءا بالمناورات اﻻستفزازية في بولونيا ودول البلطيق ، أو بنشر قواعد الدرع الصاروخي في رومانيا وبولندا حتى اﻷن، أو بنشر المزيد من قوات الناتو قرب الحدود الروسية. ومعلوم أنه لدى اندﻻع اﻷزمة اﻷوكرانية التي افتعلتها واشنطن ، تحرّكت كل من ألمانيا وفرنسا للوساطة في ايجاد تسويتها في مهدها، لقطع الطريق على تداعيات تصعيدها على العلاقات اﻹقتصادية مع روسيا ؛ وحينها تمّ اتفاق اﻷطراف المعنية على أسس التسوية بضمانة ألمانيا وفرنسا وروسيا. لكن واشنطن نسفت كل إمكانيات التسوية ، بتسليحها وتحريضها للعصابات الفاشية وبقايا النازيين الذين تعاونوا مع اﻻحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية ، حيث قاموا بانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب ، وما تلا ذلك من تداعيات خطيرة.

ويبدو أن الكيل اﻷلماني أخذ يطفح من هذا النهج اﻷميركي . ففي ٢٠١٦/٦/١٨ نشرت صحيفة تلغراف البريطانية مقاﻻ للصحفي "جوستين هاغلر"( Justin Huggler) تحت العنوان التالي: " وزير الخارجية اﻷلماني يتهم الناتو بالتحريض على الحرب ضد روسيا"، ومما جاء في المقال الذي هو تلخيص لمقابلة طويلة نشرت ، ﻻحقا، في ٢٦ حزيران :" وزير الخارجية اﻷلماني يخرج عن حلفاء الناتو ويتهم التحالف بالدعوة للحرب ضد روسيا"؛ ويتابع المقال:" فرانك وولتر شتاينمر" (Frank WSte) - أي وزيرالخارجية اﻷلماني - تحدث ضد مناورات الناتو الجارية في بولونيا والبلطيق، واصفا إياها ب التهديد بالحرب " ، وأضاف المقال ، نقلا عن أقوال الوزير اﻷلماني :" كل من يعتقد بأن استعراضا رمزيا لدبابة على الحدود الشرقية للتحالف يمكن له أن يأتي باﻷمن فهو مخطيء"، وأضاف الوزير: " سنكون عقلاء حقا بأن ﻻ نقدم الغطاء لتجديد مواجهة قديمة" .

وكان وزير الخارجية اﻷلماني يتكلم عقب بدء الناتو، في وقت سابق من حزيران ، أكبر مناورة حربية في أوروبا الشرقية منذ انتهاء الحرب الباردة. هذا، وكان وزير الدفاع اﻷلماني قد انتقد ، بدوره ، هذه النشاطات الحربية للناتو ، التي تدفع بها واشنطن . وهذا الموقف اﻷلماني المتحدي والناقد ، علنا، للسياسة اﻷميركية ، والذي هو اﻷول من نوعه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، ربما كان بداية توجه أوروبا ، بقيادة ألمانيا، شرقا نحو الوحدة اﻹقتصادية اﻷوراسية ، بعد التخلص من بريطانيا ، التي ترمز الى توجه أوروبا نحو الغرب ، نحو الوﻻيات المتحدة.
إن إصابة هذا المحور اﻹمبريالي بشرخ سيعني الكثير في الحياة الدولية ؛ فسيسهل عملية تشكل نظام دولي جديد - متعدد اﻷقطاب ، وسيضعف قبضة القوى اﻹمبريالية تجاه الشعوب اﻷخرى، بعد تفكيك وحدة هذه القبضة اﻹمبريالية ، ويعيد احتدام الصراعات والنزاعات بين الدول اﻹمبريالية على الغنائم، وينال من حلف الناتو العدواني ، وبالتالي يسهل نضال الشعوب في درء التدخل اﻻمبريالي في شؤونها وعرقلة انطلاقها على درب الحرية والتطور المستقل. ومع ذلك ، من السابق ﻷوانه التنبؤ بكامل أبعاد خروج بريطانيا من اﻹتحاد اﻷوروبي ، حيث ما زلنا في مرحلة التهكنات ليس إﻻّ.