خمسون عاما ..خلف قضبان الحياة


محمد دوير
2016 / 7 / 1 - 09:22     

في الحادي عشر من يوليو 2016 أكون قد أكملت نصف قرن في هذه الحياة ، واعتقد أنه بعد هذه السنوات الطويلة ينبغي علي المرء أن يقدم أمام نفسه شهادة حسن سير تستحق هبة الحياة ، ولكنها لن تكون كذلك أبدا ، فتلك السنوات كانت مليئة بالخسائر والضياع والتساؤلات والفقر والألم والحزن ، ولم تكن النجاحات سوي لحظات عابرة سرعان ما تنسحق أمام أوجاع الواقع .
لا أنوي بهذه المناسبة كتابة مذكرات عن تفاصيل حياتي ومحطاتها المختلفة ، فأنا لست رمزا أو صاحب انجازات تستحق الكتابة ولكنها لحظة تاريخية لن تتكرر وأود فقط أو أتوقف متأملا تلك الرحلة الطويلة في سنواتها بحلوها ومرها.
ولدت لأسرة تحت المستوي المتوسط في قرية برنبال بمحافظة كفر الشيخ بمصر ، كنت الإبن الثاني في ترتيب أخوتي ، انتظمت في الدراسة حتي الثانوية العامة، وتعثرت بي الحياة حتي كادت أن تعصف بي خارج المعقول والمتعارف عليه ،في صيف 1985 صرت يساريا اتردد علي مدارس الفكر السياسي التقدمي ، كان عبد الناصر رمزا وطنيا بالنسبة لي ، سرعان ما تهاوي بعد بضع قراءات ، وقع في يدي عبر استاذ لي في الفكر الاشتراكي كتاب " اللينينة ومعركة الأفكار " الكتاب تقريبا 800 صفحة انهيته في ثلاثة أيام ، وبدأت حياتي تتغير ونظرتي لدوري في الحياة يختلف، وقتئذ التحقت بكلية التربية الرياضية بطنطا ، فقد كانت لي سمعة ومهارات كروية رشحتني للانضمام الي نادي الاتحاد السكندري لعدة اسابيع وامتنعت عن مواصلة التدريبات لاعتقادي أن لي دور أكبر من ذلك ، نفس الأمر حدث في التربية الرياضية التي تركت الدراسة فيها بقرار شخصي نتج عنه أن ركبت قطارا من طنطا الي الاسكندرية التي كنت لا أعرف فيها أحدا ، اخترت الاسكندرية لإنها الأقرب لقريتنا ، ولكونها مدينة بها ثلث الطبقة العاملة المصرية، كان قرارا غبيا ، ومتسرعا وغير مدروس ، واعتقد أنني نادم عليه حتي الآن..كان مجموعي لا يؤهلني لمواصلة الدراسة سوي في المعهد الفني بالاسكندرية فحولت أوراقي اليه وأنا غير مقتنع به، ولم احضر فيه محاضرة واحدة ، وبعد مزيد من التفكير قررت وضع حدا لتلك المهزلة التي وضعت نفسي فيها فدخلت الجيش وخرجت منه ابحث عن عمل ،ووجدت فرصة مناسبة ، وسرعان ما بدأت من جديد رحلة مواصلة التعليم، فدرست ثانوية عامة مرة أخري والتحقت بكلية الآداب قسم الفلسفة ، ومنها الي الماجستير في فلسفة العلم ، والدكتوراة كذلك في فلسفة الاحتمالات..
تزوجت من رفيقة العمر ألفت شافع التي درست الحقوق بجامعة اسكندرية ، ثم التحقت بكلية الاداب قسم المسرح وعينت معيدة بالقسم وهي الآن مدرس النقد بآداب اسكندرية ، نتج عن زواجي منها ولد وبنت ، مروان وسلمي,, ولكن القدر يتدخل ويخطف مروان وهو ابن اربع سنوات وثلاثة شهور بعدما قدمت اخته سلمي الي الحياة بشهر واحد، وكأنه كتب علينا أن نربي طفلا واحدا فقط..رحل مروان وبقيت سلمي ، سلوي لنا في الحياة..
تلك هي القصة باختصار شديد..فما الذي تعلميته منها ؟؟
تعلمت اشياء كثيرة ، ولكن أصعب أنواع التعلم هو الذي يأتي بعد فوات الأوان، فالمؤكد أنني لم أندم علي ثلاثة أشياء ، أن أصبحت شيوعيا ، أن تزوجت من ألفت شافع ، أن درست الفلسفة . فيما عدا ذلك فقد كان من الممكن أن يصبح الاختيارات أفضل . لي أصدقاء دفعت من عمري لأجلهم ، ولكنهم خذلوني في مواقف كنت احتاجهم فيه . انضممت الي حزب التجمع في 1986 ، والي الحزب الشيوعي المصري قبل ذلك بشهور ، تعلمت في تلك السنوات من خلالهما أشياء سلبية أكثر مما تعلمت من ايجابيات، رأيت قادة يخالفون القيم الاشتراكية ، ورأيت رموزا تعبث بالمفاهيم ، ورأيت ما شوه مفهومي عن التنظيم الحزبي ، لقد أثر وجودي في هذين الحزبين علي بصورة سلبية جعلتني اتسأل دائما كيف قضيت كل تلك السنوات فيهما ؟؟ ولماذا لم انشغل بحياتي أكثر ، وبمستقبلي أكثر ، وبتأسيسي النظري أكثر ؟ ولكن يبقي أن وجودي في حزب التجمع بالذات منعني من أن تجرفني سلوكيات منحرفة نظرا لأنه في الاسكندرية تحديدا كان الحزب زاخرا بقيم انسانية راقية احتضنتني وحافظت علي من الانحراف الذي قد يصيب شاب في العشرينات من عمره.ثم كان لي تجربة قصيرة بالحزب الاشتراكي المصري وانتهت .والأن لا أفكر مطلقا في الانضمام لحزب يساري، فالعمل الحزبي في مصر يحتاج مراجعة ، والحركة الاشتراكية المصرية لم تزل تعاني من قبائلية موجعة تجعل الحياة بها جحيم لا يطاق.
..الآن.. وبعد مرور 50 سنة يجب أن أقف أمام نفسي وأمامكم بكل ضمير حي ، وأقول لم أزل مؤمنا بأن الاشتراكية هي مستقبل البشرية.. وأن خسارة الأهل لا يمكن أن يعوضها الرفاق ، وأن التعليم ، التعليم ، التعليم هو القيمة الوحيدة الباقية لنا ، بدونه نصبح بلا قيمة ، وأن الإلتزام الخلقي هو انجلينا الحقيقي ، لم أزل أزهو وأفتخر بأنني لم أضع في فمي مدي حياتي مثقال ذرة من خمر أو بيرة أو أي نوع من المخدرات ، ولم أعرف في حياتي قط إمراة سوي زوجتي الحالية ، ومن قبلها سيدة فاضلة كانت تربطني بها علاقة عاطفية ، واشهد أمامكم بأن نفسي لم تتلوث في حيض الشبهات الأخلاقية، ومن تعامل معي يعرف جيدا عني هذه الخصال، وأشهد أيضا انني لا أعرف الكذب ،وأقر واعترف بأن آفة التكبر والتعالي والعجرفة كانت خصال تطاردني مدي حياتي، ولن انكرها علي نفسي، فقد يحكم علي فيها من تعامل معي عن قرب...أقر واعترف أيضا ، أن وفاة مروان ابني في 2007 كانت نهاية مبكرة لحياتي، ومهما حاولت التغلب علي ذلك الإحساس فلن يموت بداخلي حتي ألتصق به في قبر واحد .
..ثم كانت لي تجربة في يسار موحد- اعتقدها ستسمر معي لسنوات قادمة – تعلمت منها الكثير ، ربما أكثر مما تعلمت في حياتي السياسية كلها ، لامست الواقع اليساري أكثر وعن قرب، تعرفت علي شباب قمة في الوعي، تجولت في كل مصر تقريبا ، أنفقت من جيبي ما يفوق قدراتي المالية ، وسافرت الي محافظات كثيرة في ظل ظروف صعبة ، تعرضت في احدها للموت أثناء العودة من المنصورة فجرا في فصل الشتاء، وكادت السيارة الأجرة أن تنقلب بعد أن خرج بها السائق من علي الطريق ، ومرة ثانية أثناء عودتي من المحلة الكبري الي الاسكندرية..حاولت أن اتواصل مع جيل اتمناه جيلا قويا يرفع راية العدل والحرية ، وبقدر استطاعتي حاولت وقدمت ما أملك من زاد معرفي.
بعد 50 سنة..لا أعتقد أن بإمكاني تقديم شيء لنفسي وللأخرين أكثر مما قدمت ، فالسنوات القادمة ستكون سنوات ضعف في الحركة والفكر والقدرة علي التواصل، اتمني علي جيل الشباب الحالي أن يدرك قيمة الزمن ، ويتعلم من تجارب الآخرين ، فالسنوات تمرق من العمر كما يمرق الماء من بين الكفين ، اتمني علي جيل الشباب أن يدرك مكمن قوته ، وأن يحول صراع الاجيال الي صراع أفكار وليس صراعا بحسب شهادة الميلاد ...فلو عاد الزمان بي..سأختار نفس المحددات الفكرية ، ولكنني سأتجه اتجاها أخر ، ربما سأكون أكثر تواضعا ، وأكثر علما ، وأكثر حبا لأهلي ورفاقي وأصدقائي..فنحن نسعي الي الكمال ولكننا لا ندركه أبدا ، فقد الذي يدركنا هو الموت، أحيانا ونحن أحياء.ورغم كل ذلك..سيبقي ضميري مستريحا لأنني لم اعرف الخيانة قط ، ولم أقصر في حق زميل أو رفيق قصدني في خدمة ، ولم اتهاون في التعليم ، والحمد لله صورتي أمام نفسي معقولة،وإن كانت غير مثالية ..
كل سنة وانتم طيبين .. ومصر بخير ..ونلقاكم في عيد ميلادي المائة.