اليسار في المرحلة الانتقالية: تحدّيات وأسئلة


خالد حدادة
2016 / 6 / 24 - 09:34     



إن إطلاق اسم «الربيع العربي» على الحراك الشعبي الذي بدأ في العالم العربي منذ خمس سنوات، هو تعبير غير علمي، حتى لا نقع بتوصيفات أخرى لها طابع اتهامي. وهو بأحسن الحالات توصيف شاعري وأخلاقي، إذا ما وجد ما يبرره مع بدايات الحراك. أمّا اليوم فلا يمكن تبنّيه. ومنذ انتفاضة تونس، كان لنا موقف واضح، رأينا فيه أن التحركات في تونس ومصر وما تلاها، إنما هي سيرورة أو مسار ثوري، ناتج عن الانتفاضة على حالة موت سريري للنظام الرسمي العربي، بمواصفاته الطبقية والسياسية التي شكّلت على الدوام، جزءاً من المشروع الغربي وبشكل أساسي المشروع الأميركي في المنطقة.
«تشويه» الحراكات العربية
واعتبرناها سيرورة ثورية، نتيجة توصيفنا للشعارات والأبعاد السياسية والاقتصادية ـ الاجتماعية للانتفاضات. وتصدّينا لمنطقين حاولا برغم كونهما من موقعين مختلفين، إدانة هذه الانتفاضات وتشويهها. الأول هو الذي استعجل الحكم واعتبر الانتفاضات جزءاً من المشروع الأميركي. والثاني هو المنطق الليبرالي الذي روّج للمفاهيم الملتبسة، كـ «الصدمة الحضارية» و «يقظة العقل العربي» ومنها تعبير «الربيع العربي»، أي أنه حصر المطالب بإدخال الديموقراطية إلى الحياة السياسية، مقللاً إلى أقصى حد من العوامل الأساسية، أي الاقتصادية ـ الاجتماعية، ومهملاً القضية الوطنية كعامل رئيسي.
وتلتقي هذه المفاهيم مع اعتبار العالم العربي «عالماً ميتاً» و «العقل العربي» عقلاً قاصراً وأن المقياس الوحيد هنا يتمثل بالتجربة الديموقراطية (النمط الغربي البرجوازي من هذه التجربة)، وكأن المسار الديموقراطي مسار مستقلّ. بينما منطقنا الجدلي، ينطلق من اعتبار مربع الديموقراطية والتحرر الوطني والاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، مربعاً متكاملاً، أنتجت عملية تفاعل ضلوعه الانتفاضات العربية.
فالميت، هو النظام الرسمي العربي وليس حراك الشعوب العربية بتاريخه الطويل والانتفاضات التي قامت في وجه هذا النظام. والقوى الاجتماعية الفقيرة والمهمّشة كانت قاعدة هذه الانتفاضات. والدور الأساسي كان للشباب فيها لكونهم القطاع الأكثر. علماً أن كثيراً من مثقفي الغرب وبعض مَن يُترجم عنهم في العالم العربي، حاولوا من خلال حصر الحراك بالشباب إعطاء الحركة طابعاً «جماعوياً» على حد تعبير فيصل درّاج (مجلة «الطريق»)، وبالتالي «لا طبقياً».
والتشويه الثالث في التوصيف تمثّل بإعطاء الانتفاضة طابع المفاجأة وبعزلها عن كل النضالات الاجتماعية والوطنية التي ملأت التاريخ العربي الحديث، في تونس ومصر ولبنان وفلسطين وسواها، وكذلك عن المقاومة الشعبية في وجه العدو الإسرائيلي من لبنان إلى فلسطين.
كيف هي «سيرورة ثورية» فيما نحن اليوم نعيش في حال من التفتت وخطر التقسيم وأسوأ أشكال التعبئة والصدامات ذات الطابع المذهبي والقومي؟
الهجمة المضادة
لم يكن للقوى الثورية القدرة ولا ساعدها ميزان القوى العربي والعالمي على استكمال مسارها. وقد حققت الهجمة المضادة التي قادتها القوى المعادية للثورة، والتي أعلن عن تحالفها الرئيس الأميركي باراك أوباما حتى قبل انطلاقة انتفاضة تونس في جامعة القاهرة، حيث حددها بتحالف الغرب بقيادة الولايات المتحدة مع الأنظمة المعتدلة وحركات الإسلام المعتدل (النموذج التركي؟). وطبيعي فإن مقياس الاعتدال هنا، هو الموقف من العدو الصهيوني ومن الخطة الأميركية.
حققت الهجمة المضادة نجاحات جدّية على محاور عدة:
1ـ منع استكمال العملية الثورية في البلدان التي نجحت بـ «إسقاط الرئيس» عبر دعم قوى «الثورة المضادة» (بقايا الأنظمة ـ التحالف الطبقي الحاكم ـ العسكر ـ «الاخوان المسلمين») وعبر تحويل الانتفاضات الشعبية إلى حالات مسلّحة، المكوّن الأساسي فيها حركات الإسلام المتطرف.
2ـ استباق الحالات الشعبية ذات الأفق الديموقراطي، في البلدان التي تتسم بالمواصفات السياسية ـ الاقتصادية للنظم الديكتاتورية، ولكنها ليست ضمن سلة «الاعتدال» الأميركي (سوريا كمثال أساسي).
3ـ تحصين موقع الدولة الصهيونية، وحصار النضال الفلسطيني وتحويل التناقض في المنطقة تناقضاً مذهبياً، سنياً ـ شيعياً أو عربياً ـ إيرانياً، وجعل قضية فلسطين تتراجع إلى دائرة النسيان.
4ـ قمع أي تحركات في الخليج، كالحراك البحريني وإرهاصات التحرك في السعودية، وإعطائها طابعاً مذهبياً.
5ـ الاستناد إلى الموقع المالي والاقتصادي للسعودية وقطر وسائر دول الخليج وتقديمها كقوة حاسمة داخل الجامعة العربية.
التحديات الراهنة
أمام الهجمة المضادة وما حققته، تطرح تحديات عدة:
ـ التحدي الأول: الاعتراف بما حققته الهجمة المضادة. ليس للخضوع لموجباتها بل لرسم آليات مقاومة نتائجها.
ـ التحدّي الثاني: عدم التراجع تحت ضغط الهجمة، وبالتالي رفض الانهزام والالتزام بمنطق الحراك الثوري، برغم حالة التراجع، وإعادة تقييم المرحلة وتحديد قوى الثورة واستعادة الطابع الطبقي لهذه التحركات.
ـ التحدّي الثالث: استعادة قضية فلسطين كأساس في تحديد موقف القوى السياسية وتوصيفها، وبالتالي منطق التحالف معها.
ـ التحدّي الرابع: إعادة تقييم الوضع الاقتصادي في المنطقة لاكتساب القدرة على تحديد القوى التي يمكن أن تشكل أساساً في استنهاض الحراك الشعبي.
ـ التحدي الخامس: تحديد ميزات حركة التحرر الوطني العربية في طابعها الجديد، خصوصاً أن جزءاً أساسياً من التحالف الذي قادها في فترة نهوضها تمثل بالبرجوازية الوطنية التي، وبفعل التحولات الاقتصادية للنظام الرأسمالي، فقدت موقعها وبالتالي دورها، بل تحوّل جزء أساسي منه إلى الاقتصاد الريعي، مستفيداً من موقعه في السلطة. وتحوّلت القيادة اليمينية التي تمثلها هذه الفئة إلى سلطة تابعة اقتصادياً، كمقدّمة لتبعيتها السياسية.
إن هذا الواقع يدفع باتجاه تحديد التحالف الشعبي ـ الطبقي الذي من المفترض أن يقود حركة التحرر في مهماتها الجديدة.
إن الوضع العربي اليوم يتسم بهذه المرحلة الانتقالية الخطيرة والمكلِفة، والتي يتواجه فيها بشكل رئيسي المشروع الأميركي مع طموحاتنا بالتحرر الوطني والتحرر الاجتماعي. وهذه السمة الانتقالية وسيرورتها تنعكس على طبيعة التحديات التي نواجهها، بحيث يُفترض أن تكون خطوط المواجهة واضحة، لا قائمة على شعارات انتقالية (مترددة) تخضع لمنطق الهجمة الأميركية، وتجرّنا فيه إلى ملعبها التي هي فيه الأقوى. شعارات مثل تحرير فلسطين وإقامة دولتها الوطنية المستقلة، وبناء الدولة المدنية الديموقراطية، واستعادة الثروات العربية، والتكامل السياسي والاقتصادي في العالم العربي، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
على أن القضايا المذكورة تطرح سؤالاً يتّصل بموقع اليسار وتحدياته في كل منها.
إننا في لبنان، وعشية احتلال العدو الإسرائيلي لأرضنا العام 1982، لم نكابر. اعترفنا بانتصار المشروع الأميركي في تلك المعركة وليس في الحرب والصراع، ورفضنا نتائج الهزيمة ودَعَونا للمقاومة. وبهذه المقاومة أي «جمول» بدأ عصر الانتصارات المتقطعة والانتفاضات الشعبية بكل أشكالها.
ومسبقاً نؤكد أننا لن نكون إلاّ ملتزمين باليسار ولن نعتمد خطاباً نبرر عبره وجودنا، علماً أن الخطاب هذا يصل في كثير من الأحيان إلى حد «شتم» اليسار العربي والبراءة من الالتزام بهذا الخط.
ولذلك فإن مقاربتنا لدور اليسار تنطلق من ثوابت عدة:
الأول: إن أزمة المنطقة والوضع الحالي سببها المشروع الأميركي الصهيوني وتحالفه مع أنظمة المنطقة الرجعية.
الثاني: إن بعض الأنظمة التي لم تكن جزءاً من هذا المشروع، كانت على المستوى ذاته في ممارسة القمع تجاه شعوبها. وتتحمّل من موقعها مسؤولية أساسية حيال ما وصلت إليه الأزمة. وفي المثال السوري وقفنا مع ضرورة بناء جبهة للمواجهة في سوريا، تتصدّى من موقعها الوطني الديموقراطي للتدخل الخارجي والإرهاب. جبهة تطرح مشروعها الخاص للحفاظ على وحدة سوريا، أرضاً وشـعباً وجيشاً ومؤسسات، ولبناء الدولة المدنية الديمقراطية المقاومة؛ دولة الرعاية الاجتماعية.
الثالث: إن اليسار لا يخرج من أزمته إلاّ من خلال انخراطه في معارك شعبه، عبر صياغة مشروعه الخاص لمواجهة العدو الصهيوني والمشروع الأميركي، ولبناء الدولة العلمانية الديموقراطية ومواجهة الإرهاب وبناء دولة العدالة الاجتماعية. وعلى هذه القاعدة كان حزبنا أساساً في الحراك الشعبي والنقابي والذي بدأ منذ سنوات عدة.
إن الحراك الثوري العربي، وبشكل خاص خلال هذه المرحلة الانتقالية، مدعوّ للتفكير بالعديد من الأسئلة ـ التحديات التي سنكتفي هنا بإيراد بعض منها:
ـ أولاً: في موضوع الأولويات. إن المنطق الذي يحصر التناقض بالعامل الأساسي (المشروع الأميركي) وحده ويلغي تأثير العوامل الأخرى، هو منطق مثالي لا يصحّ.
ـ ثانياً: ربطاً بالموضوع الأول يأتي موضوع التحالفات. هل يكفي الاتفاق مع أي طرف (بما في ذلك بعض القوى الدينية) حول موضوع مواجهة المشروع الأميركي كأساس لبناء الجبهات، خاصة في ظل موازين قوى ليست ولن تكون في المستقبل القريب لصالح قوى اليسار؟ وهل يمكن عزل هذا الموقف عن الموقف من الحريات ومن الموقع الاقتصادي ـ الاجتماعي وسواها من القضايا السياسية؟
ـ ثالثاً: هل التغيير ممكن في أي بلد عربي بمفرده، وما مدى أهمية الأطر اليسارية العربية المشتركة؟ علماً أننا سعينا مع العديد من قوى اليسار إلى تشكيل «اللقاء اليساري العربي» الذي نؤكد أهمية تطويره وتفعيل برنامجه.
ـ من مداخلة لخالد حدادة في الدورة الأولى من «لقاءات لوموند ديبلوماتيك» الطبعة العربية