صندوق النقد الدولي يتنصل من مبادئ الليبرالية المحدثة ويعترف بإفراطه في تعزيز العولمة


عدنان عباس علي
2016 / 6 / 19 - 19:33     

على مدى ثلاثين عاماً تقريباً، أعرب صندوق النقد الدولي عن إيمانه التام بسياسات الليبرالية المحدثة ودعمه المطلق للعولمة.
وساير صندوق النقد العربي الصندوق الدولي، فتبنى هو الآخر هذه السياسات بلا تمحيص، وراح يوجه الدعوات لكبار الموظفين في المصارف المركزية ووزارات المالية العربية، لحضور ندوات يشارك فيها خبراء من صندوق النقد الدولي، لإرشاد المشاركين إلى ضرورة أن يعمل كل واحد من الحاضرين – كل حسب اختصاصه – على تنفيذ إرشادات الليبرالية الجديدة ودعن انخراط بلدانهم في مشروع العولمة، وذلك من خلال فتح الأسواق المحلية بما فيها الأسواق المالية، أمام المنافسة الأجنبية، وتقليص دور الدولة من خلال خصخصة المشروعات الحكومية.
ودأب صندوق النقد الدولي على إكراه كل دولة، تطلب منه العون، أن تفتح مصارفها وأسواقها المالية أمام الرأسمال الأجنبي، وأن تخصخص أكبر قدر من المصانع والشركات الحكومية، حتى إن لم تكن في الدولة المعنية الشروط الموضوعية لنجاح عملية الخصخصة، أي حتى إن كانت الدولة المعنية لا تمتلك مؤسسات الرقابة على المصارف وعلى أسواق المال ولا تتوفر على المؤسسات المعززة للمنافسة، والمانعة لتعاظم الاحتكار. كما يشترط على هذه الدول، خفض الإنفاق الحكومي المخصص للرعاية الصحية والتعليم ولدعم أسعار المواد الغذائية وسلع الوقود.

وأشاعت هذه الإرشادات والمناهج - المفروضة قسراً على العديد من الحكومات – الفقر وأسفرت عن اندلاع ثورات واضطرابات استهدفت برامج الصندوق والساسة الذين انصاعوا لما يسمى ببرامج الإصلاح الاقتصادي.

والآن، وبعد كل ما كان من تعاظم في مستويات الفقر، واضطرابات كادت أن تحرق الأخضر واليابس في العديد من الدول، والدول العربية بنحو مخصوص، يعلن صندوق النقد الدولي في المجلة التي يصدرها باسم "التمويل والتنمية" (عدد يونيو 2016) عن شكوك باتت تساوره. ففي الدراسة المقدمة من قبل خبرائه بعنوان "الليبرالية الجديدة – هل شابها الإفراط؟، يختبر الصندوق سياساته السابقة فيتساءل مشككاً: هل حققت العولمة، فعلاً، العائد، الذي بشر به خبراء الصندوق؟ وهل أفضت برامج الخصخصة والتقشف إلى النتائج، التي أكد عليها ممثلو الصندوق أينما حلوا وبتجاهل تام لخصائص الدول المختلفة؟. وهل كان الصندوق على حق، حينما دأب على الزعم أن تحرير أسواق رأس المال إجراء لا بد منه؟
ويطرح الصندوق هذه الأسئلة في سياق نقده للذات، من هنا نراه يعترف بخطل برامجه، فيقول بصريح العبارة: "أنه كان هناك نوع من المغالاة في تصور منافع بعض السياسات، التي تمثل جزءاً مهماً من جدول أعمال الليبرالية الجديدة.“
وعموماً لا مندوحة للمرء من أن يرحب باعتراف الصندوق بما ارتكب من أخطاء أساسية. فالاعتراف بالخطأ فضيلة.
ويركز الصندوق نقده الذاتي على الموضوعين الرئيسيين، اللذين كانا عماد برامجه: على تحرير أسواق رأس المال وعلى سياسة التقشف.
فعلى ضوء النتائج المستخلصة، ما عاد الصندوق واثقاً من أن إلغاء القيود على حركة رأس المال عبر الحدود الوطنية، أي تحرير الحساب الرأسمالي، قد كان، في المنظور العام، ذا نفع واضح بالنسبة للدول الفقيرة. فالتجارب تبين بجلاء أن تدفق رأس المال الأجنبي على دول العالم الثالث زاد من تعرض هذه الدول للأزمات. فبحسب وجهة نظر الصندوق الجديدة "يبدو أن بعض التدفقات الرأسمالية، وخاصة التدفقات الرأسمالية قصيرة الأجل" لا تحقق المنافع المتوقعة منها، ولا النمو الاقتصادي المراد تحقيقه من خلال هذه التدفقات الرأسمالية. فهذه التدفقات تسفر عن "تزايد احتمالات وقوع أزمة". كما يستنتج هؤلاء الخبر الآن، ما استنتجه الكثير من الاقتصاديين منذ عقود من السنين، فهم أيضاً صاروا يرددون أن: "هناك أدلة متزايدة على ارتفاع نسبة التكلفة إلى العائد في ظل انفتاح الحساب الرأسمالي...“. ومعنى هذا، هو أن فرض قيود على حركة رأس المال بين الدول إجراء يمكن أن يسفر عن نتائج إيجابية، بحسب تصورات الصندوق الجديدة. ففي بعض الحالات قد تكون هذه القيود نهجاً لا بد منه.
كما تغيرت رؤية الصندوق لسياسة التقشف. ففي الدراسة المذكورة، يقول خبراؤه صراحة: „ولا يقتصر تأثير السياسات التقشفية على توليد تكاليف كبيرة يتكبدها الرخاء بسبب القنوات على جانب العرض، وإنما هي أيضاً تضر بالطلب – وتؤدي بالتالي إلى تفاقم أوضاع توظيف العمالة والبطالة.“ وتشير الدراسة إلى أنه "نظراً لارتباط الانفتاح والتقشف على حد سواء بزيادة عدم المساواة في الدخل، يفضي هذا التأثير على التوزيع إلى توليد حلقة من الآثار السلبية المرتدة. وربما أدت زيادة عدم المساواة الناتجة عن الانفتاح المالي والتقشف في حد ذاتها إلى تخفيض النمو. بينما يهدف جدول أعمال الليبرالية الجديدة في صميمه إلى رفع معدلات النمو. وتوجد في الوقت الحاضر أدلة قوية على أن عدم المساواة يمكن أن يفضي إلى حدوث انخفاض كبير في مستوى النمو واستمراريته على حد سواء.“ وعلى ضوء هذه النتائج، صار خبراء الصندوق ينصحون بضرورة "تبني رؤية مختلفة … عند تصور النتائج التي يُرجح أن يحققها جدول أعمال الليبرالية الحديثة.“
د. عدنان عباس علي
أستاذ جامعي من العراق