العقل العربي وتحديات المنطقة


محمد بوجنال
2016 / 5 / 31 - 13:50     



نستخدم "العقل" في عملنا هذا بمعناه الأنتربولوجي لا النخبوي. بناء على ذلك، فعندما نستدعي ونستحضر العقل العربي قبل الحراك العربي، نجده من حيث المضمون يتضمن الاهتمام بالقضايا العربية مع التركيز على القضية الفلسطينية. إنه المضمون الذي أثناء وبعد الحراك العربي قد عرف تراجعا من حيث الطرح والحدة عن ما تضمنه العقل العربي ذاك سابقا وذلك لأسباب عدة منها إصرار الدول الكبرى وحليفتها إسرائيل على بداية تنفيذ أحد جوانب خطة برنامجها السياسي الاستراتيجي في المنطقة والذي مؤداه بداية فصل مضمون العقل العربي عن القضايا العربية التي أهمها القضية الفلسطينية وبتنسيق مع إسرائيل. والباحث والمتتبع لهذه القضايا العربية يستنج أن تحرير القضية الفلسطينية معناه، وبالكاد، تحرير القضايا العربية. وعليه ،نسجل على الحراك العربي وما بعده عدم الاهتمام بالقضية، لا في شعاراته كحراك جماهيري، ولا في مكونات البناء السياسي للأنظمة العربية ما بعد الحراك.وللتقبير التدريجي للقضية، تم العمل على خلق قضية أخرى أصبحت تحتل بؤرة انتباه العقل العربي باعتماد النظرية العلمية القائلة بأن الطبيعة تخشى الفراغ. فاستراتيجية الأنظمة الرأسمالية بما فيهم إسرائيل والحلفاء المحليين، تدرك أهمية وإمكانات ذلك المبدأ؛ لذا، حرصت وتحرص على عدم تهميشه. فالعقل فلسفيا وعلميا لا يمكن أن " يكون " فارغا؛ فهو ،على الدوام، يرفض الفراغ لأن ذلك ليس من طبيعته، لا الفلسفية ولا البيولوجية. وعلميا فالعقل ،عندما يمتلك حريته ويتخلص من ثقافة الاستبداد والتحريف، يصبح عقلا يقظا ومتنورا. وبطبيعة الحال، وجود العقل العربي بهذا المعنى يقتضي " الثورة الثقافية الدائمة " التي هي التهديد المباشر على المذيين القريب والمتوسط لمصالح الأنظمة الرأسمالية وحليفتها إسرائيل وكذا الأنظمة العربية. فالرأسمالية تلك أدرى بهذه الدلالة بناء على أعمال وأبحاث مؤسساتها ومراكز أبحاثها. ومعلوم أن مراكز الأبحاث والدراسات تعرف جيدا من خلال المختبرات والأبحاث الميدانية والعمليات الاستنباطية أن العقل بيولوجيا لا يعرف الجمود بفعل حيوية مكوناته الكميائية والفزيائية. فهذه المكونات هي عبارة عن علاقات دائمة النشاط. لذلك، عملت الأنظمة المستبدة والمتسلطة العربية بكل ما لديها من إمكانات وقدرات، لمنع العقل العربي من ممارسة حريته معتمدة مختلف آلياتها من قوة مباشرة (الأمن، المخابرات، الجيش) وغير مباشرة (الدساتير، والمؤسسات الحكومية والبرلمانية والحزبية والنقابية والمدنية). لذا، فالعقل العربي يوجد اليوم، كما بالأمس ، مسدودا عليه في صندوق مقفل إلى أجل غير مسمى. بهذا الوضع نفهم معنى التعليم والأخلاق والقيم والمعتقدات ومكونات المجتمعات العربية التي أفرز تفكيكها ما يسمى بالقبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية التي احتلت اليوم مساحة العقل العربي وأحلت مجازر الطائفية والمذهبية من قاعدة ونصرة وداعش محل جوهر القضية العربية. فكيف يمكن لعقل تم منعه من حقه في ممارسة أنشطته البيولوجية، أن تكون له كينونته التي هي بالكاد، الحرية. لكن، وكما سبق القول، فذلك هو جزء من أجندة النظام الرأسمالي الراهن وحلفائه بالمنطقة الذين تمكنوا من ترويض العقل البيولوجي العربي بمستوى آخر هو المستوى الثقافي.
وفي هذا المستوى الثاني، المستوى الثقافي، يوجد العقل العربي بعد الحراك في وضع تتقاسمه أربعة أشكال ثقافية أغلبها تعمل بوعي أو بدون وعي، على ترويض العقل وتوظيفه وتحريفه وتشكيل محتواه بما يتناقض ودلالته " كوجود " بإيعاز وبرمجة من طرف النظام الرأسمالي الراهن وبتنسيق مع إسرائيل والحلفاء المحليين. أول الأشكال الثقافية تلك هي التي يعشها عقلها بمنأى عن قضاياه الأساسية التي هي قضايا " الوجود " العربي الذي تعتبر القضية الفلسطينية عموده الفقري؛ فهي ثقافة تم تصميمها بالشكل الذي جعل عقلها كشعوب لا يتجاوز انشغالات اليومي على المستوى المعيشي. وثانيها ثقافة التيارات الأصولية حيث تجريم استخدام واستعمال العقل لأنه، في منظومتهم، هو أساس الانحراف و الإلحاد؛ وعليه، فقد أحلوا محله مبدأ السمع والطاعة الذي حددوه في مرجعية إسلام السلف الصالح ذو المعنى الحرفي والمطلق والصالح لكل زمان ومكان؛ إنها ثقافة اللاعقل التي تشحن الإنسان العربي بالابتعاد عن التفكير هي أساسا قضايا التحرير. وثالثها ثقافة الحداثة التي يعتبر العقل من أهم مبادئها كشرط للتحرير وتحقيق النمو والتنمية. إنها الدعوة إلى عقلنة القضايا العربية التي منه القضية الفلسطينية؛ فالعقل هو أساس الابتكار والبناء والتدبير وخوض الصراع بما هو صراع لتحقيق تحرير المنطقة الذي يستحيل حصوله دون النظام والتنظيم، وهما عمليتان عقلانيتان ترفضان التفكير الميتافيزيقي والاستبداد الديني. فهذا النوع من الثقافة العقلانية لا يتصور التحرير والتطور، إلا بعقلنة الدولة والشعوب وبالتالي مختلف المؤسسات: عقلنة الإدارة والإنتاج والتعليم والقيم والأخلاق، وكذا عقلنة التعامل مع الإسلام. بهذا المعنى سيتمكن العقل العربي من الوعي بدلالة وجوده التي هي فهم ومواجهات الصراعات المفتعلة من طرف الدول الكبرى وحلفائها المحليين للحفاظ على استمراراستعمار المنطقة وبالتالي استمرار استعمار العقل. ورابعها العقل كما تحدده الأنظمة العربية المتسلطة حيث ينظر إلى قضايا المجتمعات العربية بناء على تحديده بثنائية: المحافظة والحداثة حيث نجد توظيف الحداثة لصالح المحافظة أو قل التشبت بالحداثة تلك كواجهة للإستهلاك خدمة لمصالحها ومن ورائها مصالح الدول الكبرى.
وعموما، فالراهن العربي يوجد في وضع يتميز بالاقتتال والاحتلال سواء منه الجديد :العراق، ليبيا، سوريا، اليمن،أو القديم: فلسطين وسبتة ومليلية والجزر الجعفرية, إنه الوضع العربي الضائع بين وجود عقول عربية تتقاطع فيما بينها قي كونها غائبة ومغيبة ومستلبة دون نكران الاستثناءات على المستوى الحداثي: عقل شعبي ذو مستوى وعي أدنى، وعقل أصولي سلفي ذو مستوى وعي أقرب إلى الصفر، وعقل حداثي ذو مستوى وعي إرهاصي، وعقل سلطة ذات مستوى وعي ديماغوجي. فكم من الوقت يحتاج العالم العربي لبناء العقل القادر على تحرير المنطقة العربية التي منها الفلسطينية؟ فالوضع ذاك يحتاج إلى خلق شروط إغناء التراكم الحداثي الذي به يمكن للعقل العربي الانتقال من مستوى الوعي الإرهاصي إلى مستوى الوعي الأعلى. في هذه المرحلة الأخيرة، سنكون قد أسسنا لبناء العقل العربي ككينونة وتاريخ بالتالي التأسيس لتحرير فلسطين مصحوبة بتحرير باقي الشعوب العربية.