ملاحظات في العمل المصرفي ، البنك المركزي و المصارف الأهلية


عباس يونس العنزي
2016 / 5 / 18 - 16:22     

بعد أكثر من عقد على انقلاب الرئيس نيكسون على نظام بريتون وودز الشهير والذي يعد البداية الحقيقية لتحرير الأسواق وقف الرئيس الأمريكي الراحل دونالد ريغان ليؤكد ويجدد تلك البداية فيعلن ( الحكومة لا تحل مشاكلنا ، انها هي أصل المشكلة ) وذلك في سياق تبنيه لسياسة تحرير السوق من قوى الدولة الضاغطة بقوة على مسارات الوضع الاقتصادي عموما وقطاع المال خصوصا ، فأسواق المال الأمريكية لم يكن بإمكانها تحديد برامج عملها بحرية انما تتلقى من الدولة التوجيهات و التعليمات بما يجب ان تفعله ، وكانت تخضع لرقابة مشددة للغاية حتى اسعار الفائدة ما كان لـها ان تحددها فالتعليمات الحكومية المخيفة المسماة ( regulation Q ) رسمت لبيوت المال معدلات الفائدة التي يجب ان تلتزم بها وقد اتخذ ريغان وقادة أوروبيين تدابير تشريعية و تنفيذية حررت سوق المال و اطلقت نظام العولمة ليشمل معظم اقتصاديات العالم اذ باتوا مقتنعين أن التوجهات الكينزية ( نسبة الى الاقتصادي الانكليزي الشهير جون ماينارد كينز صاحب نظرية دولة الرعاية الاجتماعية ) لم تعد مناسبة لمستوى التطور الاقتصادي و الاجتماعي لدولهم فتبنوا نظرية السوق المحررة من القيود التي بشر بها الاقتصاديان البارزان : ميلتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية عام 1976 و فردريك فون هايك مؤلف كتاب ( الطريق الى العبودية ) ،
وقد حاولت ادارة الاحتلال المؤقتة عام 2004 ان تضع العراق على ذات الطريق ليكون جزءا متفاعلا مع الاقتصاد العالمي و الأسواق المحررة من القيود فأصدرت قانونا للبنك المركزي العراقي بمضاهاة قوانين امريكية وأوروبية حيث جعلت البنك مؤسسة مستقلة تماما و اناطت بها مسؤولية رسم السياسة النقدية و تحديد سعر صرف العملة المحلية وقد بين إعلان صحفي صادر عن البنك المركزي العراقي ملخصا عن أدوات سياسة البنك توضحت فيها مرتكزات السياسة النقدية التي نفذها في السنوات اللاحقة والتي يمكن تلخيصها بمتطلبات الاحتياطي القانوني والتسهيلات القائمة وتسهيلات الاقراض الدائمة و تسهيلات الملجأ الأخير و التسهيلات على الودائع وعمليات السوق المفتوح وطبعا مزاد العملة الأجنبي ، ومن الملاحظ أن الاعلان الصحفي وصف كل الأدوات عدا مزادات العملة بأنها غير كافية لتطوير سوق فعال يوجه القطاع المالي ولذلك أعيد صياغتها بينما وصف المزاد بأنه يعمل بصورة جيدة ومرضية .
ان أساس الأزمة في الاقتصاد العراقي و منها بيوت المال تتمثل بضياع الرؤية و الولاء والارتباك في تعريف طبيعة هذا الاقتصاد و آلياته ، فلا احد يستطيع ان يقرر ان كان نظامنا الاقتصادي ينتمي الى مدرسة الاقتصاد الحر كما نص على ذلك الدستور و بقي النص محض كلمات أو هو نظام يؤمن بتدخل و هيمنة الدولة على كل شيء مثلما كان النظام السابق أو هو نظام اقتصادي اشتراكي على الطريقة السوفييتية ، بل يبدو المشهد الاقتصادي بانه ترقيعي و انتقائي الى ابعد الحدود تصطرع فيه التوجهات بعشوائية غريبة .

ورغم ذلك فقد تمكن البنك المركزي طيلة السنين الماضية من الحفاظ على سعر صرف شبه ثابت للدينار العراقي وذلك نتيجة توفر عائدات دولارية كبيرة ناتجة عن تحسن الصادرات النفطية والزيادة المطردة لسعر برميل النفط ولكن من دون ان يكون هناك تعاون جاد و دراسات مشتركة مثمرة مع مؤسسات الدولة المعنية بالشأن الاقتصادي حيث ترك سعر الصرف العالي للدينار العراقي أثرا سلبيا كبيرا على قطاعات الاقتصاد الحقيقي وساهم بشدة في تعزيز المضمون الريعي للاقتصاد و اعتماده الكلي والمرعب على العائدات النفطية ، وبات ثمة تناقض جدي بين السياسة الاقتصادية الغائمة و المضطربة وغير المسؤولة التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد بعد 2003 و بين السياسة النقدية الانعزالية المتعجرفة التي اعتمدها البنك المركزي الى ان تفجر ذلك التناقض و حققت الحكومة نصرا فعليا على البنك المركزي كان من نتيجته الاطاحة بالمسؤولين البارزين في البنك و توجيه تهم خطيرة لهم لكن من دون تغيير بالسياسة النقدية المقرة سابقا .
وبعد هذا التاريخ هيمنت الحكومة على البنك المركزي و سلبته استقلاليته لكنها بقيت عاجزة تماما امام مهمة تبديل السياسة النقدية تحت وهم و توهم باستقرار اسعار النفط العالية وجاءت الاحداث الأخيرة المتمثلة بانهيار اسعار النفط لتبدد ذلك الوهم و تعري فشل جميع أطراف العملية الاقتصادية بقيادة الاقتصاد العراقي و الارتقاء به وتنويع وزيادة مداخيله .
ان هذا التقديم كان ضروريا للدخول في طبيعة العلاقات التي ربطت البنك المركزي بالمصارف الأهلية التي تأسست بموجب القانون رقم 94 الصادر في 2004 حيث انحسرت تلك العلاقات فعليا لتقتصر على موضوع وحيد وهو مزاد العملة وبات هذا الموضوع هو الفيصل في علاقة البنك المركزي بالمصارف الأهلية أما دور الرعاية والإشراف المصرفي بغية التطوير وتعظيم الموارد ففد تقلص جديا واضمحلت كل الأدوات الأخرى التي اعتمدها البنك المركزي والتي ذكرت آنفا و باتت فرق التفتيش المكلفة بتدقيق عمل المصارف تناقش بإسهاب و تفصيل كل الأمور المتعلقة بمزاد العملة و الحوالات الخارجية حصرا بينما أهملت الى حد مؤسف للغاية الفعاليات المصرفية الأخرى التي تضاءلت بالفعل أو وظفت لخدمة نشاط مزاد العملة . ووصل الأمر الى أن يلجأ البنك المركزي الى اعتبار منع الاشتراك بمزاد العملة كعقوبة حاسمة للمصارف التي ترتكب اخطاء في عملها وقد نشير هنا بأسف الى شبهات فساد تنتاب هذا المشهد المؤلم .
وفي تفسير لهذا الواقع المريرفقد انعكست طبيعة الاقتصاد الريعي الذي بنته الدولة بكل مؤسساتها على عمل المصارف الأهلية وباتت هي الأخرى بنشاط وحيد الجانب تمثل بالاستفادة القصوى من فعالية مزاد العملة التي يقيمها البنك المركزي و الاستغناء عن باقي انشطة العمل المصرفي المعروفة أو توظيفها لخدمته ، وبالتأكيد لا يمكن القاء اللوم كليا على ادارات المصارف الأهلية لأنها موجودة ضمن شروط عمل سيئة للغاية على كل الاصعدة فكل نشاط مهما كان حجمه يظل محفوفا بمخاطر جسيمة نتيجة التدهور الاجتماعي والأمني حيث تغلغلت روح ما يسمى شعبيا بالمادة 56 ( ودلالتها الفساد الكامل ) تماما في كل المؤسسات و الافراد وتطلب الأمر نشاطا ونفقات مضاعفة تضطلع بها المصارف الأهلية لتحقيق مستوى مقبول من الأمن وتقليل المخاطر .
ان الملاحظ في طبيعة العلاقات بين الجهتين كونها متوترة و تسلطية و نظرة الى الكتب و التعليمات والتوجيهات التي تصدر عن البنك المركزي و توجه الى المصارف الأهلية تبين أنها متشددة وتضع المصارف دوما في محل الاتهام بل تضمن احد كتب البنك المركزي عبارات شديدة و تهديد معلن بسحب اجازة العمل المصرفي بدلا من التشجيع على الممارسة الصحيحة بمزيد من الدعم و التسهيلات و التعاون لحل الاشكالات ووضع الخطط المشتركة لتحقيق اعلى قدر من الشفافية و تحقيق شروط الامتثال ومكافحة غسيل الأموال وانتهى ذلك الكتاب الناري بعبارة ( وقد اعذر من أنذر ) ..! .
ان ما لايريد الكثيرون ومنهم موظفون كبار في البنك المركزي الاقتناع به حقيقة ان السوق المالية المحررة من القيود تعتمد كليا في تداولها البضائع المالية على قوانين هذا السوق وفي مقدمتها موضوع العرض والطلب وان الاستهلاك هو مقياس ومحرك العملية الاقتصادية الكلية وهذه القوانين هي التي تتيح للمصارف الأهلية تحقيق ارباح مضاعفة نتيجة تداولها تلك البضائع ، وهذا أمر موجود في كل اسواق العالم الحر و لايقتصر على العراق ، فاستهلاك الجمهور المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي المتطورة قفز بأسهم شركة مثل مايكروسوفت الى مستويات لا تصدق في بضعة ايام ، و بلغت ارباح نوكيا الفنلندية للهواتف المحمولة أكثر من 7 مليار يورو لكنها فضلت نقل مصنعها في بوخوم الألمانية الى رومانيا حيث اجور العمل الأدنى وفقد 2300 عامل الماني عملهم نتيجة ذلك ولم يكن ذلك خطا بل هي قوانين السوق المحررة ، واعتماد العراق كليا على استيراد كل ما يحتاجه يجعل من منحنى الاستهلاك في أعلى مستوياته ويؤدي ذلك حتما الى ارتفاع كبير في ارباح المصارف نتيجة تداولها السلع المالية الضرورية لعملية الاستيراد ، ومن المهم ان نشير الى ان انخفاض مبيعات البنك المركزي من الدولار لم يؤثر على اسعار المواد بشكل جدي وذلك بسسب انخفاض القدرة الشرائية للمواطن و بالتالي هبوط معدلات الاستهلاك ، وهذه معادلات طبيعية وبديهية في حركة الأسواق لكن ما يحصل في سوق التداول هو زيادة في اسعار الحوالات الخارجية وهي أيضا غير مؤثرة على اسعار المواد والبيع بالتجزية في المحصلة .
وتبقى مسألة غسيل الأموال و مكافحتها في اطار العلاقة بين المركزي و المصارف ، حيث نجد ان العائق الجوهري الذي يمنع التجار من التعامل الشفاف و العلني هو مسألتي الجمارك و الضرائب ، و بالتأكيد هناك تناقض كبير بين كون اقتصاد البلاد ريعيا حيث موارد النفط بكاملها تذهب للدولة و بين وجود نسب ضرائب و رسوم جمركية عالية ، فتمويل كامل نشاطات الدولة يعتمد على ايرادات النفط وليس على الضرائب والجمارك ، ومن المنصف والضروري ان يتم تخفيض الضرائب و الجمارك الى حدود الصفر كي نضيق حيز غسيل الأموال المحتمل الى اقل ما يمكن بل ومنعه حيث يكون التجار امام طريق فسيح و آمن للاعلان عن نشاطاتهم دون اللجوء الى اساليب التزوير و التهرب ومن ناحية أخرى سيسد باب كبير للفساد في اكثر من مرفق . وقد قدم آرثر لافر في نهاية السبعينيات نظرية مهمة تقول بحصول الدولة على أمول أكثر حينما تقلل الضرائب وان انعاش الاقتصاد يقترن بتخفيض الضرائب وحرية حركة التجارة و رؤوس الأموال ، وهذا طبعا مع وجود الاقتصاد الحقيقي ، ومع انعدام هذا الاقتصاد والاعتماد الكلي على الاستيرادات تكون صحة هذه النظرية تامة
عباس يونس العنزي