هدايا العلمانية


فريدة النقاش
2016 / 5 / 12 - 08:57     

قضية للمناقشة :هدايا العلمانية

انتخبت لندن عمدة مسلمًا من عائلة مهاجرة، فهل يمكن أن نتخيل أو نتوقع أن تنتخب القاهرة أو بغداد محافظا مسيحيًا؟ هكذا سألنى مذيع فى قناة عربية تبث برامجها من لندن، وقبل أن أرد تذكرت واقعتين كبيرتين فى تاريخنا السياسي، كانت الأولى فى المرحلة الليبرالية فى بداية القرن العشرين حين تولى “بطرس باشا غالي” رئاسة وزراء مصر فى الفترة من 1912 إلى 1914، أما الثانية فوقعت بعد الموجة الثورية الحديثة الأولى فى مصر فى 25 يناير 2011 حين قفز الإخوان المسلمون إلى السلطة وأخذوا يحددون قوانينها ومساراتها، وحاول “عصام شرف” رئيس الوزراء الذى جاءوا به أن يعلن عن نواياه الديمقراطية ومخاصمته للتمييز الطائفى فعين اللواء “عماد ميخائيل” المسيحى محافظًا لـ “قنا”، ولكن المحافظ الجديد لم يستطع أن يدخل إلى مكتبه لأن المظاهرات اندلعت فى المحافظة ترفض أن يكون المحافظ مسيحيًا، وسحب رئيس الوزراء ترشيحه ولم يجرؤ أى رئيس وزراء بعد ذلك حتى بعد موجة الثورة الثانية فى 30 يونيو 2013 على تعيين محافظ مسيحي، رغم أن تعيين وزير أو وزيرين من المسيحيين قد أصبح تقليدا ثابتا وكأن هناك حصة ضمنية لكل من المسيحيين والنساء، وقد نص الدستور الجديد الذى أقره المصريون فى بداية عام 2014 على حصة لكل من النساء والشباب والمسيحيين فى المجالس المحلية، وأقر فى نفس الوقت إنشاء مفوضية ضد التمييز.

فى المرحلة الليبرالية الأولى فى مصر التى قامت فى ظل الاحتلال الإنجليزى ومقاومة الشعب المصرى له لم تكن جماعة “الإخوان المسلمين” قد نشأت بعد ذلك أن جماعة الإخوان هى التى أدخلت الدين والتعصب الطائفى إلى السياق السياسى المصري، وقسمت المصريين على أساس دينى بهدف التعتيم على الصراع الاجتماعي، ووجدت هذه الجماعة دعما متواصلا من كل القوى الدولية والإقليمية التى خافت من دخول مصر إلى الحداثة والديمقراطية والحكم العلمانى الذى يفصل بين الدين والسياسة، وكان اللورد “كرومر” المندوب السامى للاستعمار الإنجليزى فى مصر هو الذى كتب – منزعجًا – فى مذكراته أن المرء لا يعرف المسلم من المسيحى فى مصر إلا إذا رأى أحدهما يدخل إلى الجامع والآخر يتجه إلى الكنيسة.

وأطلقت جماعة الإخوان وكل القوى المتطرفة التى خرجت من معطفها الحملة الظالمة المهووسة ضد التوجهات العلمانية، وأشاعت بين المواطنين المتدينين البسطاء أن العلمانية تعنى الإلحاد وإنكار الدين بإبعاده عن السياسة، مع سعى دءوب لتهميش وإقصاء الثقافة والمثقفين العلمانيين وعزلهم عن الجماهير الواسعة، وأكثر من ذلك اختار مثقفو هذه الجماعة وكل من دار فى فلكهم، وفى ظل نظرتهم الانتقائية للتراث والثقافة الإسلامية.. اختاروا كل ما هو مغلق ومتزمت ومحدود الأفق فيها منكرين أى ارتباط لهذا التراث بزمانه، وكما سعوا لتهميش المثقفين العلمانيين والديمقراطيين المعاصرين لهم، همشوا وأرخوا ستائر معتمة على التراث العقلانى فى الثقافة العربية الإسلامية من “ابن رشد” “للرازي”، ومن “المعري” “لابن حزم” و”الفارابي”، بينما لاحقوا كل المفكرين والباحثين والمجددين فى علوم القرآن والتراث بالتفكير وصولا إلى الاغتيال.

أغلق من أسميهم حراس السماء فى حياتنا السياسية والفكرية الباب أمام التطور الديمقراطى العلماني، مثل هذا التطور الذى لا يكف عن تقديم هداياه للإنسانية وآخرها هذا الإنجاز المشرف الذى حققه الناخبون فى العاصمة الإنجليزية “لندن” حين اختاروا مرشح حزب العمال المسلم عمدة لمدينتهم التى يعتبرها المحللون عاصمة أوروبا، وبهذا الاختيار تجاوز الناخبون كل الدعوات العنصرية المعادية للإسلام وللمهاجرين، وقدموا نموذجا مشرفا للفكرة العلمانية فى التطبيق مؤكدين أن الوعى السياسي، والتدريب الطويل على الممارسة الديمقراطية فى إطار العلمانية لابد أن يفضيا فى نهاية المطاف إلى وضع القيم والمثل العليا التى توافقت عليها البشرية وبلورتها فى شكل مواثيق واتفاقيات تتطور بانتظام إلى وضعها موضع التطبيق، وخلق مجتمعات صحية قادرة على إدماج المهاجرين بصرف النظر عن دياناتهم وأصولهم العرقية وألوانهم.

وتؤدى هذه القدرة على الإدماج والتعايش إلى محاصرة النزعات العنصرية والأحزاب اليمينية المعادية للمهاجرين والمسلمين فى أوروبا فى ظل الصراع المحتدم فيها ضد الرأسمالية الوحشية.

لم أنس أن أذكر المذيع الصديق الذى بدا سؤاله متشائما أن علينا نحن المسلمين أن نتذكر دائما أن أوروبا بدأت مسيرتها للخروج من العصور الوسطى مسلحة بأفكار وكتابات الفيلسوف الإسلامى “بن رشد”، ولسوف نخرج نحن – وقريبا جدا – من عصورنا الوسطى مسلحين بكل ما أنتجته البشرية من قيم ومثل عليا استوحاها من كل الثقافات والفلسفات والديانات إذ الله واحد والإنسان واحد.