خير الدين حسيب: قوة الثقافة الملتزمة تستدعي الكتلة التاريخية


محمد بوجنال
2016 / 5 / 10 - 16:28     



من المسلمات المعروفة أن التغيير هو قاعدة تطور المجتمعات التي منها المجتمعات العربية أو قل شرط حصول التغيير يقتضي استحضار أهمية الثقافة وبالتالي المثقف وهو الذي ساد ويسود في مختلف المجتمعات: لا انتفاضة، ولا حراك، ولا ثورة بدون إعطاء الأولوية للثقافة في التهئ لذلك. ومن هنا أهمية المثقف في عملية التغيير. وفي هذا الإطار يرى شيخ المفكرين العرب المعاصرين، خير الدين حسيب،أننا ،في عالمنا العربي، نجد أنفسنا أمام ثلاثة أصناف من المثقفين: هناك المثقف العادي، وهناك المثقف الذي ينخرط في نقاش مجال من المجالات ( السياسة، الشعر...الخ) لكن بثقافة تفتقر إلى الإبداع ؛ وهناك المثقف الملتزم الذي يتبناه خير الدين حسيب معتبرا إياه المثقف الذي تكون ثقافته منخرطة في قضايا وإشكالات المجتمع العربي أو قل أنه المثقف المنخرط في مجتمعه ممارسة ونضالا لأجل حصول التغيير.
ويتساءل خير الدين حسيب، أنه إذا كان المثقف الملتزم، على المستوى النظري، يلعب دورا مهما في حصول التغيير، فما إمكاناته عمليا عندما يكون أمام وضع متخلف كالذي تعيشه الدول العربية؟ لا شك أنه يكون أمام عدد من العراقيل يوجزها مفكرنا في التالي: أولها الضعف أمام مواجهة القوى المهيمنة؛ وثانيها انتماؤه إلى دول عاجزة عن تنمية ذاتها؛ ثالثها كونها دولا عاجزة عن التضامن فيما بينها؛ وثالثها تقهقرها الكبير خاصة منذ الثمانينات من القرن الماضي ؛ورابعها زرع الكيان الإسرائيلي في المنطقة وما يتطلبه ذلك من شروط لتوفير أمنها. إلا أن خير الدين حسيب يرى أنه على الرغم من أهمية هذه الأسباب، إلا أنها تبقى دون السبب الرئيسي المتمثل في افتقار الثقافة والمثقف إلى" المرجعية القومية "؛ لذلك، ازداد التردي أكثر: احتلال العراق، تدمير ليبيا وسوريا واليمن وفلسطين تحت إشراف الدول الكبرى وبتحريض ودعم أنظمة عربية؛ وخامسها غياب الإرادة والتكوين لذى الجماهير والعمال: ففلسطين محتلة ومحاصرة، والعراق محتل ومدمر، وليبيا محتلة ومخربة، وسوريا تدمر، واليمن يئن والجماهير شبه غائبة وغارقة في سباتها؛ وسادسها أن الأنظمة العربية أصبحت تتوفر اليوم على تقنيات جد متقدمة عما كانت عليه سابقا مما جعل البعض يرى أنه أصبح من الصعب تكوين وتغيير الجماهير والعمال.
انطلاقا مما سبق، يتساءل خير الدين حسيب:إذن ما دور الثقافة والمثقف أمام تخاف وتردي هذه الأوضاع العربية؟ ما مسئوليته أم عدم مسئوليته تجاه هذا التردي؟
من الناحية المبدئية، دور المثقف الملتزم يتجسد في معالجة الأوضاع العربية المتخلفة بمعنى ضرورة مساهمته في الرفع من وعي الجماهير والعمال، والتمكن من الثقافة الجادة والعمل على نشرها لأنه أساس الوعي الذي هو أساس التقدم لا الشعارات والحماسات الحمقاء؛ وبمعنى آخر، فدور المثقف يتمثل في تحديد الغايات والأهداف واختيار الآليات وترتيب الأولويات، وكذا مواصلة النضال لتحقيق تلك الأهداف.
إن تحقيق ذلك يتطلب من المثقف الملتزم تجاوز مشاكله اليومية وهو سلوك يتطلب، بطبيعة الحال، الإرادة والتضحية وصياغة المشاكل خلافا لما يتميز به نقيضه الذي عمل ويعمل على شرعنة تسلط الأنظمة وبالتالي شرعنة القمع. لذا، يميز خير الدين حسيب بين ثلاثة أصناف من المثقفين : هناك الفئة التي تناضل لبناء المشروع النهضوي وهي التي يسميها بالطليعة؛ وهناك الفئة المحايدة؛ وهناك الفئة التي تحارب التغيير؛ وهكذا، فكلما تقلص دور الفئة الطليعية في تكوين الجماهير والعمال، كلما انتشرت ثقافة الصنفين الآخرين: المحايد والرجعي.
ويرى خير الدين حسيب بضرورة خلق المثقف الملتزم ومساعدته في أداء مهامه النضالية؛ وهذا يقتضي منه خلق وبناء مجتمعا مدنيا وفق قاعدة الاستقلالية عن السلطة وكذا ضمان ممارسة الديمقراطية. ومعلوم أن خلق المثقف الملتزم يفرض ضرورة تفعيل الجامعات العربية مصدر كم وكيف المثقف ذاك؛ ويعطينا خير الدين حسيب مثال الجامعات الغربية التي لعبت أدوارا طلائعية في صنع الثقافة والمثقف المنخرط في قضايا وهموم مجتمعه؛ إنه حافز الإنتاج المعرفي الذي هو أساس النمو والتنمية التي تعني، مما تعنيه، تكوين وتثقيف الجماهير والعمال؛ وهذا الارتباط بهذه القوى الجماهيرية هو ينده وقوته ضد أشكال السلطة العربية.
بناء على ما سبق ، يتساءل خير الدين حسيب: هل الثورة الثقافية وحدها كافية لتحقيق التغيير، أم أنها عامل يفترض استحضار عوامل أخرى لتحقيق ذلك؟ يجزم مفكرنا بالقول أنه لا يمكن حصول الثورة باعتماد عامل واحد دون باقي العوامل. صحيح أنه في عالمنا العربي، الأنظمة ترفض الثقافة والمثقف الملتزم؛ وصحيح أن الثقافة والمثقف الملتزم يرفض الأنظمة العربية؛ وصحيح أن المثقفين الملتزمين تيارات: منها السياسي، والقومي، واللبرالي، واليساري. وإذا كان هدفهم جميعا هو تأسيس المجتمع العربي الديمقراطي، فإن عدم التنسيق فيما بينهم، وبينهم وبين باقي المجالات لن يفضي سوى إلى استمرار التردي. لذلك نادى خير الدين حسيب بضرورة التأسيس لكتلة تاريخية تتشكل من تلك التيارات الأربع في علاقتها الجدلية مع باقي المجالات. والتأسيس ذاك يقتضي إيمانهم بالديمقراطية والتركيز على القضايا التي يتقاطعون حولها في شكل برنامج مسطر وكذا طي صفحات ما فرق ويفرق بينهم. فإذا توصلت هذه التيارات إلى بناء هذه الكتلة، فستتمكن من الضغط على الأنظمة التي ستجد نفسها مضطرة إلى تقديم تنازلات ستزداد بالتدريج وهو ما سيفرز تراكمات ستفرز بدورها تغييرا نوعيا. لكن، يقول خير الدين حسيب، ما هو دور الثقافة والمثقف الملتزم،ضمن هذه الكتلة التاريخية؟ فهذا المثقف ،في نظره، يجب أن لا يبقى مستلبا وفق الأطروحات الأيديولوجية التي نادت بأن الجماهير والعمال هم أساس التغيير؛ فهذا الطرح يبقى طرحا مساعدا ولكنه غير كاف؛ فحصول التغيير يقتضي ما يسميه "بالمثقف القدوة" الذي يتميز بالعديد من المميزات الطليعية التي من بينها الابتعاد عن الاندماج في السلطة وكذا التخلي عن المصالح الشخصية وهو شرط موضوعية آرائه ومقترحاته؛ بل الشروط تلك هي ما يجعل منه المثقف الأكثر ثقة بنفسه وأكثر شجاعة وقدرة على الحسم في مواقفه؛ هذا إضافة إلى أنه، وهو يشتغل من داخل الكتلة التاريخية، أن لا ينتظر من الجماهير الشكر والجزاء، بقدر ما أن اشتغاله يكون مرتبطا بمبدأ راحة الضمير وهو أقصى ما يمكن أن يحصل عليه في وضعية كالتي يعيشها العالم العربي. إضافة إلى كل ما سبق، يقترح عليهم خير الدين حسيب تبني فكرة التغيير من الداخل مهما كانت الصعوبات، وعدم النجدة بمساعدة القوى الخارجية مهما ارتفعت درجة توحش الأنظمة العربية؛ فالطريق مملوء بالأشواك، ولكني أعتقد، يقول خير الدين حسيب، أن المهمة ستكون أسهل إذا تم تشكيل الكتلة التاريخية بين التيارات الثقافية الملتزمة الأربعة، وبينها وبين باقي المجالات ووفق قاعدة العلاقات الجدلية.