الطائفة تعلن الحرب على الطائفية


عصام الخفاجي
2016 / 5 / 9 - 22:30     


ما شهدته بغداد خلال إسبوعها الطويل الفائت لم يكن أزمة كما يحلو للمسؤولين وصفها. كان العراق على حافة حرب أهلية اختلفت عن حافة الحرب التي وصل إليها عام 2006 في أنها ليست بين الشيعة والسنّة هذه المرّة، بل بين زعامات شيعية تسعى كل منها إلى فرض هيمنتها على الطائفة وهو ما يعني هيمتنها على مقدّرات البلد بشيعته وسنّته وباقي أطيافه باستثناء الكرد بالطبع الذين أحسن نائب رئيس البرلمان العراقي، وهو كردي، وصف حالهم بأنهم "ضيوف" على بغداد. والضيوف، بالطبع، يمكن أن يغادروا متى شاؤوا ومتى لم ترق لهم الضيافة.
البيت الشيعي الذي بدأت ركائزه بالتصدّع ما إن استقام بناءه منذ عقد أخذ بالإنهيار منذ عامين. لكن أحداث الإسبوع الفائت كانت المسمار الأخير في نعشه. وتعبير "البيت الشيعي" الذي بدأ استخدامه مواربة وبشكل شبه سرّي أيام مجلس الحكم الذي أقامته سلطة الإحتلال الأمريكي الموقتة، بات مصطلحا مألوفا وشائعا مع مرور الوقت. صار مألوفا أن نسمع ونقرأ تصريحات تقول أن السيد السستاني يحذّر من الإنقسامات في داخل هذا البيت. وصار مألوفا الحديث عشيّة الإنتخابات الحديث عن ترتيب "البيت الشيعي" لننصرف فيما بعد إلى البيت الأكبر، قول ترجمته: لنشكّل الأغلبية البرلمانية ولننّخذ القرارات الكبرى ولنبحث فيما بعد عن طرف سنّي يلتحق بنا.
بيت ظل أبناؤه يتفاخرون علنا بتضامنهم تحت رعاية أب عجوز يسعون إلى نيل رضاه طمعا في الحصول على حصة تفوق ما لإخوتهم من ثروته متستّرين على أحقادهم المتبادلة وساعين خفية إلى التملّص من وصاية الأب وسلطته.
بناء البيت الشيعي كان منذ البدء خطيئة ارتكبها الأب عن عمد ولم يكن الأمريكان الذين بات مألوفا توجيه الإتهام لهم بفرض المحاصصة الطائفية على النظام السياسي غير الإقرار بوجوده. الأمريكان، وكدنا ننسى الأمر، رموا بثقلهم وراء حركتين علمانيتين هما المؤتمر الوطني العراقي الذي تزعّمه الراحل أحمد الجلبي وحركة الوفاق الوطني بقيادة أياد علاّوي. فلنبرّأهم من هذه الخطيئة على الأقل ولنوجه الإتهام إلى السيد علي السستاني وأتباعه من قادة الإسلام السياسي الشيعي والجمهرة الغالبة من الشيعة التي صوّتت لهم في ثلاث دورات انتخابية متتالية. ولست واثقا من أن الوضع الراهن سيكون كافيا بإقناع جمهرة الشيعة بأن عليهم لطم صدورهم تكفيرا عن ذنب ترسيخهم للمحاصصة الطائفية عوض لطمها غضبا على الأمريكان إلا إذا اقتنعوا بأن عليهم لطم صدورهم تكفيرا عن ذنب ترك الحسين يقاتل لوحده بعد أن وعدوه بجيش جرّار يؤازره عوض لطمها استنكارا لما فعله أعداؤه به.
ذروة الحنكة السياسية هي أن يسوّق السستاني نفسه كمستنكف عن شؤون السياسة وهو يدير النظام السياسي. السستاني هو الذي دفع بمئات الألوف تطالب بإجراء انتخابات بعد سقوط البعث بأشهر قليلة حين لم تكن ثمة دولة ولا جهاز قضاء أو شرطة أو جيش، بل ميليشيات لاعدّ لها ولا حصر تمتلك إلى جانب السلاح أموالا طائلة تلوّح بها لشعب أنهكه جوع ثلاث عشرة سنة من الحصار. كان يعرف سلفا أن الإنتخابات ستقود إلى استبداد أغلبية تعي نفسها كطائفة تشعر بنشوة مبرّرة إذ نزلت تمارس طقوسها بحرّية بعد سنوات من التهديد والقمع. فما كان تحيّزا بعثيا غير مبرمج ضد الشيعة حتى بدء الحرب مع إيران تصاعد ليغدو عداءا صارخا، وما كان شعورا شعبيا بالقهر من جانب نظام البعث تصاعد ليغدو عداءا شيعيا لنظام بات يسهُل تصويره سنّيا. هكذا حوّل الإسلام السياسي الشيعي الإنتصار على نظام البعث إلى انتصار دولة الشيعة على دولة السنّة.
أراد السستاني أن يكون بيته هو القصر الذي تحيط به بيوت أكثر تواضعا وقد نجح في ذلك حين صار زعماء السنّة يتوافدون عليه لنيل بركاته بأمل التضلّل ببيته.
كان السستاني قادرا على ضبط الصراعات بين الأبناء إذا أحسّ بأنّها قد تؤدي إلى تسلّل الغرباء إليه. في عام 2010 أعلنت المرجعية، كما هي العادة، أنها لن تنحاز إلى طرف محدد في الإنتخابات. ولكن حين حصل أياد علاّوي على أعلى الأصوات كان الحفاظ على وحدة هذا البيت هو الذي دفع الإخوة المتصارعين إلى التكاتف لتشكيل كتلة مابعد انتخابية تحجب تكليفه بتشكيل الحكومة.
ولكن مهما بلغت حنكة الأب فسيظل عاجزا عن ضبط تنافس الأبناء المرير لا سيّما حين تكون الغنيمة شديدة الكبر. ولم يلتفت الإخوة الكبار إلى الصدر الصغير الذي تمرّد على الأب منذ الصغر إذ لم يروا فيه إلا طفلا مشاكسا أرعن لايعرف مصلحة العائلة ويمكن تأديبه متى دعت الحاجة.
أشك أن مقتدى الصدر يستنكر هذه النعوت الرائجة حوله، بل لعلّه يرحّب بها. فهو الشاب المغامر الذي لا يراعي حسابات الكبار وأطماعهم.هو الفتى المندفع وراء مُثُل حالمة فيما الآخرون منكفئين يتصارعون على المغانم. يرحّب مقتدى بهذا التصوير لشخصه متمرّدا على البيت. فما يراه أخوته عيبا هو في عينه وعين الجمهور مزيّة. يرى الجمهور فيه متمرّدا على الطائفة كلّها وبانيا لتيّار يتجاوزها ليشمل العراق فيما مشروعه يقوم على هدّ البيت الشيعي المتهرّئ وإعادة بنائه بما يضمن له قيادته ومن ثم جرّ جيران هذا البيت إلى القبول به مالكا له مانحا إيّاهم حقوقا أكبر.
ليس مقتدى الصدر عابرا للطوائف. هو كاره للمحاصصة الحزبية، التي أطلق مدفعيته النارية عليها. محاصصة لم تمنحه أكثر من عشرة بالمئة من مقاعد البرلمان لكنه لم يهاجم المحاصصة الطائفية التي هي في جوهر فساد نظام العراق السياسي. هو يريد كتلة عابرة للطوائف تخضع لشيعيته السياسية كما يريد لشيعة حزب الدعوة والمجلس الإسلامي أن يخضعوا لشيعيته السياسية. لم نشهد جمهرة سنّية، لا شكّ أنها كانت ستتحمّس للنزول إلى الشوارع، تساهم في اعتصامات ساحة التحرير والمنطقة الخضراء ولم يكن الصدر معنيّا بإشراكهم في تلك الإحتجاجات. أراد لهم أن يكونوا مصفّقين له وهاتفين باسمه على قنوات التلفزيون السنّية ليكون بطلهم ومنقذهم من التهميش. هو حامي السنّة يرسل شحنات الإغاثة إلى السنّة المحاصرين في الأنبار لكن سرايا سلامه ستحافظ على نقائها الشيعي.
قفز الصدر من مركب البيت الشيعي الغارق في الوقت المناسب لكنه ظل وفيّا للطائفة. قطع الطريق أمام الحراك المدني الذي لم يعد بوسعه اتّخاذ موقف مستقل إن أراد البقاء جمعا منظّما، ولم يعد بوسع السنّة سوى الإذعان لتركيبة قد يخرج بها لكتلته العابرة للطوائف مثلما يريد من الآخرين الإذعان لحكومة لايرى غيرها أداة للإصلاح ومحاربة الفساد.
مقتدى يدرس خطواته بعناية. فبعد أن همّش حيدر العبادي وضمن أنه لن يكون ندّا له، أخذ يوجد له الأعذار ويعلن أن حشده الجماهيري يهدف إلى دعمه بوجه الضغوط التي يتعرض لها من جانب خصومه.
ولكن مثلما لم يستطع السستاني ضبط نزاعات الأبناء، لم يدرك الصدر وقد غالى في تقديره لقوته أن كارثة اقتحام أنصاره للبرلمان قدّمت للكبار الفرصة التي كانوا يحلمون بها. أيّ قائد لا يشعر بالنشوة وزعيم ميلشياه ونائبه يعلن أن موقف الجمهرة هو "سمعا وطاعة للسيد القائد"؟ إذا أمرنا بالإعتصام سنقول له "سمعا وطاعة" وإذا أمرنا بالعودة إلى بيوتنا فسنقول له "سمعا وطاعة". كانت تلك فرصة لميليشيا بدر وآخرين لإعلان دفعهم لقواتهم إلى حزام بغداد "تحسّبا لإستغلال داعش للموقف".
ردّ ممثل الصدر محذّرا بأن على قوات بدر وحلفائها سماع صوت الشعب. وردت قوّات بدر بالقول "نحن صوت الشعب".
كلا الطرفين يحظيان بجماهيرية كبيرة. فما هي الحرب الأهلية بتعريفها الكلاسيكي؟
أليست هي وجود طرفين مسلّحين يدّعي كل منهما تمثيل الشعب؟
فماذا فعل الصدر وقد أوصل البلد إلى حافة الحرب الأهلية؟ لن يبدع أكثر الأدباء السرياليين مشهدا كهذا. ترك جمهرته تائهة وأعلن اعتكافه لمدة شهرين!