كافكا وفوكو وبوتزاتي في المستشفى


سعد محمد رحيم
2016 / 5 / 8 - 15:31     

كل شيء في ردهة الطوارئ في مستشفى الشيخ زايد، وردهة الإنعاش بمستشفى ابن النفيس للأمراض القلبية، يذكِّر بمشيل فوكو. والخلاصة، بحسب فوكو؛ أنك في وضع (احتجاز)، في الحجر، على الرغم منك، وموضوع مراقبة صارمة لسلطة معرفة.. فأنت جسد معرّف بمرض، بحالة إزاحة عن سَويّة طبيعية.
"مهمتنا أن نحافظ عليك". يقولها لك الطبيب المناوب وهو يأمرك بشيء من التأنيب الملطِّف: "تمدد بكامل جسمك على السرير، ولا تتحرّك، أنت ممنوع من الحركة لثمانٍ وأربعين ساعة في الأقل".
إنها سلطة العيادة ـ بعبارة فوكو ـ وليس أمامك سوى أن تذعن.
ذاتك المهملة تسببت بانتكاسة، وهذا الخضوع لنوعٍ قاسٍ من التحكّم قبل أن يحصل ما هو غير محمود نمطٌ ماكر ومعقلن وضروري من المعاقبة.. المستشفى، ومازلنا مع فوكو، كما السجن والثكنات والمدارس والمصانع، جزء من مجتمع تأديبي.
تشتغل ميكانزمات السلطة الخفيّة، سلطة العيادة المستمدة شرعيتها من المعرفة، على وفق مبدأ يشبه ما قاله أنطونيو غرامشي عن الهيمنة.. الهيمنة وقد تجسّدت، في حقل آخر غير حقل السياسة. وفحوى فكرة الهيمنة هي قبول من تُمارس عليه بذلك. ولا أكثر من المريض من يتقبل، حد الإذلال أحياناً، هيمنة سلطة (العيادة) عليه، طالما كانت تحمل وعداً بإعادة كسب حالة ما قبل المرض. فليست الخشية من سلطة العيادة هي دافعه، بل لدرأ عقابيل ما هو فيه.. إن موجبات التنازل المؤقت عن الحرية تفترض ضمان عدم خسارتها إلى الأبد، عجزاً أو موتاً.
ما يعترض حريتك كامن في جسدك أولاً.. الجسد بوصفه خزيناً من مفاعيل تعمل بقوانينها الخاصة ـ المقررة من قبل الخالق العظيم الذي جعل كلَّ شيء بقدر ـ باستقلال من إرادتك الواعية.. نظام موضوعي دقيق وصارم.. ذلك الكون الغامض، الشديد التعقيد، والذي يصعب التكهن بمفاجآته.. الجسد الموشوم بتاريخه ـ بتعبير فوكو ـ بالتاريخ العام، والتاريخ المعروض وهو يتلف الجسد.
الجسد ينتقم حين تتجاوز الحدّ في استعماله عند حالات؛ العمل، الكسل، المتعة، تقلبات المشاعر والانفعالات، التفكير، الخ..
الإفراط والإهمال كلاهما مؤذٍ. كلاهما يمهِّد لعقاب مرتقب.
في مستشفى الشيخ زايد يقول لك ممرض مفتول العضل؛ ستبقى هنا لساعات.
طبيبة بعمر الياسمين تردُّ باسمة: بل حتى يوم غد.. لا تخف، حالتك مستقرة.
بعد نصف ساعة يطمئنك طبيب أكثر خبرة: تجاوزت احتمال الخطر، لكن يجب أن تُنقل إلى مستشفى ابن النفيس لتبقى في الإنعاش، وتحت المعاينة.
في ردهة الإنعاش في مستشفى ابن النفيس تخبرك طبيبة ترتدي نظارات طبية، وهذا ما يسبغ على وجهها مسحة من جدّية عالية: لن تمضي معنا أكثر من ثلاثة أيام.
مع الغروب يحضر الطبيب الرئيس، ذلك الذي تتبعه جوقة من الأطباء والطبيبات الأصغر سنّاً.. يقلب ملفك ويقول بنبرة حيادية: زال عنك الخطر.. ستبقى في ردهة الإنعاش ثلاثة أيام، وفي ردهة الباطنية يومين، وعندها سنحدد لك موعداً لعملية قسطرة.
تسأل بمزيج من التعجب والقلق: خمسة أيام؟!
يفتح الطبيب يديه، ويميل قليلاً بوجهه، ويوسِّع حدقتي عينيه، وتتحرّك شفتاه من غير أن ينطق، وهذا كله يحصل في لحظة خاطفة، فتفهم إشارته: لا خيار آخر لديك.
ليس الأمر بيدك.. إنها سلطة العيادة، وسلطة الجسد، في الوقت نفسه.
في هذه اللحظة لا تدري من أي فج معتم في ذاكرتك تقفز قصة (الطوابق السبعة) المرعبة لدينو بوتزاتي، وتحتلّك.
يدخل رجل مستشفىً بسبعة طوابق، ولأنه يعاني فقط من أعراض بسيطة يضعونه في الطابق السابع الذي يستقبل مثل هذه الحالات، ويعلم أن كل طابق من الطوابق الستة الأخرى يختص بحالة مرضية بدرجة خطورة أعلى كلما نزلنا إلى الأسفل، حيث الطابق الثاني يأوي المرضى المصابين بأمراض مستعصية، والطابق الأول فيه من يئسوا من علاجه وينتظر الموت. ومع موت كل شخص تُسدل ستارة النافذة التي ينام إلى جانبها.
مع سلسلة من المواقف الدراماتيكية ينزل رجلنا ذو الأعراض البسيطة، قانعاً مرّة، ومضطراً مرّة، وصاغراً مرّة، طابقاً بعد آخر، من غير أن يكون مرضه قد اشتدّ عليه، حتى يجد نفسه أخيراً في الطابق الأول، مضطجعاً يحدِّق عبر النافذة بذهول، قبل أن يرى الستارة تُسدل أمام عينيه.
لابد من أن بوتزاتي كتب هنا عن الفاشية، لكن لا أحد شرّح الفاشية مثل كافكا، على الرغم من أنه لم يستعمل هذا الاصطلاح قط حسب علمي.. أحمد الله لأنني لست في مستشفى الطوابق السبعة، وأزيح بوتزاتي من مساحة تفكيري الذي يستحوذ عليه كافكا الآن.. ويلحُّ عليّ سؤاله غير المصرّح به، والمتخايل في كل صفحة من رواية (القصر): ما هو وضعي الحقيقي؟
أنت محدَّد، لا بحكم قوانين السياسة وقيودها وحسب، وإنما بحكم قوانين الطبيعة وقيودها أيضاً.. جسدك هو بُعدك الفيزيقي.. يمكن أن تستعبدك سلطة السياسة والمجتمع في ظلِّ ظروفٍ قاهرة، ويمكن لسلطة الجسد أن تفعل الشيء ذاته حيثما تكون شروط الحياة الصحيّة غير مؤاتية.. وحين يخذلك جسدك لأي سبب تراه يكشِّر عن أنيابه الفاشية.
فاشية الجسد لا تقلُّ دناءة وقسوة عن فاشية السياسة.
هكذا تتحول من كينونة إنسانية ذات اعتبار اجتماعي وأخلاقي إلى رقم وملف، ومجموعة مؤشرات بيولوجية وفيزياوية وكيمياوية بدرجات متغيرة تُقاس بوساطة أجهزة ووسائل اختبار؛ الضغط، السكّر، عدد نبضات القلب ومرّات التنفس في الدقيقة، الخ.. في مقابل أن تخضع لنظام توقيت صارم في الأكل والنوم والعلاج.. مثالاً؛ حقنة (هيبارين) تحت الجلد كل ست ساعات.
المستشفى، كما السجن، كما المقبرة، تعيد فيه، وبوحي منه، طرح أسئلة الحياة وموضوعاتها الكبرى؛ الحب، الحرية، والموت. والطب الحديث من وجهة نظر فوكو وُلد من سَلْبٍ جذري (الموت).
لا مكان في الدنيا يوحي بفكرة الموت أكثر من مستشفى، حتى أكثر من ساحة حرب أو مقبرة. لكن، بالتناظر مع هذا، لا مكان في الدنيا يمكن أن يستحضر فكرة الحب بأصفى تجلياتها أكثر من مستشفى.. وحتى أكثر من غرفة زواج، وحديقة عشّاق.
لمّا يترصدك شبح الموت في لحظة غفلة تأتي وتحيطك تلك الوجوه المحدِّقة فيك بمحبة، وأنت على سريرك، لتحميك..
ها هنا يتصارع إلها الحب (إيروس) والموت (ثاناتوس) بضراوة.. إن طاقة الحياة ستتدفق فيك عبر مسارب خفيّة؛ دافئة، نقيّة، بزخمٍ عاتٍ بهيج.. إن وجهاً محبّاً واحداً بصدق من شأنه إرباك شبح الموت وطرده. فكيف الأمر مع وجوه محبّة كثيرة، بصدق؟.
تقول لك الطبيبة الخافرة، كما لو أنها تلقِّن طفلاً طائشاً: لا تتحرّك، لا تفكِّر، لا تستدعي للذهن ما يُقلقك، لا تنفعل.
أستطيع ألا أتحرّك.. لا أستطيع الكفّ عن التفكير والتذكّر.. أمتنع عن تشغيل ذهني لثوانٍ.. لنصف دقيقة، أو حتى لدقيقتين، لكن الأمر يفلت من استحكاماتي فأجدني غارقاً في تيار كاسح من التفكير والتذكّر والتوقّع.. تفكير يتسبب بالقلق أحياناً، يفضي إلى مستوىً من الانفعال.. حين يرتفع هذا المستوى أقول لنفسي: كفى... ألومها وأزجرها، وأسعى للعودة إلى حالة مقبولة من الاسترخاء.. أتخيل موجة رخيّة من الموسيقى.. تخيّل سماعي.. لا أحفظ نوتات موسيقية.. أعمل على تأليفها.. موسيقى تؤلف في منطقة بِكر، في صدعٍ من الذهن يستحيلُ تأشيره في مخطط أكلينيكي.
حين تخرج بعد أيام أربعة تكون مفردات جديدة وعبارات جديدة قد تسللت إلى قاموسك اليومي.. اللغة تدخل اللعبة، بتأكيد ميشيل فوكو أيضاً.. وأيضاً.