حديث إلى العمال (2)


شوكت جميل
2016 / 5 / 2 - 01:41     

إستكمالاً للمقال الفائت...
ثالثا: المسألة القومية و البروليتاريا الأممية و الإنسان العولمي.
رابعا: الحتمية القدرية في النظرية الماركسية.
ثالثا:
هي محاولة لبحث مفهوم المسألة القومية من وجهة نظر البروليتارية الأممية و الفكر الماركسي،و كذلك من وجهة نظر الفكر الرأسمالي،و الذي تبنى مفهوم الإنسان العالمي كتزوير لمفهوم البروليتاري العالمي.

أحسب أن مسألة القومية من أكثر ما يدور حوله الجدل في عصرنا الراهن.و تتباين الرؤى و المواقف منها تبايناً كبيراً،من الدعوة للتبني إلى النبذ الكامل،و لما كان حديثنا عن الحركة العمالية الأممية،أو النزعة العالمية البروليتارية،و التي تم مسخها من البعض كعدوٍ للقومية؛بات لزاماً علينا،إلقاء طرفاً يسيراً من الضوء على تناقضات كلٍ من الفكر اليساري بطوائفه و الفكر الرأسمالي،إزاء قضية القومية،و محاولة الكشف عمّا كان مفتعلاً و عمّا كان جوهرياً من هذه التناقضات في فكر أي من الفريقين.

أما موقف تيارات اليسار الماركسي إزاءها فأكثره بين طائفتين: طائفة لا ترى بأساً،بل وتراه واجباً،أن ترتدي الحركات الاشتراكية الرداء القومي،أو ما نسميه البروليتارية الوطنية،بينما تزعم طائفةٌ أخرى،أن الماركسية هي العدو الطبيعي للقومية،و عند الحديث عن البروليتارية العالمية،فلا مسمحة للحديث عن الانتماء القومي،إنما وجب أن يكون الانتماء انتماءً طبقياً،فالبروليتاري المصري،مثلاً،يتآزر مع البروليتاري الأمريكي،في مواجهة الرأسمالي المصري و الذي يشاركه ذات القومية..و لطالما استخدموا مصطلح"القومجية"،كلونٍ من السخرية من الطائفة الأولى.

و إذا كان هذا هو حال التناقض في موقف اليسار،و الذي أراه تناقضاً مفتعلاً إن لم يكن تشويهاً للماركسية_و سيأتي ذكره في حينه_،فالتناقض في الفكر الرأسمالي من القومية تناقض جوهري،تحمله الرأسمالية في أحشائها.

فمن ناحية تحاول الرأسمالية إخفاء حقيقة الصراع و الحروب بين الأمم و الذي هو في حقيقته،صراعٌ طبقي بين طبقات مستغَلة و طبقات مستغِلة على المستوى العالمي،و سببه الجوهري هو وجود الطبقات لا وجود الأمم، فتوهم الناس أن الصراع و الحروب مرده إلى نزاع الأمم و القوميات،فيكون وجود الأمم هو علة الحروب إذن،و بناءً على هذه الرؤية المشوهة ، جعلت وكدها أن تتبنى ما نسميه بالنزعة العالمية"cosmopolitisme"،و المواطن العالمي،أو العولمي،أو ما شئت من أسماء،و الذي هو تزوير و سرقة مباشرة من الفكر الماركسي،لمصطلح البروليتاري العالمي،و النزعة البروليتارية العالمية،و الذي لم يظهر في القاموس الرأسمالي_فيما أعلم_إلا فيما بعد الماركسية،و تسعى الرأسمالية حثيثاً في هذا المضمار،نحو طمس القوميات تحت هذا الدعاوى،لضرب الحركات البروليتاريا الوطنية،و إقناعها أن النجع في القضاء على القوميات،و التنكر للأوطان،و في تقديري أن هذا الفكر يعيد نفسه في أقنعة عدة،و ما أرى الحديث عن صراع الحضارات أو الثقافات،سوى اجترار لهذه الحيلة و الطبقة الرأسمالية البائتة.

و من ناحية أخرى،تناقض الرأسمالية ذاتها،و تتمسح بالقومية،إذْ شجعت قديماً وتتشجع الآن النزعات القومية!فبينما تدعو أمريكا بشركاتها الاحتكارية إلى النزعة العالمية،ما برحت تصب في آذان شعبها،ما يصور المواطن الأمريكي "كسوبر مان"،و أنه شعب الله المختار الذي أرسلته عناية السماء للساكنين في الأرض لقيادتهم،و نرى كيانات اقتصادية رأسمالية قومية تظهر"كالإتحاد الأوربي"،و قبلاً ،في حقبة لاستعمارية،كان تجعل الاستعمار يقتات على الكرامة القومية ،لتضليل شعوبها،و كسب تأيدهم:فكانت تضع القومية البريطانية المستعمرة في مواجهة القومية المصرية،و القومية الفرنسية المستعمرة في مواجهة القومية الجزائرية،...إلى أخره.بينما يقول كارل ماركس:(لا يمكن للشعب الذي يضطهد شعوباً أخرى أن يكون حراً)..و لعل هذا العبارة تكشف عن لباب الموقف الماركسي من القومية.

و مما تقدم،يتضح لنا أن الأمر في حاجة إلى المزيد من التبيان،لنضع أيدينا على جذور هذا التناقض في الجانين،و سنحاول أن نضع الأسئلة"الصائبة"،و يقولون أن السؤال الصحيح فيه نصف الإجابة:

(1):ما هو مفهوم القومية،و ما هي الحقيقة و جوهر الصراع؟

(2):ما السر وراء تناقض الرأسمالية من مسألة القومية؟

(3):ما هو الموقف الماركسي الأصيل و موقف البروليتاريا العالمية،من مسألة القومية؟
(4):هل يتخذ الصراع البروليتاري لباس الصراع القومي أحيانا؟

(5):هل تسعى حقاً النزعة البروليتارية الأممية،إلى محو القومية ؟
............................................................

و إستكمالاً للسطور السابقة عن المسألة القومية من ناحية،و النزعة العالمية من ناحية أخرى، في ميزاني الماركسية و الرأسمالية،حيث تتجلى النزعة العالمية الماركسية في النزعة البروليتارية العالمية أو الأممية و في مفهوم البروليتاري العالمي،فيما تتجلى في الطرف الأخر في النزعة الرأسمالية العالمية،و في مفهوم الإنسان العالمي،و تظهر في المصطلح"cosmopolitisme"،و هو مصطلح يوناني الأصل مركب من لفظين يعنيان حرفياً:المواطن العالمي.

و إما هذه السطور عن مفهوم القومية و جوهر الصراع الحقيقي التي تحاول الرأسمالية التضليل عنه ،بالحديث عن صراع القوميات أو الحضارات،كمعطي أصيل و مبدئي ،و أنه العلة الأساسية في الحروب..

أما من ناحية المسألة القومية،فيتفق الفريقان ،الماركسي و الرأسمالي،في النظر إلى القومية كحقيقة موضوعية تاريخية،و هي التي تجمع بين شعبٍ ما،لغةً ،و أرضاً،و حياةً مادية أو اقتصادية،و حياة روحية أو معنوية. و إن اختلفا الاثنان في تناولهما لهذه العناصر،فترى الماركسية مثلاً،أن الحياة الروحية ليست سوى انعكاس لواقع المجتمع المادي،فإن الخلاف الحقيقي،في مقامنا هذا،يكمن في تفسير كل منهما لأسباب لنزاع و الاحتراب بين القوميات المتباينة؛إذْ تعزوه الرأسمالية إلى وجود الأمم أو القوميات بالأصل،كصفة لصيقة بها،بنفس النهج المثالي،الذي يفسر استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ،كطبيعة إنسانية أصيلة،فيما تعزوه الماركسية بمنهجها المادي الجدلي، وماديتها التاريخية،إلى الواقع الموضوعي،و تكشف أنه ثمره لصراع الطبقات و كصورة من صور الاستغلال.

و هكذا تستغل الرأسمالية مفهوم القومية لخدمة مصالحها،أو بالأحرى في خدمة رأس المال،فتصدر للعمال حديث المصالح الواحدة للأمة،و تقنع العمال بأن مصالحهم في مصالح الأمة،للتعمية عن حقيقة الصراع الطبقي،و للتعمية عن استغلالها و اضطهادها الطبقي،فالرأسمالية هنا،تتجاوز استغلال بروليتاري قوميتها إلى تعبئتهم لاستعباد بروليتاريا القوميات الأخرى،و التي تظهر في الحركات الاستعمارية،أو غزوات السلب و النهب،و لعل أناتول فرانس قد مس عصب الحقيقة في قوله:(يعتقد الجندي أنه يموت من أجل الوطن،بينما هو يموت من أجل الصناعيين).

و من ناحية الماركسية فإنها و إن نظرت للقومية في وضعها الآني،كحقيقة تاريخية موضوعية،إلا أنها بماديتها التاريخية،و التحليل المادي للمجتمع دللت على أن الحروب العالمية و الاحتراب بين القوميات،(ليس في وجود الأمم،بل في وجود الطبقة)كما يقول لينين،و أن انقسام الناس إلى طبقات هو الباعث على الصراع،أكثر من انقسامهم إلى أمم و قوميات،فإذا انتفى الاستغلال و زالت الطبقات،انتفى الصراع و الحروب بين الأمم..فليس الصراع إذن مكتوباً على القوميات كالخطية الأصلية للبشر كما ترى الرأسمالية.لذا تدعم الماركسية حركات التحرر "القومي"،و لكن ليس من قبيل القومية من أجل القومية،إنما تتجاوزها إلى ما هو أعمق ألا وهو النضال الطبقي الراسب أسفلها،و بادٍ هنا أن حقيقة القومية ليست مضادة للمادية الجدلية،كما يزعم اشتراكيو اليمين ،و الذين يروجون لمثل هذا الطرح،و الذي يفضي في النهاية،إلى ضرب حركات التحرر القومي لحساب الرأسمالية،و كما هو واضح أن هدف البروليتاري ليس ذا طابع قومي في الأساس،فمضمونه مضمون طبقي،و لكنه يرتدي نضال الطابع القومي لأن الرأسمالية قد نمت في الإطار القومي،و أنه طالما كانت القومية حقيقة موضوعية،فأي نضال لا يتم على المستوى القومي،بات ضجيجاً و لا طحيناً،و حينها ليس على الرأسمالية سوى أن تبتاع سدادة أذن،ففيها كل الكفاية،و ليس ثمة ما تخشاه من البروليتاريا في وطنها.

أما من ناحية موقف كليهما من النزعة العالمية،فنلمس تناقضاً كأشد ما يكون التناقض في موقف الراسمالية،و الذي لا يمكن فهمه سوى على أنه المعبر عن خضوعها التام لمصالحها الطبقية المستغلة،و كأن هذه المصالح هو الإله الذي يجب طاعته مهما تناقضت أوامره،فهي، كما قدمنا،تشجع القومية،و تذكيها لتحقيق مصالحها،كتمجيد القومية الأمريكية مثلاً،أو مشروع القومية الأوربية،تعود لتدعو إلى النزعة العالمية،إذا كانت تحقق أهدافها الطبقية،و تروج أن حكم الاحتكارات العالمي سيحقق للعمال أحلامهم الأممية!،و تستعير وجه النزعة البروليتارية العالمية لمحاربتها،و كما يقول ماركس:(أن تسمية الاستغلال في صورته العالمية باسم الإخوة الشاملة فكرة لا يمكن أن تولد إلا في قلب البرجوازية)،و التناقض الرأسمالي في هذا الشأن يبدأ كما ذكرنا،بالمقدمة الغير صائبة:إذا كانت الحروب الحديثة هي نتاج وجود القوميات و الأمم،فأنه يلزم صهر هذه القوميات في بوتقة واحدة،و أن مفهوم القومية رجعي و بالٍ،و يروجون للعمال أن القومية عائق في وجه السلم،بغرض ضرب الحركات القومية للبروليتاريا!..وهكذا تكون النزعة العالمية تزويراً للنزعة العالمية البروليتارية.

يتبقي السؤال الشائك:هل تسعى حقاً البروليتارية العالمية أو قل"الماركسية"إلى محو القوميات و تجاوز الأمم؟

للإجابة عن هذا السؤال يحسن أن نفرق بين مفهومين،الرغبة و السعي من ناحية،و التوقع و الاستنتاج من ناحية أخرى,فكما قدمنا شرحت الماركسية أن حقيقة الصراع بين الأمم كنتيجة لوجود الطبقات،فإذا زالت الطبقات،انتفى الصراع،و أفضى ذلك كله إلى اقتصادٍ عالمي واحد،تصبح فيه مصالح القوميات المتباينة واحدة،و تحل الثقة و التقارب بين الأمم محل التوجس و الاحتراب،و تزداد مساحات التقاطع المادي و الثقافي بين الأمم قليلاً قليلاً؛و شيئاً فشيئاً....و إلى هذا الحد، لا أرى غضاضة ولا شائبة في مثل هذا التحليل المادي الجدلي واتساقه،بيد أن بعض الرؤى الماركسية تذهب أبعد من ذلك،و ترى أن تحطيم النير الطبقي يحمل في أحشائه تحطيم النير القومي،إذْ تتنبأ أن ينمو هذا التقارب الأممي باطراد و يؤول تدريجياً و حتمياً في نهاية الأمر،نحو اندماج كافة القوميات في قومية واحدةٍ و لغة واحدةٍ!

و في تقديري المتواضع_ و مهما كان قدر صاحب هذا التحليل_أن مثل هذا التحليل المذكور آنفاً تحليل متسرع،و في حاجة إلى إعادة النظر و التقييم ،اللهم إلا إذا استبدلنا بالله نضال الطبقات "كلي القوة" و القادر على كل شيء، بدون تقديم الدليل المادي الكافي،أقول الدليل المادي الذي يجب أن تمدنا به علوم اللسانيات و اللغات و تاريخها لدعم هذه الفرضية؛و لا احسب أنها قدمته حتى الآن.

هي إذن، فرضية طوباوية أو على أفضل تقدير فرضية لا تسندها الدلائل العلمية الكافية..و أرى أن القول بحتميتها نتيجة متسرعة إن لم تكن طائشة،و تخمينٌ لا يليق بالمادية الجدلية، بيد أننا في نفس الوقت، لا نملك الدليل الكامل على نفيها أيضاً،و كيفما كانت حقيقتها،فما يعنينا حقاً،هو مشكلة الأمم في مرحلتنا التاريخية الحالية،أما مشكلة الأمم اليوم فليست تجاوز الأمم و محو القوميات،بل هي كسر النير الطبقي،و من ثم توحيد الأمم،أما ذوبانها و فناءها في أمة واحدة فهذه قضية أخرى،و علينا أن ننتظر ما يسفر عنه هذا التوحيد، إن حدث.

و عودة على بدء،لا أجد عبارة أوقع لشرح موقف البروليتاريا من المسألة القومية،سوى العبارة التي صدح بها ماركس و انجلز في بيان الحزب الشيوعي(1848) و قد ذيلاه بالشعار الأشهر:

((اتحدوا يا بروليتاري جميع البلاد!))

هل من العسير أن أفهم شيئا من ذلك؟...بلى و ما فهمته أن الإتحاد لا يعني الفناء بالضرورة،إنما سبيل الإتحاد هو شرط الانتقال نحو الاشتراكية،أم ما قد يحدث_أو لا يحدث_ بعد الإتحاد من ذوبان القوميات،فأجترئ أن أقول أنه:أقرب إلى التخمين و الرجم بالغيب منه إلى المادية التاريخية، ناهيك أن يكون أمراً حتمياً!
خارج النص:
يقول أبو العلاء المعري:
أتوكَ بأصنافِ المحالِ و إنما...لهمْ غرضٌ في أن يقالَ علوم
........................................................


رابعاً: الحتمية القدرية في النظرية الماركسية.


يذهب البعض إلى وجود لونٍ من ألوان الحتمية القدرية في النظرية الماركسية،و أن هذه الحتمية تعمل بعيداً عن وعي الإنسان و إرادته،و أن الوعي ليس أكثر من انعكاس سلبي للوجود المادي،و إذا ما كانت القوانين الاقتصادية المادية هي أساس التطور التاريخي ،فهي تعمل بذاتها و في ذاتها حتى تحقق حتميتها ،و لن يكون الإنسان بوعيه و إرادته سوى ترسٍ مسيرٍ في آلة هذه القوانين الجبارة ،لا يملك من أمرهِ شيئاً.

المفارقة أن هذه الرؤية للماركسية جمعت بين طائفتين غريمتين:أولهما بعض المعارضين للماركسية و ناقديها،و من ثم ترمي هذه الطائفة الماركسية "بالدوغمائية"الغير إنسانية،و إنها جعلت من الإنسان كائناً مستلباً،و أن وجوده الإنساني برمته محددٌ و مشروط ٌبصورة حتمية بواقعه المادي،الذي هو المحدد للتاريخ الإنساني كله،و إلا فأين دور وعي الإنسان و إرادته؟

أما الطائفة الثانية،فمن أتباع و أشياع الماركسية،الذين يرددون بحسن نيةٍ و بشكل غوغائي حتميةَ سقوط الرأسمالية،القادم لا محالة،و التي لن يستطيع تأخيرها أو تقديمها إرادة بشرٌ أو إلهٌ..ومنهم من يرددها_أي الحتمية_ بسوء نيةٍ،لفرض سياسته على الناس و المجتمع،و استلاب الإنسان إحساسه بفاعليته و قدرته و إرداته"ستالين مثالاً"..و شعارهم"يا ولدي الشعب إنما الأمر مقدور".

أما الآن و لكي نقترب من دراسة المسألة_أي وجود مفهوم الحتمية في الماركسية أم لا_علينا أن نتناول قبلها بشيءٍ من الحرص مفهومين،أزعم أنهما الكاشفان اللذان يجعلان المسألة أكثر وضوحاً على الأقل:المادية الآلية"الغير جدلية" من ناحية،و القانون الموضوعي الحتمي"أو الحتمية العلمية"من ناحية،و لنر ماذا يقول ماركس _و هو صاحب القضية الأساسي_و لنسمع حديثه،فبكلامك تبرر و بكلامك تُدان كما يقولون!


يقول "ماركس "مرةً في مقدمه كتابه"مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي":(...إن نمط الإنتاج المادي هو الذي يحدد و يشرط سيرورة الحياة الاجتماعية و العقلية عامة.ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم و إنما العكس،إن وجودهم هو الذي يحدد وعيهم).
ها!..هذا نص صريح في ذهاب ماركس بأن الوجود الإنساني محكوم و مشروط بشكل حتمي بواقعه المادي!و أن الواقع المادي و ظروفه هي التي تكون الإنسان!..حتميةٌ بواح!..و لكن علينا أن نتمهل قليلاً فماركس"نفسه "يقول في موضع آخر:(إذا كانت الظروف تكون الإنسان ،فيجب تكوين هذه الظروف بطريقة إنسانية) .يبدو أ هذا القول يتناقض "ظاهرياً"،مع القول السابق،و يلح علينا السؤال ماذا يقصد ماركس؟..أ لا يستقر على رأي؟..هل الإنسان يخلق واقعه المادي و ظروفه؟أم أن الواقع المادي و الظروف هي التي تخلق الإنسان؟!...في الحقيقة هذا هو مربط الفرس و لباب القضية،لأن هذا السؤال ليس مادياً جدلياً بالأصل!و إنما هذه سيرة"المادية الآلية"التي ترى أن الأمور تسير في اتجاه واحد و التي هي نقيض "المادية الجدلية"فبينما تذهب المادية الآلية أن الوعي هو انعكاس سلبي للوجود المادي،تذهب المادية الجدلية في أن الوعي هو بلا شكٍ انعكاس للواقع المادي،و لكنه "انعكاسٌ فعالٌ"،و إذا كانت حياة الناس"الروحية"قد نبتت من الحياة المادية،فهي لا تنفصل عنها،فكل منهما يؤثر و يتأثر بالأخر،و كلما ازداد وعي الناس بالقوانين الموضوعية التي تحكم واقعهم المادي،كلما ازدادت فاعلية نضالهم،و في الحقيقة ليس في المادية الجدلية من مكان للقوانين التي تعمل بنفسها،و ليس في المادية الجدلية من مكان لهذا النظرة المادية الآلية"الساذجة".،لم أجد أوقع من حديث إنجلز في هذا الصدد:
(يا لها من فكرة بلهاء تلك الفكرة التي ينادي بها بعض المفكرين،القائلة بأنه لما كنا لا نعترف لمختلف الأفكار التي تقوم بدور في التاريخ بأي نمو تاريخي منفصل(عن الواقع المادي_إضافة الكاتب)،فإننا لا نعترف لها أيضاً بأية فاعلية تاريخية)(2)..ثم يسهب انجلز في توضيح أن هذه الفكرة غير جدلية عن السبب و النتيجة،كأنهما قطبان متنافران .


..و يتبقى السؤال ماذا عن القوانين الموضوعية _و إن شئت الحتمية_والموجودة خارج إرادة الإنسان و وعيه؟...و أحسب أنه،للإجابة عن هذا السؤال إجابة أكثر عمقاً و حيادية و دونما تعسف،يلزمنا أن نقترب كثيراً من المنهج العلمي،ذلك الذي كان يقدره ماركس كل التقدير،إذ لم يصبُ الفيلسوف و العالم الكبير سوى إلى إرساء "فلسفة علمية"،و الماركسية في ذلك شأنها شأن العلم،ترى الواقع كما هو بدون إضافات خارجية،إذ هي معرفة"موضوعية للواقع المادي"تمدنا بالقوانين التي تحكمه و القائمة بذاتها بعيداً عن الإنسان(و بما داخل جسده جينات)،و من ثم وعي الإنسان بهذه القوانين لتغير هذا الواقع(و بما بدون وعي ايضا كفعل غريزي..و كم من اسهم في تيير التاريخ بدون وعي بقوانينه الموضوعية..فقط دفعهم حب البقاء)...فهبنا أمام قانون فيزيائي_علمي_ "حتمي"يقول بغليان الماء و تبخره في الظروف القياسية عند مائة درجة مئوية،فهل مثل هذا القانون قد اختلقه وعي الإنسان؟و إذا كانت الإجابة بلا؛فهل يستطيع الإنسان العمل بوعيه خارج حتمية هذا القانون(أي محاولة الحصول على الماء المغلي بدون تسخينه حتى الدرجة "المحددة")؟..نجيب و نقول:لا. فإذا رغبت في كوب شاي مغلي(إذا كنت من هواة الشاي الصعيدي)،فعليك الخضوع للقانون الموضوعي الحتمي وهو تسخين الماء.،و إلا فوعيك لن يفيدك شيئاً،و لن تفوز بكوب الشاي الرائع...و السؤال هنا ما شأن ذلك"بالحتمية القدرية"المزعومة،كل ما في الأمر أن الماركسية تقول بأن هناك قوانين موضوعية يتم العمل خلالها،بوعي و إرادة الإنسان،و إنما هم الماركسية هو البحث _أقول البحث_عن هذه القوانين،و هي كالعلم تماماً تخرج من عالمنا المادي،و هي أيضاً كالعلم تماماً ليست نهائية،يقول ماركس في مقدمة كتابه"رأس المال":(هدفنا النهائي هو الكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع)...و لتوضيح أهمية القوانين الموضوعية الحاكمة التي يجب أن يعمل من خلالها وعي الإنسان،نسأل هل كان في إمكان الإنسان بوعيه و إراداته منفردتين،أن يضرب عرض الحائط بالقوانين الموضوعية، فيقيم ثورة اشتراكية و إقامة نظام اشتركي في عصر يقوم اقتصاده على الرق أو القين،أو يقوم اقتصاده على الغزو و السلب و النهب كما كان حال القبائل العربية؟!..بالطبع الإجابة :لا...لأن القوانين الموضوعية تظهر أن في مثل هذه المجتمعات المتخلفة،لم يكن يسمح الصراع الطبقي و العلاقة بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج،تسمح بمثل هذا النظام،بغض النظر عن وعي الإنسان أو رغبته.

بيت القصيد
تقف المادية الجدلية،كما بينا،في خلاف بَين مع نزعتين فلسفيتين،الأولى و هي المادية الآلية،و التي ترى أن وعي الإنسان هو انعكاس سلبي،لواقعه المادي،و أن الواقع المادي بقوانينه الاقتصادية هو أساس التطور التاريخي دونما الحاجة لوعي الإنسان،أو تأثيره.

الثانية،و هي نزعة تتناثر في الفلسفات المثالية،و اللاأدرية و الوجودية،و ترى أن وعي الإنسان هو الذي يحدد وجوده و واقعه و ظروفه،و كأنما هو قادر على خلق هذا الواقع،ضاربةً عرض الحائط بكل القوانين الموضوعية.

أما المادية الجدلية،فترى أن الواقع المادي و وعي الإنسان في علاقة تفاعلية تأثيراً و تأثراً،و أن هذه العلاقة الفعالة،و التي يغير فيه وعي الإنسان من واقعه،كما يغير واقعه منه، لا تتم ألا من خلال قوانين موضوعية حاكمة،شأنها شأن العلم.

سؤال خارج السياق:
نعلم كيف فسرت الماركسية السيرورة التاريخية من عهد المشاعة الأولى حتى الرأسمالية،و كيف دللت على أن الاقتصاد هو العامل"الأظهر"فيها،و الحق قد فسرتها بصورة منطقية و منسجمة مع ذاتها...و لكن السؤال أين و متى قال "ماركس"أن الاقتصاد هو الفاعل الوحيد_و الوحيد فقط_في سيرورة التاريخ؟!