عصر الأنبياء الصامتين ...


محمد عبد القادر الفار
2016 / 5 / 1 - 16:41     

النبوة، والبطولة، وحتى الكاريزما القوية التي تفتح باب الانبهار والاتباع، كلها لم يعد لها متسع في هذا الزمن. مواطن الضعف الفردية أصبح ضبطها سهلاً. نحن في عصر الميمز، حيث كل شيء قابل للاستهزاء، كل الحدود منتهكة. لكل بشري حسابات على وسائط التواصل تنزع عنه أي كمال او قداسة وتعري مواضع ضعفه وتحفظها وتسجلها على قواعد بيانات محفوظة باشكال من الباك اب لا قبل لخيار الناس من الكتومين بمواجهتها، فلكل امرئ سجلات محفوظة من الصوت والصورة يحتفظ بها غيره على اجهزتهم، لا في مخيلاتهم القابلة للنسيان والتغيير.

هو بالتأكيد عصر بلا أنبياء يجهرون بنبوتهم، ولا عارفين "حقيقيين" يبوحون بمعارفهم.هو عصر بلا حرمات ولا قداسة. فلا أحد سيحظى بكبرياء وغموض المقربين الأولين، مهما دنا واطلع وذاق....عصر الميمز هو عصر الإنسان الحر، التائه، بلا معصومين يقبل أقدامهم، ولا عارفين يقتفي أثرهم، عصر بسيئاته وحسناته أمر واقع حتى حين.

في حين أن النبي رجل "وما محمد إلا رسول"، "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا"، "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق"، إلا أن السيرة تكتسب طابعا أسطوريا يضفي على كل شخصياتها هالة من الجدية والوقار الدائم، والدراما الثابتة، حيث كل لحظة في سيرة نبي تبدو لقارئها وكأنها مشهد محكم الإخراج، لا يتسرب إليه هزل ولا ضعف ولا ركاكة. بل كل لحظات النبي مسجلة في السيرة، والساعات الطويلة التي لم تسجل ولم ترو، كأنها لم تحدث. بكل تفاصيلها التي قد تكون ممتلئة بالرتابة أو المواقف الحياتية التي تنزع بتكرارها أي هالة.

ينسب إلى العارف الأندلسي ابن سبعين أنه قال: لقد تحجر ابن آمنة واسعا بقوله "لا نبي بعدي".... وهو قول ينكره عليه بل ويكفره عليه كثير من الناس.... ولعل محمدا عليه الصلاة والسلام كان يفضل لو أن ابن سبعين قد قال "لعل محمدا عليه الصلاة والسلام قصد بقوله "لا نبي بعدي" أنه لا مكان في مستقبل البشرية المفتوح (العصر الحالي بالذات أكثر من عصر ابن سبعين) لجهر الأنبياء بنبوتهم، أو لا مكان للرسل تحديدا، ولا مكان لأوامر وشرائع محددة لا مجال لتداولها والنقاش فيها.

حتى بعد ابن سبعين بمدة طويلة، ظهرأنبياء جدد (لعل بعضهم صادق) ولهم أتباعهم حتى اليوم.، ومع أن قول سيد المرسلين "لا نبي بعدي" قد ضيّق حصة أولئك الأنبياء من الأتباع، إلا أننا لو قارننا الوضع مع زمن الميمز الحالي، لوجدنا أن أكثر الناس تقبلا لفكرة النبوة لا يمكن أن يصدقوا انبعاث نبي جديد. بل ولو جاء بالمعجزات سيقولون هو ساحر أو هو الدجال الأعور عدو المسيح، وحتى من أتباع ديانات لم يقل نبيها "لا نبي بعدي"

الناس تريد أن تركن إلى معلّم روحاني من ماض سحيق، يكتسب بقدمه وانقطاع أي بيانات محسوسة عنه "صورة، صوت، رائحة" هالة أسطورية وسحراً لا يكون لأي معاصر.

محمد صلى الله عليه وسلم نبي، ومن نبوءته أنه رأى مستقبلا تتصاعد فيه القيمة الفردية للإنسان، حتى تصبح تجربته الروحية الخاصة، مهما قلت أهميته الظاهرية ومكانته الاجتماعية أو العلمية، هي دليله بدلا من تجارب أشخاص آخرين، تم تعميمها، واتباعها.


* تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون*


صلى الله على الذات المحمدية وسلم تسليما كثيراً