عن الأمن والحرية


فريدة النقاش
2016 / 4 / 30 - 08:37     

قضية للمناقشة : عن الأمن والحرية

شنت قوات الأمن حملة اعتقالات عشوائية طالت أعدادا من المواطنين خوفا من مظاهرات يوم الخامس والعشرين من أبريل، ومن غضب كثير من المصريين بسبب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية والتى تنازلت مصر بمقتضاها عن جزيرتى “تيران” و”صنافير” فى خليج العقبة وقالت إنها تعيدهما إلى أصحابهما الأصليين.

وفجرت حملة الاعتقالات غضبا إضافيا فى أوساط المصريين وأثارت على الصعيد الثقافى قضية مهمة دارت المناقشات حولها فى السابق بين النخبة ألا وهي: هل يا ترى يمكن أن تنطبق معايير حقوق الإنسان العالمية على بلد مثل مصر تدور فيه معركة ضارية ضد الإرهاب المسلح الذى يرفع شعارات دينية، أم أن هناك معايير أخرى خاصة بمثل هذا الوضع تنتقص من شمولية المعايير العالمية؟

وكان الرئيس “عبدالفتاح السيسي” قد استخدم هذا المنطق فى تصريحات وكلمات متفرقة كان آخرها ما أعلنه فى حضور الرئيس الفرنسى “فرانسوا هولاند” حين طالب الأوروبيين بألا ينظروا إلى واقعنا بمعايير أوروبية لأن مستوى التطور فى بلادنا لم يصل بعد إلى ما وصلوا هم إليه.

ويؤسس مثل هذا المنطق لكل التجاوزات التى تقوم بها قوات الأمن، ومن ضمنها حملات الاعتقال العشوائية الأخيرة، فضلا عن تجاهل المطالبات الكثيرة بإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات والتى ينتمى بعضها إلى نهاية القرن التاسع عشر وقد تجاوزها الزمن والتطور الإنساني.

ويعيد هذا المنطق إلى الحياة الفكرية ما سبق أن وصفه مفكران تقدميان هما “مهدى عامل” و”صادق جلال العظم” بالاستشراق المعكوس فى ردهما على بعض أفكار كتاب “إدوارد سعيد” “الاستشراق”.

ومن المعروف أن غالبية علوم الاستشراق الأوروبية كانت قد تأسست على فكرة مركزية طالما خدمت الأهداف الاستعمارية والتى لخصها شاعر الاستعمار الإنجليزى “كبلنج” فى قوله “إن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”.

وتوالت بعد ذلك التفسيرات والرؤى الفكرية التى نسبت إلى شعوب الشرق صفات تم إجمالها تحت مفهوم “التخلف” فهى شعوب تفكر بعواطفها، كما أنها كسولة وشهوانية ومستعصية على التفكير العقلانى المنظم، على العكس تماما من شعوب أوروبا العقلانية والمتحضرة، والتى تؤهلها عقلانيتها وحضارتها لاستعمار الآخرين حتى تعلمهم ما ينبغى أن يتعلموه ليصعدوا فى مدارج الحضارة، وتحت هذه اللافتة “البريئة” جرت أكبر عملية نهب وقرصنة عرفتها البشرية، فاستولت أوروبا على ثروات الشعوب وعطلت تطورها، واستبعدت أمريكا شعوب أفريقيا حين جلبت الملايين منهم قسرا لكى يعمروها ويزرعوا أراضيها، وتتوالى انتفاضاتهم ضد العبودية.

وكانت قبل ذلك قد قامت بعملية تدمير وحشية لحضارة وثقافة السكان الأصليين فيها.

كانت الغالبية العظمى من أفكار الاستشراق ومقولاته إذن مغموسة فى دماء الشعوب، واستغرق الأمر زمنا وقضى على ملايين البشر حتى تحررت هذه الشعوب من قبضة الاستعمار وخرجت الجيوش، ولكن بدأ الاستعمار الاقتصادى وبقيت الثقافة والأفكار التى علمنا التاريخ أنها تعيش طويلا حتى بعد أن يسقط الأساس المادى الذى قامت عليه.. ولايزال المثقفون الوطنيون فى كل أرجاء العالم الذى عرف الاستعمار وقاومه يكافحون ضد بقايا هذه الأفكار والمقولات وهم يكشفون عن الأسس الإيجابية للثقافات الوطنية ويضيفون إلى التراث الإنسانى التحررى إضافات عبقرية ينظر لها الغرب بدهشة وإعجاب.

كانت الحرية – ولاتزال – موضوعا أساسيا من موضوعات الثقافة الوطنية فى بلدان التحرر الوطني، وناضلت الشعوب المستعمرة “بفتح الميم” طويلا من أجل الحصول على حرياتها سواء ضد الاستعمار أو ضد نظم الاستبداد التى طالما ساندها الاستعمار لتتولى قمع الشعوب نيابة عنه، وتدلنا القراءة المدققة للتاريخ الحديث لهذه الشعوب على هذه الحقيقة.

ولم تكن مصادفة أن الحرية كانت هدفا رئيسيا من أهداف موجة الثورة المصرية الأولى فى 25 يناير 2011.

ولا يجوز، ولا يليق بنا نحن أصحاب أول حضارة فى العالم أن نختزل مطالب المصريين بعد هذه الموجات من الثورة فى “العيش” فقط ونسقط الحرية من الحساب باسم الأمن، وباعتبار أننا نختلف عن الأوروبيين فى مرحلة التطور التى نعيشها، لأن من هذا المنطق إقرارا ضمنيا بأننا – كما يقول “الاستشراق” القديم “متخلفون” وبذلك نستحق مصيرنا، رغم أن التقدم والتخلف هما مفهومان نسبيان.

لن يتحقق الأمن الشامل فى بلادنا دون احترام كل الأطراف شعبا وحكومة لحرية وكرامة الإنسان، فهل نسينا أن الكرامة الإنسانية كانت هدفا رئيسيا من أهداف الثورة؟

إذا نسيت السلطات ذلك فإن الشعب المصرى الذى يتعرض بعض خيرة شبابه للسجن والإيذاء لن ينسى أبدا.