طريق اليسار - العدد 83


تجمع اليسار الماركسي في سورية
2016 / 4 / 29 - 07:40     


طريق اليســـــار
جريدة سياسية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سورية / تيم /
* العدد 83 نيسان / أبريل 2016 - [email protected] E-M: *


* الافتتاحية *
استقطابات المعارضة السورية في زمن الأزمة

في مؤتمر حزب العمال الاشتراكي- الديموقراطي لعموم روسيا عام 1903 حصل خلاف بين لينين ومارتوف حول عبارة لا تتجاوز نصف سطر تتعلق بشروط العضوية في الحزب. فوجئ الاثنان، وهما صديقان وفي حزب واحد ويعتنقان المبادئ الفكرية والسياسية نفسها، بحجم خلافاتهما حين اصطدما حول نصف سطر. على أساس ذلك، انقسم البلاشفة والمناشفة يومها، وهو انشقاق رسم معالم القرن العشرين لأنه كان المدخل إلى ثورة أكتوبر1917 التي وصفها الصحافي جون ريد بأنها «هزت العالم»: خلال أربعة عشر عاماً، اكتشف البلاشفة والمناشفة أن الخلاف حول نصف السطر ذاك هو ذروة جبل الجليد الذي يحوي تحته خلافات كامنة حول رؤية العالم وروسيا والماركسية وليس خلافاً تنظيمياً محضاً. في السياسة الأمور هكذا: الموقف السياسي يحوي رؤية كلية تضم كتكوين عناصر محددة بداخلها.
يمكن تطبيق ذلك على الأزمة السورية البادئة من درعا في 18 آذار (مارس) 2011.
في 25 شباط (فبراير) 2011، وعلى ايقاع توقّع تطورات سورية بقوة رياح ما حصل في مصر وتونس، أطلقت الأمانة العامة لـ (إعلان دمشق) دعوة إلى «جميع قوى المعارضة على أمل اللقاء في لجنة وطنية للتنسيق من أجل التغيير تنسق المواقف وتخطط للنشاطات وتديرها». في 9 أيار (مايو) صيغت وثيقة بعنوان: «نحو ائتلاف عام للتغيير الوطني الديموقراطي». خلال شهر ونصف شهر، أجريت مفاوضات شملت جميع أطياف المعارضة بالداخل والخارج، أحزاباً وتجمعات ومستقلين، للوصول من خلال ذلك إلى «تجمع شامل للمعارضة أو هيئة تنسيق بين الجميع». فوجئ المعارضون السوريون بحجم خلافاتهم وبأن صدعها غير قابل للالتئام في لحظة سياسية يتم فيها حراك اجتماعي كبير ضد سلطة أصبحت في وضع دفاعي ضعيف، وفي لحظة ظن فيها الجميع منذ (درعا) أنه قد طويت خلافات المعارضة التي انقسم فيها (إعلان دمشق)، في 1 كانون الأول (ديسمبر) 2007، بين معسكرين: مراهنون على الخارج لإحداث تغيير داخلي (الإسلاميون والليبراليون واليمين الكردي) وخط وطني ديموقراطي تمت تسميته بين 2008 و2010 بـ (الخط الثالث) والذي ضم (الناصريين والماركسيين واليسار الكردي)، تمييزاً له عن خطّي السلطة ومن بقي في (إعلان دمشق(.
منذ (درعا) وعلى مدار ثلاثة أشهر، لم يعد الخلاف بين المعارضين السوريين حول (دور الخارج في التغيير السوري) أسوة بالتجربة العراقية ضد صدام حسين، بل كان، مع مراهنة الجميع على داخل بدأ يتحرك، انطلاقاً من عناوين جديدة: (تغيير) و(اسقاط النظام). في نص (إعلان دمشق) في 25 شباط كان هناك استخدام لمصطلح (التغيير) الذي اعتبر جذرياً عند تشكيل (الإعلان) عام 2005 وعودة إلى لغة المعارضة السورية في «التجمع الوطني الديموقراطي» عام 1980 قبل تخلّي «التجمُّع» عن ذلك وتبنيه «الإصلاح» عام 1989. عند تأسيس «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديموقراطي» وضح، وعلى رغم أن المفاوضات شملت الجميع على وثيقة (9 أيار 2011)، بأن انقسام (1 كانون الأول 2007) عاد يرخي بثقله مع تأسيس «الهيئة» في 25 حزيران (يونيو) 2011 وعبر الاصطفاف نفسه ولكن تحت عناوين جديدة.
«موقف التغيير» كان يتكون من العناصر التالية:
1- الحوار مع السلطة إن تم تأمين بيئة مناسبة للحوار.
2– انتقال السلطة عبر اتفاق للتسوية بين النظام والمعارضة لإقامة سلطة انتقالية من أجل قيادة التغيير نحو وضع ديموقراطي يتجاوز الأوضاع القائمة. في الجانب الثاني كان اتجاه إسقاط النظام يرفض هذين العنصرين عند أصحاب النزعة التغييرية ويتجه إلى محاولة تكرار ما حصل قبل أشهر مع زين العابدين بن علي وحسني ومبارك في تونس والقاهرة عبر استثمار «الحراك المعارض»، هذا الاستثمار الذي اجتمع عليه «التغييريون» و «الإسقاطيون» ولكن، لهدفين مختلفين. عندما وضح، بحدود نهاية تموز (يوليو) 2011، أن «الحراك» لم يستطع أن يحقق في دمشق ما حصل في القاهرة وتونس عاد «الإسقاطيون» إلى نزعتهم القديمة في المراهنة على الاستعانة بالخارج، متشجعين بسقوط القذافي في 23 آب (أغسطس) 2011 من باب العزيزية في طرابلس الغرب عبر قوة «الناتو» ومتقوين بدعوة باراك أوباما للرئيس السوري بـ «أن يتنحى» يوم 18 آب وبالقطيعة التي قامت بها أنقرة مع دمشق خلال شهر آب.
هنا أصبح «إسقاط النظام» يضم في مكوناته «المراهنة على الخارج» بوصف الثاني وسيلة لتحقيق الأول، ثم في شهر أيلول أصبح «العنف المسلح المعارض» ثالثهما. في الأسبوع الأول من أيلول مع محادثات مدينة الدوحة بين «هيئة التنسيق» و «إعلان دمشق» و «الإخوان المسلمون» كان موضوعا «التدخل الخارجي» و «العنف» سبباً في فشل المحادثات ومن ثم اتجاه «الإخوان:» و «الإعلان» إلى تشكيل «المجلس الوطني» في اسطنبول في 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2011.
هذا الخلاف تحت عنواني «تغيير النظام» و «إسقاط النظام» قاد إلى انقسام المعارضة السورية خلال فترة 2011- 2015:تجسّد ذلك عملياً في فشل اتفاق 30 كانون الأول 2011 بين «الهيئة» و «المجلس» بالقاهرة ثم في فشل مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية في 2 و3 تموز 2012 ثم في تأييد «الهيئة» بيان جنيف 1 (30 حزيران 2012 ) وفي رفض «المجلس» له وهو ما استمر مع خليفته منذ 11/11/2012: «الائتلاف» الذي استمر على هذا الرفض حتى قبل أربعة أيام من انعقاد (جنيف 2) في 22 كانون الثاني 2014. مع بروز اتجاه أميركي- روسي منذ اتفاق موسكو في 7 أيار 2013 نحو تطبيق تسوية بيان جنيف1 أصبحت «التسوية» هي العنوان الآخر الخطي ضد خط «إسقاط النظام» في اصطفافات المعارضة السورية. تعزّز هذا مع القرار 2118 الصادر في 27 أيلول 2013، على خلفية «اتفاق الكيماوي السوري» بين كيري ولافروف وهو الذي كان طريقاً إلى «جنيف2».
كان التدويل مرادفاً للتسوية السورية وهو قطارها ومقطورتها بعد أن عجز السوريون عن تحقيق ذلك عام 2011 ثم مع فشل التعريب مع مبادرتي الجامعة العربية (2 تشرين الثاني/ نوفمبر- 22 كانون الثاني/ يناير 2012). لذلك حين استبعدت «هيئة التنسيق» من «جنيف2» رفضت إغراءات «المفاوضات الموازية» التي قدمت في نهاية كانون الثاني 2014 من أحد سفراء دول «مجموعة البريكس» ورفضت عرضاً لحكومة مشتركة مع السلطة، مراهنة بدلاً من ذلك على أنها رقم لا يمكن تجاوزه في خريطة المعارضة السورية، وساعية عبر سلسلة تفاهمات مع قوى معارضة مختلفة لتقوية موقع «الهيئة» أمام «الائتلاف». ساهم فشل «جنيف2» بسبب نشوب الأزمة الأوكرانية في شباط 2014 في تسهيل هذه المهمة أمام «الهيئة». عندما انتصر خط «التسوية» في «الائتلاف»، بدأ الأخير في التلاقي مع «الهيئة» في القاهرة- كانون الأول 2014 وفي باريس- شباط 2015 وفي بروكسيل- تموز 2015 ثم في مؤتمر الرياض في كانون الأول 2015 عندما دُعيا بوصفهما كيانين سياسيين ودُعي المعارضون السوريون الباقون، مدنيين وعسكريين، بوصفهم أفراداً. ترك هيثم مناع هيئة التنسيق بسبب معارضته لقاء باريس، وقد كانت محاولته عبر مؤتمري (القاهرة 1- كانون الثاني 2015) و (القاهرة 2- حزيران 2015)، بالتعاون مع قوى في «الائتلاف» مثل أحمد الجربا، هي من أجل تشكيل قوة جديدة على أنقاض «الهيئة» و «الائتلاف»، فيما ترك صالح مسلم «الهيئة» بسبب استبعاده من مؤتمر الرياض بفعل واشنطن وأنقرة مع إغماض عيني موسكو.
كان مؤتمر الرياض طريقاً إجبارياً إلى «جنيف3» تم تحديده في «فيينا» ولولا مؤتمر الرياض، ما كان القرار 2254 ليصدر: منذ ذلك المؤتمر في العاصمة السعودية هناك اصطفافات جديدة كامنة في المعارضة السورية: كل من هو ضد مؤتمر الرياض داخل هيئة التنسيق، أو على جوانبها وتخومها، هو ليس صلباً في تطبيق بيان جنيف1 ويقبل بتفسير مائع له هو أقرب إلى تفسير السلطة، خصوصاً موضوع «هيئة الحكم الانتقالية ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة» ولا مانع لديه من «مفاوضات موازية» تتم في شكل منفرد خارج «جنيف3» في دمشق أو غيرها تقود إلى «جنيف سوري» محض أو برعاية دولية - إقليمية، فيما يلاحظ أن هؤلاء ضد «زواج الضرورة» بين «الهيئة» و «الائتلاف».
في «الائتلاف» هناك استقطاب ضد مفاعيل «الرياض» و «جنيف») تأتي من قوى وشخصيات ما زالت رافضة لتسوية «بيان جنيف1»، وهي رغم عدم معارضتها بل مشاركتها في كليهما ما زالت تراهن على أن «الائتلاف» له حصرية تمثيل المعارضة السورية وهي تسعى في «جنيف3» عبر التصلّب إلى تفشيله، في مراهنة على رئيس أميركي جديد، سواء كان ديموقراطياً أم جمهورياً، يقلب الطاولة على موسكو وطهران ودمشق في مرحلة ما بعد 20 كانون الثاني 2017 عندما يغادر باراك أوباما البيت الأبيض.

مذكرة توضيحية/تفسيرية من ستيفان ديمستورا
24 – 3 - 2016

هذه مذكرة تفسيرية/توضيحية للورقة التي قدمها المبعوث الخاص حول العناصر المشتركة. توضح هذه المذكرة الغرض من الورقة. خلال سير المباحثات لاحظ المبعوث الخاص أن هناك نقاط توافق بين الطرفين فيما يتعلق برؤيتهما لما يمكن أن يكون عليه مستقبل سوريا. قام المبعوث الخاص بإصدار توجيهات لفريقه بالتقاط تلك العناصر المشتركة من أجل مساعدته على التحضير للدورة القادمة من المفاوضات والتي ستركز على مسألة الانتقال السياسي. تشكل الورقة عناصر استرشاديه لنقاط التوافق الموجودة بين الطرفين المتفاوضين. الورقة ليست وثيقة توافق عليها الطرفان المتفاوضان. لا تشكل الورقة بأي شكل من الأشكال وثيقة إطارية أو نص تم التفاوض عليه، ولن يتم تقديمها إلى مجلس الأمن ولا إلى الفريق الدولي لدعم سوريا إلا في حالة الحصول على موافقة الطرفين المتفاوضين. على العكس، دعا المبعوث الخاص الطرفين المتفاوضين إلى استلام الورقة ودراسة ما اذا كانت تعكس بشكل صحيح نقاط التوافق على المبادئ الأساسية، كما دعا الطرفين إلى تحديد نقاط التوافق الهامة حول المبادئ الأساسية. لتفادي أية شكوك، فإن الطرفين المتفاوضين سيظلان يحافظان على مواقفهما التفاوضية فيما يتعلق بعملية الانتقال السياسي ورؤيتهما لمستقبل سوريا.
مبادئ أساسية لحل سياسي في سوريا
يتفق المشاركون في ا المباحثات السورية- السورية مع المبعوث الخاص على أن التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2254 وبيانات الفريق الدولي لدعم سوريا وبيان جنيف بكامله هي جميعاً الأساس الذي تقوم عليه عملية انتقال سياسي - وما بعدها - يكون من شأنها إنهاء الأزمة في سوريا – وهي أزمة أودت بحياة أعداد لا حصر لها من الناس وفرضت على الشعب السوري معاناة لا حد لها. وتؤكّد الأطراف أن التسوية السياسية هي الطريق الوحيدة لتحقيق السلام. وتحقيقاً لهذه الغاية تتبنى الأطراف المبادئ الأساسية التالية باعتبارها الأساس الذي تقوم عليه دولة سورية المستقبلية التي تلبّي تطلعات الشعب السوري:
1- احترام سيادة سوريا، واستقلالها، ووحدة وسلامة أراضيها. ولا يجوز التنازل عن أي جزء من الأراضي الوطنية. وإن سوريا، بوصفها جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية، ملتزمة بأداء دور سلمي ونشط في المجتمع الدولي. كما أنها، بوصفها عضواً من الأعضاء المؤسسين في الأمم المتحدة، ملتزمة بميثاق الأمم المتحدة وبمقاصده ومبادئه. وما زال الشعب السوري ملتزماً بأن يستعيد مرتفعات الجولان المحتلة بالوسائل السلمية.
2- التأكيد على مبدأي المساواة في السيادة وعدم التدخّل، طبقاً لميثاق الأمم المتحدة. وسيقرر الشعب السوري وحده مستقبل بلده بالوسائل الديمقراطية، عن طريق صندوق الاقتراع، وهو يمتلك الحق الحصري في اختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون ضغط أو تدخّل خارجي .
3- سوريا دولة ديمقراطية غير طائفية تقوم على كل من المواطَنة والتعددية السياسية، وتمثيل جميع مكونات المجتمع السوري، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، والمساواة في الحقوق، وعدم التمييز، وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، والشفافية، والمساءلة، ومبدأي المصالحة الوطنية والسلام الاجتماعي.
4- تعتز سوريا بتاريخها وتنوعّها وبما تمثله جميع الأديان والتقاليد والهويات الوطنية من إسهامات وقيم بالنسبة إلى المجتمع السوري. لا تسامح بشأن الأعمال الانتقامية الموجَّهة ضد الأفراد أو الجماعات. ولن يُسمح بأي تمييز ضد أي مجموعة من المجموعات القومية أو العرقية أو الدينية أو اللغوية أو الثقافية كما سيجري توفير الحماية الكاملة لهذه المجموعات جميعاً. وسيتمتع أفراد هذه المجموعات كافةً، رجالاً ونساءً، بتكافؤ الفرص في مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعامة.
5- ستتمتع النساء بالمساواة في الحقوق و في التمثيل العادل في جميع المؤسسات وهياكل صنع القرار بنسبة تمثيل تبلغ على الأقل 30 في المائة أثناء المرحلة الانتقالية وما بعدها.

6- طبقاً لقرار مجلس الأمن 2254 (2015)، يشمل الانتقال السياسي في سوريا آليات حكم ذا مصداقية وشامل للجميع وغير قائم على الطائفية، كما يشمل جدولاً زمنياً وعمليةً لإعداد دستور جديد وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، عملاً بالدستور الجديد، يجري إدارتها تحت إشراف الأمم المتحدة، على نحو يلبّي متطلبات الحكم الرشيد وأعلى المعايير الدولية المتعلقة بالشفافية والمساءلة، ويشارك فيها جميع السوريين، بمَن فيهم السوريون المغتربون المؤهلون للتصويت.
7- سيكفل هذا الحكم إيجاد بيئة استقرار وهدوء أثناء الفترة الانتقالية تتيح الأمان وتكافؤ الفرص للفاعلين السياسيين بما يمكنهم من ترسيخ أقدامهم وتنظيم حملاتهم الانتخابية أثناء الانتخابات في المستقبل والمشاركة في الحياة العامة.
8- ضمان استمرار واصلاح مؤسسات الدولة والخدمات العامة وفقاً للمعايير الدولية ولمبادئ الحكم الرشيد وحقوق الإنسان، إلى جانب اتخاذ تدابير لحماية البنية التحتية العامة والممتلكات الخاصة. وستتخذ آليات الحكم تدابير فعالة من أجل مكافحة الفساد. وسيستفيد المواطنون من وجود آليات فعالة للحماية فيما يتصل بعلاقاتهم مع جميع السلطات العامة بما يضمن الامتثال الكامل لحقوق الإنسان.
9- ترفض سوريا الإرهاب رفضاً قطعياً وتتصدى بقوة للمنظمات الإرهابية والأفراد الضالعين في الإرهاب كما يحددهما مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وستقوم سوريا بجهود على المستوى الوطني وكذلك بالمشاركة مع المجتمع الدولي، من أجل هزيمة الإرهاب ومعالجة أسبابه. وتدعو سوريا جميع الدول، وفقاً للقرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إلى منع تزويد الجماعات الإرهابية بالسلاح، أو المال، أو التدريب، أو المأوى، أو المعلومات الاستخباراتية، أو توفير ملاذ آمن لها، وأن تمتنع عن التحريض على ارتكاب أعمال إرهابية.
10- السوريون ملتزمون بإعادة بناء جيش وطني قوي وموحَّد، بوسائل تشمل أيضاً نزع سلاح ودمج أفراد الجماعات المسلحة الداعمة للعملية الانتقالية وللدستور الجديد. ويقوم هذا الجيش المحترف بحماية حدود الدولة وسكانها من التهديدات الخارجية وفقاً لمبدأ سيادة القانون. وستمارس الدولة ومؤسساتها بعد إصلاحها الحق الحصري في السيطرة على السلاح. ولن يُسمح بأي تدخّل من جانب مقاتلين أجانب على الأراضي السورية.
11- سيجري تمكين جميع اللاجئين والنازحين من العودة إلى ديارهم بأمان، إذا كانوا يرغبون في ذلك، بدعم وطني ودولي وبما يتوافق مع معايير الحماية الدولية. وسيجري إطلاق سراح الأشخاص المحتجَزِين تعسفياً وحسم مصير الأشخاص المختفين أو المختطَفين أو المفقودين.
12- سيُقدَّم الجبْر والإنصاف والرعاية إلى مَنْ تكبّدوا خسائر أو عانوا إصابات نتيجةً للنزاع، كما ستُعاد إليهم الحقوق والممتلكات المفقودة. وفي الوقت الذي تجري فيه استعادة السلام والاستقرار، ستدعو سوريا إلى عقد مؤتمر للمانحين من أجل الحصول على أموال لدفع التعويضات ولتعمير البلد وتنميته، وإلى إنهاء جميع التدابير الاقتصادية والإجراءات الأخرى الأحادية الطرف أو القسرية التي تؤثّر على الشعب السوري. وتتطلع سوريا قُدُماً إلى الحصول على ضمانات ودعم دوليين من أجل تنفيذ العملية السياسية بطريقة لا تخلّ بسيادة سوريا.


إعلان دستوري مؤقت للمرحلة الانتقالية بسوريا


تاريخ النشر: 2015-02-24 02:03:49
المحامي أنور البني
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية
http://www.sl-center.org/news/1?language=arabic
تتردد كثيرا تساؤلات محقة حول المرحلة الانتقالية ومدتها والآلية القانونية التي تحكمها , وترد أفكار كثيرة حول العودة للعمل بدساتير سابقة أو استمرار العمل بالدستور الحالي مع التعديل عليه. كما تطرح أسئلة حول طريقة الانتقال إلى بيئة قانونية جديدة ديموقراطية يكون الشعب فيها هو صاحب القرار, مع طريقة إعداد دستور جديد وتصفية آثار المرحلة الماضية ومصير مرتكبي جرائم قتل المدنيين وتدمير البلاد وإعادة السلم الأهلي الذي تعرض لشروخ كبيرة وقاسية, وأسئلة أخرى كلها مشروعة وتعبر عن قلق من مستقبل لم تتحدد معالمه , بينما لم تقدم أي جهة خريطة سياسية قانونية آمنة للانتقال الديموقراطي.
ان المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية وإيمانا بدوره في تقديم رؤى ودراسات حول بيئة قانونية لمستقبل سوريا عنوانها الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان , نتقدم بهذا الاجتهاد لإعلان دستوري مؤقت يتم العمل به في الفترة الانتقالية للمعنيين وأصحاب القرار لعلها تساعدهم لتخفيف معاناة السوريين وتأمين الانتقال الآمن والسلمي نحو مستقبل نؤمن بأنه سيكون مشرقا رغم كل الألم الذي نعيشه الآن.
الباب الأول مبادئ عامة
توطئة : يعلقّ العمل بالدستور الحالي وجميع القوانين والمحاكم الاستثنائية كالقانون 49 لعام 1980 وقانون إحداث محكمة الإرهاب والمادة 16 من القانون14 لعام 1969 الخاصة بحماية عناصر الأمن من المحاكمة والمرسوم 55 لعام 2011 الخاص بتعديل قانون الأصول الجزائية بتمديد التوقيف الأمني وتفويض الأجهزة الأمنية بمهام الضابطة العدلية , والمحاكم الميدانية وجميع القوانين التي تعرقل عملية الانتقال الديموقراطي.
المادة الأولى : الجمهورية السورية دولة ذات سيادة وهي وحدة جغرافية سياسية لا تتجزأ ولا يجوز التخلي عن أي جزء منها , وهي جزء من منظومة عربية وإقليمية ودولية.
المادة الثانية : الجمهورية السورية دولة متنوعة قوميا ودينيا وطائفيا وجميع أبنائها متساوون بالحقوق والواجبات دون أي تمييز.
المادة الثالثة : الجمهورية السورية دولة تحترم الديموقراطية ومبادئ حقوق الإنسان المتمثلة بالإعلان العالمي والشرعة الدولية والاتفاقيات الملحقة به ولا يجوز إصدار أي قانون أو تشريع ينتهك هذه المبادئ.
المادة الرابعة : حرية : التعبير والرأي والاعتقاد والمشاركة بالقرار عبر الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وإصدار الصحف والمطبوعات حقوق مشروعة ومحفوظة لكل السوريين.
الباب الثاني الحكومة المؤقتة
المادة الأولى : تدير الدولة خلال الفترة الانتقالية حكومة مؤقتة يكون مجموع أعضائها بالكامل من مضاعفات الرقم ثلاثة ويراعى في تشكيلها التنوع السياسي والقومي والديني والطائفي للشعب السوري
المادة الثانية : تناط بالحكومة المؤقتة مجتمعة كامل الصلاحيات التنفيذية لإدارة شؤون الدولة خلال الفترة الانتقالية وتتخذ قراراتها بأغلبية الثلثين, ويمثل رئيس الوزراء الدولة أمام الجهات الخارجية.
المادة الثالثة : مدة الحكومة المؤقتة سنتين كحد أقصى.
المادة الرابعة : تباشر الحكومة بإعادة الإعمار وبناء البنية التحتية وتقديم الخدمات للمواطنين وإعادة هيكلة السلطة القضائية والإدارات والمؤسسات والعمل على ضبط الأمن وقبول المساعدات غير المشروطة من الجهات الدولية من أجل إعادة البناء.
المادة الخامسة : بالإضافة لمهامها بإدارة شؤون البلاد فإن على الحكومة المؤقتة مهمة تشكيل الجمعية الوطنية لوضع دستور جديد للبلاد وإجراء الاستفتاء عليه مع تأمين مناخ آمن ونزيه وحيادي للمشاركة ووضع قانون جديد للانتخاب والاشراف على إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية .
المادة السادسة : لا يجوز لأعضاء الحكومة المؤقتة الترشح للانتخابات النيابية والرئاسية في دورتيهما الأولى
الباب الثالث الجمعية الوطنية
المادة الأولى : تشكل جمعية وطنية لوضع مشروع دستور جديد للبلاد مؤلفة من مائة وعشرون عضوا يتم انتخاب نصفهم مباشرة من الشعب حسب نظام المحافظة دائرة انتخابية واحدة, ولكل محافظة عدد متناسب مع عدد سكانها, ويتم تعيين النصف الثاني من أصحاب الخبرة القانونية والاقتصادية والرموز الاجتماعية وبشكل يراعى تواجد كامل مكونات المجتمع السوري.
المادة الثانية : تتخذ الجمعية الوطنية قراراتها بشأن الدستور ومواده بأغلبية ثلاثة أرباع أعضائها, ويجب أن تنجز الجمعية مهمتها خلال فترة أقصاها سنة من تاريخ بدء عملها
المادة الثالثة : تمارس الجمعية الوطنية عملها بكل شفافية وتنشئ حملة توعية وتوضيح لعملها متعاونة مع الحكومة ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام.
المادة الرابعة : تقوم الحكومة عند إنجاز مشروع الدستور من قبل الجمعية الوطنية بعرضه على الاستفتاء العام , ويجب أن يحصل على أغلبية أعداد المواطنين المسجلين بالاستفتاء أو ثلثي عدد المصوتين فعليا, ويحق للسوريين خارج البلاد المشاركة بالاستفتاء وتؤمن الحكومة هذه المشاركة.
المادة الخامسة : في حال عدم حصول مشروع الدستور على الأصوات الضرورية يعاد للجمعية الوطنية لتعديله وإعادة عرضه على الاستفتاء خلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر وبهذه الحالة يكتفى بأغلبية المصوتين.
المادة السادسة : تحل الجمعية الوطنية حكما بعد إقرار الدستور بالاستفتاء ويصبح ساري المفعول من تاريخه.
الباب الرابع هيئة العدالة الانتقالية
المادة الأولى : تنشأ هيئة مستقلة باسم هيئة العدالة الانتقالية وتتألف من شخصيات قانونية واجتماعية وسياسية.ولها أن تستعين بمن تشاء من خبراء وشخصيات لتنفيذ مهمتها
المادة الثانية : تضع الهيئة نظامها الداخلي وطريقة عملها.
المادة الثالثة : تكون مهام هيئة العدالة الانتقالية :
1- إطلاق سراح جميع المعتقلين والبحث عن المفقودين وتسوية الأوضاع القانونية للضحايا.
2- العمل على إرساء وتدعيم السلم الأهلي وإجراء مصالحة وطنية ونشر التوعية بإنشاء لجان مناطقية للمصالحات واستخدام كافة أنواع الإعلام وورشات العمل والندوات الجماهيرية.
3- إنشاء محكمة مركزية ومحاكم فرعية لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب أو الجرائم ضد الانسانية أو الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان مع ضمان جميع شروط المحاكمة العادلة.
4- إجراء مسح ميداني لجميع الأضرار المادية والجسدية وإنشاء وإدارة صندوق تعويضات يغذى من التبرعات والمنح والمساعدات المحلية والعربية والدولية مع تخصيص بند في ميزانية الدولة له. وإعطاء الأولوية لذوي الضحايا والجرحى وتأمين مساكن بديلة لمن تهدمت بيوتهم.
5- إنشاء لجنة خاصة لتوثيق كافة المراحل التي مرّت بالبلاد وتخليد ذكرى الأشخاص الذين قدموا حياتهم ومالهم من أجل مستقبل الوطن وادراجها في المناهج المدرسية حتى تكون مثلا يحتذى ومنارة وذكرى دائمة.
الباب الخامس الجيش وقوى الأمن
المادة الأولى : يخضع الجيش وقوى الأمن لأوامر وسلطة الحكومة المؤقتة
المادة الثانية : تعاد هيكلة الجيش ليكون جيشا احترافيا متفرغا يدافع عن حدود البلاد ويعاد تأهيل قوى الأمن الداخلي وأجهزة الأمن لتكون أجهزة تحمي أمن البلاد وسلامة حياة المواطنين في المجتمع وتحال جميع القيادات والعناصر العسكرية والمدنية المتورطة بجرائم قتل المدنيين بالمشاركة أو بإعطاء الأوامر أو التحريض إلى هيئة العدالة الانتقالية لمحاكمتهم بشكل عادل.
المادة الثالثة : تقوم قوى الأمن الداخلي بمساعدة أجهزة الأمن والجيش عند الضرورة لإعادة بسط الأمن والقانون وسحب السلاح غير الشرعي.
الباب السادس خاتمة
تقوم الحكومة المؤقتة بتهيئة الاجواء السياسية والاعلامية والامنية لإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية في جو حيادي ونزيه وتحت رقابة منظمات المجتمع الأهلي المحلي والعربي والدولي حسب مواد الدستور الجديد وتنتهي مهامها بإعلان تشكيل الحكومة الشرعية المنتخبة.


رحيل
نعوة مناضل

توفي اليوم10آذار2016 الرفيق عمر قشاش عن عمر90عاما.
انتسب الرفيق عمر قشاش الى صفوف الحزب الشيوعي السوري عام1951.اصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب في المؤتمر الثالث عام1969.وقف ضد تكتل خالد بكداش الذي اعلن الانشقاق عن الحزب يوم3نيسان1972.كان عضوا في المكتبين السياسيين للحزب الشيوعي-المكتب السياسي عقب المؤتمرين الرابع عام1973والخامس عام1978.
دخل السجن اعوام1959-1961وفترة حزيران 1978- شباط1980 وفترة تشرين اول1980-تشرين اول1995.
كان عمر قشاش مثالا للمناضل الذي صمد في السجون.من النماذج المميزة في تاريخ الحركة النقابية العمالية السورية.كان من القلاءل الذي نال احترام جميع القوى السياسية االسورية حتى الذين كانوا في الخصومة والاختلاف معه.
الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي

عمر قشاش العامل والنقابي اليساري ، الذي ذاق مرارة السجون ..
في ذمة الخلود
عبد الله حنا

في التاسع من آذار 2016 أدركت المنية في السلمية بعيدا عن مسقط رأسه العامل الحلبي والنقابي اليساري والمناضل ، الذي لا تلين له قناة ، عمر قشاش ... وسنتناول في الفقرات التالية بعضا من التاريخ المجيد لهذا المناضل الصادق الشهم .
أولا - عمر قشاش في أجواء العمل النقابي والنضال الوطني
مرّت الحركة النقابية السورية بالمراحل التالية:
- مرحلة النشوء والتكوّن في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
- مرحلة الانطلاق وترسخ أقدام الحركة النقابية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، المتزامنة مع نيل الاستقلال الوطني واضطرار الحكم (البرجوازي – الإقطاعي) ذي النزعة الليبرالية لتقديم عدد من التنازلات للعمال وإفساح المجال نسبياً للحرية النقابية .
وكانت الأجواء الديمقراطية في عهد المجلس النيابي 1954 – 1958 ملائمة لتطور مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وتراجع الولاءات العشائرية والطائفية والعائلية . ويلاحظ في هذه الفترة تصاعد أفكار التنوير العربي والعقلانية وترسخ مفاهيم الحرية والنضال الوطني جنباً إلى جنب مع اشتداد ساعد النقابات واشتداد وتيرة كفاح العمال والفلاحين لنيل مطالبهم ، وصعود شرائح الفئات الوسطى ، التي ساد اجواء مثقفيها الإندفاع نحو أفكار القومية العربية .
هذه العملية النهضوية، الوطنية الثورية، الديمقراطية، وضعت المجتمع السوري على أبواب مرحلة جديدة متقدمة . تبدَّى أحد معالم هذه الظواهر نقابياً، بنجاح القائمة النقابية المتحدة عام 1957 لتحالف الحزب الشيوعي والبعث والمستقلين على قائمة " النقابية الحرفية " بزعامة صحبي الخطيب، الذي ترأس الحركة النقابية عشرين عاماً . وكان عمر قشاش من الفائزين في هذه القائمة .
- مرحلة خلخلة الحركة النقابية وتحجيمها وجعلها ذيلاً للسلطة. فرياح مباحث (الدولة السلطانية) أجهضت في عامي 1959 و1960 عملية التطور، وتلقت مؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمتها الأحزاب والنقابات ضربات قاتلة . وجاء قانون العمل الجديد الصادر عام 1959 في عهد الجمهورية العربية المتحدة ليقدم للعمال مكتسبات متعددة ويحرمهم في الوقت نفسه من الحرية النقابية . وفي هذه المرحلة اعتقل عمر قشاش وأمضى في السجن ثلاث سنوات دون محاكمة ولا من يحزنون .
- مرحلة ما يسمى بـ (الانفصال) (1961 – 1963) ، التي تميّزت بنهوض العمال للدفاع عن المكتسبات الاجتماعية، التي حصلوا عليها أيام الجمهورية العربية المتحدة، في وقت منعوا فيه أيام الجمهورية العربية المتحدة من حرية الرأي والتنظيم بعيداً عن أعين المباحث السلطانية ، التي شددت النكير على أي نشاط . وفي هذه المرحلة بدأت الحركة النقابية تستعيد أنفاسها في خضمّ معارك طبقية بين العمال والراسماليين وبين الفلاحين وملاك الأرض .
- مرحلة ما بعد 8 آذار 1963 ووصول البعث إلى الحكم . وقد اتصفت سنواتها الأولى بالحراك النقابي المستقل نسبيا ، وتدريجيا أخذت المباحث السلطانية تهيمن على هذه الحركة النقابية محوّلة إياها إلى ذيل للسلطة ، وظيفتها التصفيق للحكام وتبرير ممارساتهم ونهبهم للقطاع العام . وفي الربع الأخير من القرن العشرين لم يبق من الحركة النقابية إلا إسمها . وكثيرا ما وُصف المسؤولون النقابيون " المدعومون " بأنهم تجار دون أن ينتسبوا إلى غرفة التجارة . هذا المستوى المنحدر للحركة النقابية وتحوّل هياكلها إلى عظام هشة وجسم بلا روح ، كان ظاهرة من ظواهر الإنحدار العام الذي عزل المجتمع عن السياسة ، وجعل الأحزاب السياسية أثراً بعد عين .
وفي ظل تلك الأجواء كانت تُصاغ خطب النقابيين مجردة من الروح لا تستطيع حراكا أمام خراب القطاع العام واستباحته من قبل الفئات البيروقراطية المهيمنة وغيرها من الطفيليات . كل ذلك جري أمام أعين النقابيين الشرفاء ، الذين إما أغمضوا العين عمّا يجري من اعتداء على المال العام ، أو انزووا في بيوتهم ولا حول لهم ولا طول . والقليل منهم استمروا في حمل الراية العمالية ومنهم عمر قشاش .
والملفت للنظر أن هذا التراجع جرى تحت شعار " النقابية السياسية " ، التي تتحدث في السياسة كما يشاء " أولي الأمر " , وتصمت عن مطالب العمال ونهب القطاع العام و" أموال الدولة " من الفئات البيروقراطية والطفيلية ومن يصفذق لها. ولا عجب في ذلك فقسْمُ من القادة النقابيين , الذين عيّنَت بعضهم " الأجهزة " أصبحوا جزءا من البيروقراطية , التي اغتنت ولم يعد له صلة بالفئات العاملة وتغيرت مفاههيمهم وعاداتهم وتبدلت أخلاقهم وسلوكياتهم واصبحوا عمليا جزءاً من الطبقة الحاكمة المستغِلة باسم " الاشتراكية " ، التي حوّلوها إلى كلمة جوفاء .
ثانيا - عمر قشاش الصامد أبدا
عندما نَشَرْتُ عام 1973 كتابي " الحركة العمالية في سورية ولبنان " صدّرت الكتاب بالإهداء المعبّر التالي :
" إلى الذين لم تُفسَد نفوسهم ولم يتخلوا عن الطبقة المقهورة التي انحدروا منها أو تكلموا باسمها "
في ذلك الحين تحدّث معي نقابيان قائلان : " إنك لم تهدِ الكتاب لأحد ، لأن الجميع قد أُفسدوا " . وأرى أن ثمة مبالغة في كلام النقابيَين . ففي ذلك الحين من عام 1973 كانت جماهير نقابية لا تزال ترنّ في آذانها إيقاعات النضالات السابقة ، وكانت لا تزال مخلصة لطبقتها التي انحدرت منها ، ولمّا يطرق الفساد أبوابها . كما كان هناك نقابيون وعمالا لم يهادنوا ، ولم تُفسد نفوسهم وفي طليعتهم عمر قشاش .
ثالثا : عمر قشاش القامة الشامخة بين النضال والسجون
رأت عينا عمر قشاش النور عام 1926 في حي البلاط في حلب واقتصر تعلّمه للقراءة والكتابة على الكتاتيب . ويقول عمر (أثناء اللقاء به في منزلي بدمشق بتارخ 20 – 1 - 1974) أن الدراسة الفعلية واكتسابه المعارف العامة جرى عندما دخل السجن في اليوم الأول من عام 1960. فقد نظّم الشيوعيون في سجن المزة حلقات دراسية في اللغة العربية والرياضيات والفيزياء واللغات الأجنبية أوصلت عمر قشاش كما ذكر إلى مستوى البكالوريا.
كان والد عمر عاملاً في قلع الأحجار لإعدادها للبناء. وبدأ الفتى عمر عمله في مهنة الطباعة ثمّ انتقل للعمل لمدة وجيزة في النسيج في الشركة السورية . وبعدها عمل في مهنة والده عدة سنوات أصبح خلالها من معلمي قطع الحجر. ومع العمل في المقلع كان يعمل أيضاً في الطباعة.
أواخر أربعينيات القرن العشرين كانت تصل إلى عمر قشاش بعض مناشير الحزب الشيوعي . وأصبحت له صلة بالحزب كصديق عام 1949, وبعدها بقليل انتسب عام 1951 إلى الحزب الشيوعي. وقال عمر أنه كان يعتبر نفسه شيوعياً قبل انتسابه الرسمي إلى الحزب . وقد تكوّنت ثقافته الأولية من المناشير، التي كان يقرؤها ولم يقرأ كتباً إلا بعد عام 1954. ومنذ عام 1949 ترك عمر قشاش نهائياً مهنة الحجر واقتصر عمله في الطباعة .
انتسب عمر إلى نقابة عمال الطباعة وسرعان ما انتخب عضواً في مكتب نقابة عمال الطباعة. ولكن السلطات الديكتاتورية أيام حكم الشيشكلي ألغت انتخابه وقامت مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل ، وبتوجيه من الشعبة السياسية بفصله من النقابة. وبعد زوال حكم الشيشكلي عاد عمر قشاش أوائل عام 1954 إلى النقابة , وسرعان ما انتخب رئيساً لنقابة عمال الطباعة. وبتوجيه من الحزب الشيوعي أسهم بتأسيس اتحاد عمال الطباعة في سورية وانتخب أميناً لسره. وفي عام 1956 انتخب عضوا في اتحاد نقابات حلب ، ومن ثمّ عضوا في الإتحاد العام للنقابات في سورية سنة 1957 . وقد أسهمت الأجواء الديمقراطية في سورية بين عامي 1954 و1958 في بروز عمر قشاش وجهاً نقابياً على مستوى البلاد .
ولهذا كان عمر قشاش في عداد قائمة المرشحين لعضوية الهيئة العليا للاتحاد العام للنقابات عام 1957 والمؤلفة من تسعة أشخاص : ثلاثة شيوعيين وثلاثة بعثيين وثلاثة حياديين . وقد نجحت هذه القائمة , التي أُطلق عليها اسم جبهة التجمع النقابي على قائمة رئيس الاتحاد صبحي الخطيب المحسوب على اليمين .
طالت موجة الاعتقالات في أوائل عام 1959 النقابي الشيوعي عمر قشاش, الذي أمضى في السجن ما يقارب ثلاث سنوات دون محاكمة أو توجيه أي تهمة سوى التعذيب وكيل الشتائم أثناء التحقيق من قبل المباحث , الذين كانوا يطلبون منه تحت التعذيب أن يدين الشيوعية . ولكن العامل النقابي عمر قشاش رفض بإباء الاستسلام إلى جلاديه ... وبعد خروجه من السجن أيام الانفصال ، عاد للعمل في مهنة الطباعة , ثمّ ما لبث أن تفرّغ للعمل الحزبي في حلب . وعندما حلّ انقلاب 8 آذار 1963 انتقل إلى العمل السري لمدة من الزمن .
عام 1965 أوفد الحزب الشيوعي عمر قشاش للدراسة الحزبية في موسكو حيث أقام في المدرسة سنة وثمانية أشهر عاد بعدها لاستئناف نضاله بتفانٍ ونكران ذات . وعندما جرى الانقسام في الحزب الشيوعي السوري كان عمر مع أكثرية المكتب السياسي ضد تيار الأمين العام خالد بكداش . وعندما انقسم المكتب السياسي على نفسه الثلاثي ( إبراهيم بكري , ظهير عبد الصمد ودانيال نعمة ) من جهة و ( رياض الترك ) من جهة أخرى ، وجد عمر قشاش نفسه بما يتحلى به من صدقية في العمل السياسي في تنظيم ما عُرف بالحزب الشيوعي (المكتب السياسي ) المؤلف من رياض الترك وعمر قشاش ومن ايدهما من كوادر وازنة ما لبث الخلاف أن دبّ في صفوفها .
رابعا : نسخة عن الحكم الصادر بحق عمر قشاش يا لسخرية القدر
بتاريخ 5 – 10 - 1980 اعتُقل عمر قشاش من قبل أجهزة الأمن . وبعد بقائه في السجن مدة طويلة ، أُّحيل بموجب الأمر العرفي رقم 110 – 9 – 2 وبتاريخ 13 – 4 – 1992 مع " خمس وستين مواطنا إلى محكمة أمن الدولة العليا مع جميع التحقيقات الجارية بحقهم من قبل شعبة الأمن السياسي " .
قرار الاتهام الصادر عن النيابة العامة برقم قرار 58 أساس 35 تضمن اتهام المدعى عليه عمر قشاش " بجناية الانتساب إلى جمعية أُنشئت بقصد تغيير كيان الدولة الاقتصادي وأوضاع المجتمع الأساسية وهي الجناية المنصوص عنها والمعاقب عليها بموجب المادة 306 من قانون العقوبات العام وبجناية مناهضة أهداف الثورة عن طريق نشر الأخبار الكاذبة بقصد البلبلة وزعزعة ثقة الجماهير بأهداف الثورة وهي الجناية المنصوص عليها والمعاقب عليها بموجب الفقرة ه 9 من المادة 4 من المرسوم التشريعي رقم 6 لعام 1965 " .
ونتيجة المحاكمة الوجاهية الجارية علنا وبعد التدقيق والمذاكرة اتخذت ( محكمة أمن الدولة ) القرار الأتي :
في الوقائع :
بالنسبة للمتهم عمر عبد الغني قشاش :
انتسب للحزب الشيوعي – المكتب السياسي – جناح الترك عام 1957 ( هكذا وردت في قرار الإتهام . والواقع أن عمر انضمّ إلى الحزب الشيوعي عام 1951 ) وانضمّ إلى خلية تنظيمية ثمّ أصبح عضو لجنة فرعية واستمر مع رياض الترك بعد الانشقاق ثمّ أصبح عضو مكتب سياسي وعضو لجنة مركزية وشارك في وضع البرنامج السياسي للتنظيم وتبنى كافة ما جاء فيه ويعتبر أن النظام في سورية يمارس سياسة إرهابية ضد الشعب ولا يزال متمسكا بانتسابه لجناح الترك " .
... تأيدت هذه الوقائع بالأدلة التالية : أقوال المتهم في التحقيقات الأولية والتي جاءت منسجمة مع الوقائع . أقوال المتهم أمام النيابة العامة وفي محاضر الاستجواب الإداري وأمام هيئة المحكمة . بعض الأدبيات الصادرة عن التنظيم والتي تدعو بمجملها إلى إسقاط نظام الحكم في القطر العربي السوري . كتاب شعبة المخابرات العامة – فرع المعلومات – رقم 2692 – 294 تاريخ 31 – 3 – 981 الموجه إلى محكمة أمن الدولة العليا والمتضمن أن أساس التنظيم للحزب الشيوعي – المكتب السياسي – هو مجموعة من الكوادر التي انشقت عن الحزب الشيوعي السوري جناح بكداش وشكلت جناح الترك هذا الجناح الذي يتهجم على سياسة القطر الدولية والداخلية وخاصة في المجالات الاقتصادية والأمنية والعسكرية ويؤيد أعمال الشغب والإجرام التي تقوم بها عصابة الإخوان المسلمين ، كما شارك في حوادث الشغب والفوضى التي جرت في القطر .
وبتاريخ 29 – 5 – 1994 أصدرت محكمة أمن الدولة العليا – الغرفة الأولى الحكم على عمر قشاش " بجناية الانتساب إلى جمعية أُنشئت بقصد تغيير كيان الدولة وفق أحكام المادة 306 من قانون العقوبات " . والحكم عليه مدة أربعة عشر عاما أشغال شاقة مؤقتة ... قرارا وجاهيا غير قابل للنقض خاضعا للتصديق من المرجع المختص " .
***
بعد خروج عمر قشاش من السجن استمر ينشط في الحزب الشيوعي - تنظيم المكتب السياسي (رياض الترك) وشارك في مؤتمر ذلك الحزب الذي تحوّل اسمه إلى حزب الشعب الديمقراطي . وهو رغم كبر سنه بقِيَ نشيطاً ، وكتب باستمرار في جريدة الحزب " الرأي " مقالات تعكس جوانب من الحياة معظمها عن أوضاع العمال وهمومهم .
والمؤسف أنّ جريدة النور الدمشقية ( الناطقة باسم الحزب الشيوعي الموحد ) نشرت سلسلة مقالات لعمر قشاش عن أوضاع العمال مغفلة من اسمه . والسبب ان جريدة النور الناطقة باسم حزب من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية ، " خافت " من نشر المقالات مذيلة بتوقيع عمر قشاش تحاشيا للمساءلة من الأجهزة الأمنية .
في خريف 2008 زرت عمر قشاش في بيته المتواضع في حلب . واللافت أنه لم يتذمر أو يشكو الفقر وهو في حالة يرثى لها ، كما علمت من الآخرين . كان صلبا جريئا قويّ العزيمة ، ولا عجب في ذلك فهو ربيب مرحلة الصعود الوطني والنهضوي في خمسينيات القرن العشرين .
هذه الشخصية العمالية الصادقة مع نفسها ، والتي لم تُفسد وتركض وراء المال ، رفعت راية الإحتجاج في أعقاب إندلاع التحركات الشعبية ( التي يسميها الكثيرون ثورة ) قبل انزلاقها إلى العسكرة فاعتقلته السلطات في أيار 2011 مدة من الزمن . ويبدو أن المنطقة ، التي سكنها عمر قشاش اصبحت السكنى فيها غير ممكنة فرحل ( في وقت لا نعلمه ) إلى السلمية بلدة زوجته الثانية . هذه الزوجة الشجاعة الموظفة في حلب قاسمت براتبها شظف العيش مع عمر . ولا عجب فصبايا السلمية وشبابها قدموا للحركة الثورية الكثير ، وعرفتهم سجون تدمر وصحنايا وأقبية الأجهزة الأمنية أبطالا شجعانا لا تلين لهم قناة ، وهم في طليعة رواد الثقافة في سورية . ولعل القدر أختار أن يكون رقاد فقيدنا الحلبي الجسور المتواضع في السلمية .. مدينة الثقافة والحوار والمعروفة لدى المحاضرين القادمين من الأماكن الأخرى بأن قاعاتها تخصّ بالمستمعين المتشوقين إلى النقاش وسماع الأرء المختلفة .
في السلمية ، ذات الجذور التاريخية ، وفي هذه الأيام الحزينة ، يرقد جثمان إنسان ممن كانوا في عداد " من لا تاريخ رسمي لهم " .. من صانعي " التاريخ من الأدنى " .. من " المستضعفين في الأرض " والحالمين بمستقبل زاهر للبشرية .
***
أبو عبدو : أيها العامل الحلبي المستقيم .. والنقابي اليساري .. والمناضل الوطني الشهم .. رحمك الله

حسين العودات.. آخر الرجال المحترمين
13 أبريل 2016
حازم نهار
كاتب وباحث ومترجم سوري، رئيس تحرير مجلة "المشكاة"، فكرية حقوقية فصلية، من مؤلفاته، مسرح سعد الله ونوس، والتأخر في المجتمع العربي وتجلياته التربوية في العائلة والمدرسة، ومسارات السلطة والمعارضة في سورية.
فارقنا، قبل أيام قليلة، حسين العودات، أبو خلدون، الذي كان وسيظل اسماً ناصع البياض على امتداد الخارطة العربية في مجال الإعلام والصحافة والثقافة والنضال السياسي والانتصار لقيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن، فوق هذا كله، كنت أشعر دائماً بأن أهم وصف يليق بحسين العودات، قبل أي حديث آخر، هو: آخر الرجال المحترمين، على الرغم من معرفتي بالطبع بوجود آخرين يستحقون الاحترام والثناء.
حسين العودات من المثقفين والسياسيين القلائل الذين تحرّكهم بوصلة وطنية سورية بحت، ويترفعون عن الذات وأمراضها، ولا أبالغ، عندما أقول إنه من المثقفين والسياسيين أسوياء العقل والروح والنفس القلائل. إنه، بتكثيفٍ أشد، من فئة المثقفين والسياسيين النبلاء.
تعرفت إليه منذ نحو عشرين عاماً، وكنت أراه دائماً رجلاً عاقلاً وحكيماً، لا يفتنه مال أو جاه أو موقع، يُتقن جهاد النفس الأمّارة بالسوء، يدير ظهره للمعارك الصغيرة، يضع نفسه دائماً خلف الجميع، وفي آخر الصفوف، عندما يتعلق الأمر بالمغانم والمكاسب.
آمن أبو خلدون، منذ اللحظة الأولى لثورة السوريين، أنها لم تكن ضد السلطة الاستبدادية القائمة فحسب، بل ضد مرحلةٍ بأكملها، بما اختزنته من قوى وشخصيات وأيديولوجيات. لذلك، رأى أن عماد الثورة هم الأجيال الشابة، على النقيض من تلك الديناصورات التي أرادت أن تأكل زمن غيرها، بعد أن أكلها زمنُها ولفظها. أليس غريباً أن يتحول كثيرون من أهل الثقافة والسياسة، خلال سنوات الثورة، إلى مجرد لاهثين وراء الإعلام أو اللقاءات مع سفراء الدول ومندوبيها؟!. لا عجب في ذلك، فالصغار والفارغون هذا سعيهم واهتمامهم، فيما الكبار والممتلئون يحسبون خطواتهم باتزان. ولا عجب إذاً أن نقول: هم راحلون وحسين العودات باقٍ.
يختلف حسين العودات عن أبناء جيله في أنه يتجاوز نفسه باستمرار، فيما هم تخثّروا عند مرحلةٍ معينةٍ، وأكلت عقولهم الأيديولوجيات والأوهام. إنه يتقن الاعتذار، عندما يعتقد أنه أخطأ في أمرٍ أو تقديرٍ ما، وكثيراً ما يسمعه المرء، يقول "كنت أهبل في لحظةٍ من اللحظات". مثل هذه العبارة لا يقولها إلا كل ممتلئ وحقيقي.
كان مجتهداً ومواظباً على العمل والكتابة، حتى في لحظات الموت. أنهكته عيناه في السنوات الأخيرة، لكنهما لم تمنعا عقله وروحه من متابعة كل شيء، تحرّكه روح وثّابة، ويسنده عناد عجيب. قلائل هم من يستطيعون الاستمرار في الكتابة، وهم يعرفون أنهم سيفارقون الحياة قريباً. هذه من سمات الأنبياء فحسب، أولئك الذين يؤمنون بالأجيال الجديدة، ويشعرون بواجبهم تجاهها. إنه كالفارس النبيل الذي يظل يقاتل حتى اللحظة الأخيرة، فارس لا يدفعه اقتراب الموت نحو الضرب في المناطق الممنوعة.
قبل التوافق والاختلاف معه في الفكر والسياسة، هناك حسين العودات الإنسان الذي يجعلك تحبّه، وتشعر بدفئه وصدقه في كل لحظة. لا أملك إلا أن أضحك كلما تحدثنا، يمزج النكتة بالمأساة وبالفكرة العميقة. وفي خلفية الحديث، تجد روحاً صادقةً، لا يمكن إلا أن تقدِّرها مهما اختلفت معه. نادراً ما أحفظ النكات، لكن نكات حسين العودات لا تُنسى.
ينزع بعضهم صفة الثورية عن حسين العودات، بالاعتماد على مقاييسهم التي تشوبها ألف شائبة. ليس أبو خلدون ثورياً عندما يكون المقصود بالثورة الصراخ والجعجعة والشتائم، فهو يبني علاقةً سوية بين الثورة والسياسة، جذريٌّ في مواقفه، لا تنقصه الجرأة والوقاحة، عندما تكون هناك حاجة إليهما، لكنه يؤمن، وهو محق، أن الأداء السياسي الصائب، والمستند إلى المعرفة، هو الذي يخدم ثورة السوريين.
بعد وفاته، كتبت عنه قوى وهيئاتٌ وشخصياتٌ سورية عديدة، جاء أكثره في إطار الواجب،
"ينزع بعضهم صفة الثورية عن حسين العودات بالاعتماد على مقاييسهم التي تشوبها ألف شائبة"
خصوصاً أنني أعرف أنه لا يودّهم في الحقيقة، بل كثيراً ما عبّر عن انزعاجه من بعضهم، بسبب "هبلهم" أو "انتهازيتهم" أو "قلة عقلهم"، على حد تعبيره، خصوصاً أن من هؤلاء من أرادوه، بشكل أو آخر، شاهد زور على انحطاطهم ومواقفهم وممارساتهم البائسة.
كلنا يعلم، اليوم، أن وجود المرء في أي هيئة سياسية "معارضة" لا يعني أنها تستنفده، أو تعبِّر عنه كلياً بالضرورة، فشخصيات كثيرة عملت تحت عنوان "لعل وعسى" أملاً في تقليل الخسائر والأضرار، وليس قناعةً بما هو موجود. لامني أبو خلدون كثيراً، في بدايات الثورة، على ابتعادي من أجواء المعارضة التقليدية والهيئات والمجالس والائتلافات التي تشكلت، ثم شدّ على يدي بقوة: "حسناً فعلت". وهكذا فعل فيما بعد.
مع حسين العودات، يكون المرء في حضرة جلالة التاريخ، فضلاً عن كونه ممتلئاً بقصص البسطاء من الناس، يذكرها بشغف، ويعتمدها كثيراً في قراءة الواقع. متواضع بلا تصنّع، بعيدا من التواضع المرضي الذي يختصّ به "اليسار العربي" عموماً الذي انفجر تواضعُه احتقاراً للبشر في لحظة الثورة. مع أبي خلدون، يعشق المرء العروبة. عروبة حضارية وثقافية بلا أوهام عن الذات والآخر، وبلا استبداد وإقصاء، وبلا ادعاءات وخطابات رنانة.
اعتقلنا معاً في مايو/ أيار 2005 ثمانية أيام، إثر تخطيطنا المشترك، إضافة إلى الصديق علي العبدلله، لندوة حول الإصلاح السياسي في سورية آنذاك. لا أحد يستطيع أن يعتقل روح حسين العودات، فقد أمضى تلك الفترة يقصّ علينا الحكايات التي تجعل المرء ينفجر ضاحكاً.
أذكر أيضاً كيف ضحك من قلبه في أثناء اعتصامنا أمام القصر العدلي في دمشق في مارس/ آذار 2005، عندما هجم عليه أحد شباب المدارس الثانوية الذين جلبتهم أجهزة الأمن لتفريق الاعتصام. خاطبه ذلك الشاب، قائلاً: أنت عميل للإمبريالية، فكاد أبو خلدون يختنق من كثرة الضحك، فيما دُهش الشاب من جوابه بلهجةٍ حورانيةٍ تزيد إجابته الصادمة متعة: "أنا لو طالع بيدي أصير عميل للإمبريالية ما قصّرت، إنت مفكر بيقبلوا أي واحد يصير عميل عندهم، شو بدهم بواحد مثلي".
اعتدت سماع صوته، كلما غادر دمشق، فقد كان يتصل بي، ويستفيض في بثّ آلامه وشجونه. كان متألماً جداً تجاه أحوال أصدقائه، وكيف أصبحوا خلال السنوات الأخيرة والمحطات التي وصلوا إليها. لم يتردّد أبداً في سنوات ما قبل الثورة في مساعدة أصدقائه، خصوصاً عندما يُلقى بهم في المعتقلات.
عرفت، أخيراً، أن حالته الصحية تدهورت سريعاً، اتصلت بابنه باسل، وحاولت الاتصال به مرات عدة، لكن الشبكة "الحكيمة" في دمشق لم تسعفني. كثيراً ما جالت في خاطري عودة سهرتنا الشهرية المعتادة في منزلي مع بقية الأصدقاء.
رجال يرحلون فتبكيهم أسرهم، ورجال يرحلون فيبكيهم الأصدقاء، ورجال يرحلون فيبكيهم الوطن... سورية اليوم تبكي أحد رجالها المحترمين. سلام عليك حاضراً وغائباً، يا أبا خلدون، فقد كنت كبيراً في حياتك، وستشمخ كثيراً بعد الغياب.
****
حسين العودات، مواليد 1937، درعا، سورية.توفي يوم7نيسان2016في دمشق.
• التحصيل العلمي:
1 – ليسانس بالجغرافية.
2 – ليسانس باللغة الفرنسية.
3 – دبلوم بالصحافة.
• الأعمال التي شغلها:
1 – مدرس 1956 – 1963
2 – مفتش بالتربية 1963 – 1964
3 – مدير تربية في محافظة درعا 1964 – 1966
4 – مدير عام وكالة الأنباء السورية – سانا 1966 – 1970
5 – مستشار رئيس الوزراء لشؤون الصحافة والثقافة 1971 – 1986
6 – محاضر في قسم الصحافة جامعة دمشق 1985 - 1986
7 – مدير عام دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع 1987
8– خبير غير متفرغ لدى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( الأليكسو)
• الكتب والدراسات:
1 – الموت في الديانات الشرقية، دمشق 1986.
2 – وثائق فلسطين ( 1879 – 1987) تونس 1989.
3 – المشرف العام على موسوعة المدن الفلسطينية، تونس 1990.
4– موسوعة الصحافة في بلاد الشام (مع آخرين) تونس 1991.
5 – موسوعة الصحافة في بلاد المغترب ( مع آخرين) تونس 1991.
6 – العرب النصارى، دمشق 1992.
7 – المرأة العربية في الدين والمجتمع، دمشق 1996.
8 ـ دراسات إعلامية 2006.
9 ـ الآخر في الثقافة العربية، بيروت 2010.
10 – شارك مع الأستاذ سعد لبيب في تحرير النظام العربي الجديد للإعلام والاتصال 1985.
11 - عشرات الدراسات حول شؤون الإعلام والثقافة في البلدان العربية، للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، واتحاد إذاعات الدول العربية، ومنظمة اليونسكو، والمعهد العربي للدراسات الاستراتيجية.

أية خسارة جسيمة تصيب الأمة عندما تفتقد في ليل المِحنة الحالك كبار مفكريها.
د. حبيب حداد
لم استطع تصديق الخبر الذي نشرته الفضائيات اليوم 19آذار2016 عن رحيل المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي ،الاخ والرفيق ورائد التنوير المتميز الذي رافقته منذ ايام الدراسة الجامعية منتصف الخمسينات وحتى اليوم . تحادثنا يوم البارحة لأطمئن عن احواله فشعرت ولأول مرة ان صوته ليس كما هو عهدي به دائماً ، بل كان صوتا معجونا بمسحة طاغية من الالم والعناء والموحية بنفاذ الصبر وخيبة الرجاء في قرب انبلاج الضوء الذي كان ينتظره . فلقدامتدت حقبة التراجع والتردي والانحطاط التي خيمت على مجتمعاتنا منذ عقود والتي كافح جورج طرابيشي بالفكر والعمل مع ثلة من الاخيار المفكرين على امتداد الوطن الكبير واسهم في تكريس كل حياته وطاقاته في سبيل تدشين عصر جديد لأوطاننا ،عصر تسود فيه قيم الحرية والعقلانية والديمقراطية وكرامة الانسان ،عصر تتحرر فيه شعوبنا من قيود وأغلال التخلف والقدامة ، والالتحاق بركب التطور العالمي.
كانت حياة جورج طرابيشي صورة مطابقة لحياة مجتمعه بكل مافيها من انتصارات وانتكاسات فهو نفسه يعبر عن ذلك في كل مناسبة تعرض. ففي مَرَحلة الخمسينات والستينات كان جورج في ريعان شبابه مناضلا في صفوف الأحزاب والتيارات اليسارية الثورية التي كان ذلك زمنها لانه رأى فيها الأدوات المؤهلة لتحرر وتقدم مجتمعاتنا العربية . وفي هذه المرحلة التي كان فيها جورج مفكرا عضويا مميزا كان حدبه الدائب
وشغله الشاغل ان يكافح بالقول والعمل من اجل انتصار قضية الفكر الثوري العربي والفكر اليساري الماركسي ويذكر له في هذا المجال ترجمته للعديد من المؤلفات المرجعية ، وبعد هذه الفترة التي تخطاها كما اعلم بعد عقدين من الزمن وبعد هذه المرحلة في حياته التي استوعب فيها دروس تجاربه بكل مافيها من خطا وصواب ،تجلى وعي وفكر جورج طرابيشي بقدرة فائقة
على المراجعة والنقد والتطور والابداع .هكذا ومنذ سبعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا كان الرجل كما يعترف بذلك الخصوم قبل الأصدقاء في مقدمة رواد عملية التنوير والنهضة الشاملة في وطننا بتسليطه الضوء على العلل والأعطاب التي تنخر جسد مجتمعاتنا وتشخيص الأسباب العميقة لأسباب وعوامل هذا الفوات التاريخي الذي أسدل بنتائجه الكابحة على حياة الفرد والمجتمع . وهكذا انتقل راحلناالكبير في هذه المرحلة للتأليف والإنتاج الفكري بإنجازه
اهم المؤلفات والمراجع التي تمثل ثروة هامة لمكتباتنا العربية في ميادين الفكر والثقافة والوعي العقلاني والعلمي ومعالجة ابرز مشاكل نهضتنا المجهضة . وفي سياق ذلك تصدى للحوار والنقد الموضوعي للعديد من مواقف زملائه بصدد القضية المركزية التي تمثل البوصلة في مسار تطور مجتمعاتنا الا وهي بنية العقل العربي وضرورة نقد تلك الاتجاهات والتيارات التي أسهمت في محنته المتواصلة حتى يومنا والتي حملها التراث معه وكان دورها معطلا لعقلنةًهذا العقل .
وعندما انطلقت الانتفاضات الشعبية قبل سنوات خمس في. عدد من البلدان العربية رافعة شعارات الحرية والديمقراطية والتغيير نظر اليها جورج طرابيشي بأمل وتفاؤل كبيرين في ان تحقق الأهداف التي قامت من اجلها وقد رأى في عدد من مقالاته ان إصلاح هذه الأنظمة السلطانية القائمة لا يمكن ان يتم الا بتغييرها بصورة انتقالية سلمية وكان يحذر من خطر انحراف تلك الانتفاضات الى العسكرة والأسلمة والتدويل وما ينجر عنها من اخطار كيانية .هكذا كان وضعه حزينا ومحكوما حتى يومه الأخير عندما تبادلت معه الحديث بعد ان انجرفت الأوضاع في بلده سورية الى أتون حرب أهلية طائفية مدمرة وكان يردد دائماً ان سورية التي كنّا نعرفها قد ذهبت لكن سورية التي كنّا نحلم بها ونتطلع اليها ربما لن نراها في حياتنا .وقد كان أشد ما يؤلمه ويحز في نفسه في السنوات الاخيرة مواقف نَفَر واسع من أبناء شعبه الذين لبسوا طويلا لبوس اليسار والتقدمية والحداثة فإذا بهم بين عشية وضحاها يتحولون الى اْبواق لانظمة القهر والفساد والاستبداد اوبنصبون أنفسهم منظرين ومفتين لمشروعية وأحقية قوى التكفير والظلام والارهاب
ياأخي جورج في يوم رحيلك الحزين هذا احس ان الكلمات تعجز عن التعبير عن المنا الجماعي وعن الخسارة الجسيمة بغيابك في هذا الزمن الصعب حيث امتنا كلها احوج ماتكون فيه لكبار مفكريها ورواد نهضتها . فسلام عليك في حياتك وسلام عليك في رحيلك وسلام عليك يوم نلتقي معك في عليين.
------------------------------------------------

بعض الملاحظات على كتابات جورج طرابيشي
أسعد أبو خليل
جريدة"الأخبار" العدد ٢٨٤٨ السبت ٢٦ آذار ٢٠١٦

توالت المراثي عن جورج طرابيشي في الصحافة العربيّة وفي وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا حسن في حد ذاته لأن الكتابة والفكر لا يزالان يأخذان حيّزاً في الثقافة العربيّة. لا أتصوّر أن وفاة مفكّر أميركي يمكن أن تؤدّي إلى نشر مراثي عنه (أو عنها) في وسائل التواصل الاجتماعي —هذا مع أن تقرير «التنمية العربيّة» (السيّء الذكر) قرّر اننا أمة لا تقرأ لأن مُعدّي التقرير لم يسمعوا بتقدّم فن القرصنة في الثقافة العربيّة.
لكن الكتابة عن جورج طرابيشي لا توحي دائماً بالاطلاع على إرثه: ليس من المؤكّد أنّ بعض اليساريّين والتقدميّين الذين كتبوا عنه قرأوا له في العشرين سنة الماضية. طرابيشي عاش لردح من الزمن، وترك نحو مئة مؤلّف (حسب تعداده) وتنقّل في الأيديولوجيّات من القوميّة البعثيّة (في سنوات حكمها في دمشق) إلى الماركسيّة (في سنوات انتعاشها وفي وجوديّتها في ما بعد) إلى ليبراليّة عربيّة عاديّة مُتسربلة برداء العقلانيّة. لكن كتابات طرابيشي متنوّعة وهي تحتاج في التعليق عليها إلى تخصّص ودراسة متأنيّة. والرجل كان مجتهداً وموسوعيّاً ومتنوّعاً في قراءاته وإن شاب كتاباته اختلاف في التوثيق أو نوعيّته.
والمراثي عن طرابيشي حاولت في بعضها استغلال وفاته سياسيّاً. فكاتب في جريدة الأمير خالد بن سلطان، «الحياة»، أسرّ لنا ان طرابيشي أخبره عن معارضته لنظام الأسد. لكن صبحي الحديدي (وهو مؤيّد لـ«الثورة السوريّة») في مرثيّته في «القدس العربي» اعترف بأنه كان يختلف مع طرابيشي في الموضوع السوري. ولماذا الإيحاء عن مواقف لطرابيشي في موته وهو كان يتجنّب التعليق في حياته (وقد يكون التجنّب - بإرادته أو من دون إرادته، بوعيه أو بلا وعيه، فرويديّاً- في صالح النظام). هذه مثل وضع عبارة «الممانعة العربيّة» في عنوان كتاب «هرطقات» في جزئه الأوّل الصادر عن دار الساقي، مع ان الكتاب لا يتطرّق إلى الممانعة لا من قريب ولا من بعيد. وتجنّب نقد النظام السوري في سنواته يُحسب وعن حق ضدّ طرابيشي.
في حقل الترجمة أنتج طرابيشي الكثير. لكن موضوع الترجمة (من طرابيشي ومن غيره) مناسبة كي نطالب بمشروع إعادة مراجعة وترجمة لأمهات كتب الفكر الغربي —والتي ساهم طرابيشي في ترجمتها. كتبَ العفيف الأخضر في الأخطاء التي وردت في بعض ترجمات طرابيشي وفي تقديمه لترجمة سيّئة لـ«البيان الشيوعي». المشكلة في بعض ترجمات طرابيشي انها كانت ترجمات عن ترجمات (أي ترجمة عربيّة عن ترجمة فرنسيّة، عن أصل ألماني أو إنكليزي أو روسي). ولغة طرابيشي العربيّة أخّاذة وإنسيابيّة لكن ترجمته في «المعجم الفلسفي» لا تفي بالغرض كما أنه اعتمد في المواد عن فلاسفة عرب على ترجمات غربيّة غير حديثة (أنظر مثلاً المادة عن ابن تيميّة، ص. ١٩). كما ان الترجمات المتعلّقة بالمعاجم يجب ان تكون خاضعة للجنة من المختصّين (والمختصّات) في حقول الاختصاص. مثلاً، في المادة عن جاك دريدا، يُترجم طرابيشي مصطلح «ديفيرنس» (وهو أساس في فلسفة دريدا) بـ«الاختلاف»، بينما المصطلح (وكتب دريدا الكلمة عن قصد بتهجئة تختلف عن تهجئة كلمة اختلاف الفرنسية) يحتمل الاختلاف والإحالة معاً في تمييز المكتوب عن المسموع. (طبعاً ترجمتها تصعب باعتراف دريدا الذي قال عنها إنها «ليست كلمة أو مفهوم»). كما ان المادة عن القزويني أكبر من المادة عن ابن تيميّة في المعجم. لكن غياب المعاجم والموسوعات العلميّة الموضوعة أصلاً في اللغة العربيّة تزيد من الاعتماد على ترجمات عن معاجم غربيّة تخضع لمقاييس ومعايير تختلف في قياس الفلسفة الإسلاميّة مثلاً.
كما ان كتابات طرابيشي تختلف من حيث التوثيق: فدراساته في تفنيد والردّ على محمد عابد الجابري هي دقيقة التوثيق والاستشهاد فيما تخلو كتابات طرابيشي في «هرطقات» منها في الكثير من الأحيان. وهذا يصعّب الردّ عليها.
كما ان فكرة الهرطقات، في حد ذاتها، جميلة أدبيّاً لكنها أقل جرأة مضموناً. ويقول الكاتب عن نفسه في الجزء الثاني من «هرطقات» إنّ حب الهرطقة «يغلي» في دمه (ص. ٧). لكن مادة «الإلحاد» في الجزء الأوّل من «هرطقات» هي باعتراف الكاتب نفسه في مقدمة الجزء الثاني «أقلّها هرطقة» (ص. ٨)، والسبب حسب الكاتب يعود إلى أنه كتبها «بموضوعيّة شديدة». هل هذا يعني ان الموضوعيّة الشديدة تتناقض مع الهرطقة؟ ولماذا «الموضوعيّة الشديدة» في كتاب عن الهرطقة؟ وهل أن نقد التراث والهرطقة هي الشيء نفسه، أم ان الهرطقة تتخصّص في نقد المقُدّس والإلهي؟
وطرابيشي في إسقاطاته عن التاريخ الإسلامي يفتقر إلى التأريخ المتقصٍّ فيلجأ إلى التعميم ممّا يدخل كتاباته في خانة البلاغة السياسيّة. فيقول مثلاً (في أكثر من مكان) ان الطائفيّة هي «ثابت دائم» في التاريخ الإسلامي. لكن ما هو معنى الطائفيّة هنا؟ وكيف يمكن الإجمال بهذه الطريقة على تاريخ طويل من «الإسلام» وفي حقبات متعدّدة (والتحقيب بات من أولويّات التأريخ عن الشرق الأوسط)؟ وإلى أي حد كان التاريخ الإسلامي إسلاميّاً، وإلى أي حد لم يكن إسلاميّاً البتّة؟ التأريخ الحديث يأخذ موضوعات ويضعها في حقب محدّدة ويدرس سياقها، كما فعل أسامة المقدسي في دراسته للطائفيّة في لبنان. ويلجأ طرابيشي (مثلما فعل قبله فرج فودة ومحمد سعيد العشماوي) إلى تدوين «كاتالوج» من الدمويّات في التاريخ الإسلامي مستندة إلى «تاريخ الخلفاء» للسيوطي أو لغيره. لكن، أليس لهذه الفتن من سياقات سياسيّة لا دينيّة؟ كان المستشرقون يعتبرون تقليداً ان قتل ابن المقفّع أو بشّار بن برد يعود لقمع إسلامي ضد الزندقة بينما الترجمات الحديثة عنهما تتحدّث عن أسباب سياسيّة او شخصيّة لقتلهما. وكيف نوفّق بين الفتن والصراعات الطائفيّة التي يدرسها ويعرضها طرابيشي وبين التعايش بين الطوائف والأديان (بالملايين بالنسبة للأقليّات غير السنيّة) حتى القرن العشرين؟ هذا لا يعني ان كل الطوائف والأديان كانت متآلفة متحابّة، لكن يعني ان «الإضطهاد كان نادرا بينما التمييز كان ثابتاً»، كما لخّص ماكسيم رودنسون وضع الأقليّات غير الإسلاميّة في التاريخ في كتابه «إسرائيل والعرب». ولماذا يتجنّب طرابيشي نقد الدول النفطيّة في الحديث عن تغليب الشريعة فتراه يقول «ونحن لن نتحدّث هنا عن الدول الخليجيّة النفطيّة التي لم تخرج عن عباءة الدين» (أليس هذا أولى بالحديث من الدول الأقل تلبّساً بعباءة الدين؟) (ص. ١٠٦).
لكن الإشارة إلى «عوامل خارجيّة» في إثارة الفتنة مرفوض من قبل طرابيشي لا بل هو يسخر منه كونه برأيه «ثابتة» في «الأيديولوجيا العربيّة المعاصرة» (ص. ٢٥). وهذه الأيديولوجيّة تتسم بالوحدانيّة والتراصّ ولا يجمها إلا ربما الإصابة بأمراض النرجسيّة التي شخّصها طرابيشي في كتاباته.
كما أن ينسب النزاع بين الطوائف فيما يخصّ المسلمين وغير المسلمين إلى المسلمين وحدهم (على طريقة سامويل هنتنغتون) ويستعمل للدلالة مثال الهند، كأن الهندوس تعاملوا مع الإسلام بتسامح وقبول (راجع حاشية ١٠٧، ص. ٩٠، «هرطقات»، ٢). وعليه، فإن طرابيشي اعتبر أن دور الاحتلال الأميركي (الذي هندس وأشرف على صراع الطوائف وعلى قسمة حصصها السياسيّة) انحصر في «تقديم المناسبة» للحرب الأهليّة (ص. ١١).
المشكلة في بعض ترجماته أنها كانت ترجمات عن ترجمات
وحلول طرابيشي عن الديمقراطيّة تتجاهل التطوّر التاريخي لها. وهو يقول إن الشريعة الإسلاميّة تتنافى مع المساواة مع المرأة لكنه يضيف أن المساواة بين الجنسيْن «باتت من بديهيّات الديمقراطيّة» (ص. ٩١). لكنه يتناسى تاريخاً طويلاً من ديمقراطيّات تجاهلت حقوق المرأة والأقليّات و... العبيد بين مواطنيها (الذين شكّلوا ثلاثة أخماس الأحرار، حسب المعادلة الدستوريّة الأميركيّة الأولى). والديمقراطيّة السويسريّة لم تعط حق المرأة في الإقتراع (على النطاق الفيدرالي) إلا في عام ١٩٧١. ثم كيف يقارن طرابيشي بين الديمقراطيّة وبين الشريعة لإعلاء الديمقراطيّة (أو لذمّ الشريعة)؟ هذه مثلما كان النظام الأميركي يقارن بين الديمقراطيّة وبين الشيوعيّة والاشتراكيّة فيما الديمقراطيّة يمكن أن تتعايش مع الاشتراكيّة كما في الدول الإسكندنافيّة.
وبالرغم من الكتابات الغزيرة لطرابيشي وسعة إطلاعه إلا أن كتابات لا يمكن ان تندرج في نطاق الكتابات الأكاديميّة. كما ان تعميماته عن الديمقراطيّات والمجتمعات الغربيّة تفتقر إلى الدراسة والمعرفة الوثيقة. هو يقول مثلاً إنّ الأنظمة الديمقراطيّة تميّز «تمييزاً حاسماً بين مفهوم الخطيئة ومفهوم الجريمة» (ص. ٩٢) وهذا ينمّ عن قلّة معرفة بتطوّر القانون الجنائي الغربي. (يُنصح هنا بقراءة كتاب الصديق جوزيف مسعد «إشتهاء العرب»). إن القانون الأميركي (حتى بضع سنوات في بعض الولايات الجنوبيّة) كان يعطي أسباباً تخفيفيّة لـ«لجرائم الحب» (وهم مفهوم لم يكن يختلف كثيراً عن «جرائم الشرف» في بلادنا، وكان تطبيق المفهوم -مثل مفهوم الشرف- من جانب واحد). كما ان قوانين تجريم المثليّة في بعض البلدان العربيّة لم تنبع من «الشريعة»، كما يقول، بل من قوانين المُستعمر الغربي. وقوانين تحريم المثليّة بقيت مُطبّقة حتى ٢٠٠٣ في نصف الولايات الأميركيّة. يخال طرابيشي ان الديمقراطيّة من شأنها حلّ كل مشكلات المجتمع فيما هي إطار للتمثيل السياسي.
لكن إيمان طرابيشي بالديمقراطيّة كان منقوصاً ومتناقضاً. هو كان يلهج في حمدها في حديثه عن المجتمعات الإسلاميّة لكنه كان يقول أيضاً ان عقول النخبة وعقول العامّة (الفصل في حد ذاته غير ديمقراطي) تحتاج إلى تنظيف أو عقلنة. لكن كيف للكاتب أن يحكم وحده على معيار «عقلنة» أو «لا عقلنة» الملايين من البشر؟ ألا يتعارض هذا مع بديهيّات الفكر الديمقراطي الذي يساوي بين الأفراد؟ كانت الأقليّة البيضاء في أميركا (وفي جنوب أفريقيا) تفرض هيمنتها على السود عبر الترويج للتمييز بين النخبة (العنصريّة) وبين العامّة، وبين المُقترع العاقل والمُقترع اللاعاقل (هذه مثل عبارة اللورد بلفور في تسويغ وعده عندما جزم ان «تقرير المصير العددي» لم يؤخذ في عين الاعتبار). ويعتبر طرابيشي الجوانب اللاديمقراطيّة في تاريخ النظم الغربيّة على أنه الاستثناء (لم يرَ في التاريخ الأميركي إلا الماكرثيّة مع ان هناك كتب تدرس النزعات والتيّارات اللاديمقراطيّة في التاريخ الأميركي). وأما عن تلازم الاقتراع عنده مع الوعي والصوابيّة (راجع «في ثقافة الديمقراطيّة»، ص. ٢٥) واقتراحه بحرمان الأميّين من حق الاقتراع لتفادي فوز الإسلاميّين، فإنه يصبح، كما كتب في نقد ذلك جوزيف مسعد في «اشتهاء العرب»، وصفة للتمييز ضد النساء والفقراء الذين يعانون من الأميّة أكثر من الذكور والميسورين (ص ٥٣ من الترجمة العربيّة لكتاب مسعد).
ومفهوم العقلانيّة عند طرابيشي يلتبس أيضاً، إذ يصبح ما يراه الكاتب صائباً: والتباس المصطلحات والمفاهيم سمة من سمات كتاباته. هو لا يميّز بين «العقل الذاتي» و«العقل الموضوعي» في تمييز ماكس هوركهايمر في كتابه «كسوف العقل». ويلاحظ هوركهايمر ان العقل الموضوعي يصبح في حد ذاته «مصدر تقاليد» (ص. ١٢). ومبدأ الانصهار الاجتماعي العقلاني هو الذي يفسّر عند هوركهايمر نزعة جنوح الليبراليّة نحو الفاشيّة. والعقلانيّة الموضوعيّة تصبح تلك الحقيقة التي ينساق وراءها الجموع. والغريب ان طرابيشي (الذي ترجم —عن الترجمة الفرنسيّة— كتاب هربرت ماركوزه «الإنسان ذو البعد الواحد»)، فاته تحليل ماركوزه عن العقلانيّة الصناعيّة والتكنولوجيّة التي زادت من تفاقم القمع الرأسمالي. لكن طرابيشي بقدر ما ينفي الخلاصيّة عن مفهومه للعقلانيّة والديمقراطيّة بقدر ما يتضح ايمانه بها. لكن ضبابيّة المصطلحات مشكلة تظهر للقارئ في كتاباته في السنوات الأخيرة. فعبارات «تحليل سوسيولوجي» أو «نقد سوسيولوجي» تظهر بمناسبة وغير مناسبة، وهي ملتبسة عندما تصبح مناسبة للتعميم (هذه باتت سائدة في لبنان في الخطاب اليميني الشبابي حيث تُغلّف التعميمات الطائفيّة بصفات الـ«سوسيولوجيّة»).
ويكتب طرابيشي في مواضيع كثيرة مما تفقدها صفة التخصّص. وفي «هرطقات» (الجزء الأوّل) يكتب عن الرأسماليّة (ومن دون مراجع وشواهد) فيقطع ان الأزمات في الرأسماليّة هي (عكس ما «يفهمه» الماركسيّون كما يقول) آلية أساسيّة للدفع نحو الأمام، وللتصحيح الذاتي (ص. ١١٩). إن الأزمات الأخيرة في الرأسماليّة هي عكس ما يذهب إليه طرابيشي، الذي لم يلحظ تحليل توماس بيكيتي في كتابه «رأس المال في القرن الواحد والعشرين». أي ان الأزمات في النظام الرأسماليّة تدفعه نحو الوراء، أي نحو تركّز رأس المال في أيد أقل، ونحو زيادة نسبة الثورات الموروثة. كما ان التفاوت بين الطبقات ازداد ولم ينقص. وفكرة «التصحيح الذاتي» للرأسماليّة دُفنت تحت أنقاض أزمة ١٩٢٩.
يلجأ طرابيشي في إسقاطاته عن التاريخ الإسلامي إلى التعميم
وفي الطور الأخير من التحوّل الأيديولوجي لطرابيشي عندما مزج بين العقلانيّة والديمقراطيّة والعلمانيّة والفرويديّة، فإنه يستعين بطريقة لا تتوافق مع شروط علم النفس الحديث في تطبيق نظريّات فرويد عبر تعميمات عن مجمل العرب والمسلمين. هو يدرك ذلك فيقول في كتابه «المثقّفون العرب والتراث: التحليل النفسيّ لعصاب جماعي»، عندما نتحدّث عن عصاب جماعي عربي، فإننا لا نعمّمه ليشمل جميع العرب في جميع بلدانهم وبجميع أجيالهم وطبقاتهم، بل نخصّصه لنقصد به حصراً الخطاب المعصوب الذي تنتجه وتعيد إنتاجه شريحة واسعة من الإنتلجنسيا العربيّة» (ص. ١١). لكن كيف يكون «جماعيّاً» ولا يكون تعميماً؟ لكن هذه النوع غير العلمي في التحليل النفسي ليس جديداً وقد يكون بدأه قبل طرابيشي الأنثروبولوجي في جامعة جورجتاون في الخمسينيات والستينيات، مختار العاني (وهشام شرابي فيما بعد، ويذكره شرابي عرضاً في مقدّمة كتابه «مقدّمات لدراسة المجتمع العربي» كشريك له في المنهج المذكور)، كما ان صادق جلال العظم استعان بتعميميّة «الشخصيّة الفلهويّة» لحامد عمّار في «النقد الذاتي بعد الهزيمة». أي ان هزيمة ١٩٦٧ أدّت عند بعض الأكاديميّين العرب إلى نقد العرب (على مستوى «الذات العربيّة» وتحليل «الذات العربيّة» الجوهرانيّة) بطريقة غير علميّة (بمعنى علم الاجتماع) لكن باسم العلم. وهذا التطبيق لا يختلف البتّة عن منهج رافييل باتاي، المُستشرق الإسرائيلي، في كتابه «العقل العربي» (إستعمل الأخير الأنثروبولوجيا وعلم النفس لذم الذات العربيّة، لكن عنصريّة الكتاب جعلته منفيّاً في دوائر علم الاجتماع والإنثروبولوجيا الغربيّة، باستثناء دوائر «دراسة الإرهاب» والعسكريّة الأميركيّة التي تعاملت مع الكتاب —كما روى سيمور هرش— كـ«الإنجيل» بعد ١١ أيلول.
وهناك جانب الاستشراق العلماني لطرابيشي خصوصاً فيما كتبه عن المؤرّخ الإسرائيلي، إيمانويل سيفان. لكن طرابيشي الشديد النقد الحادّ لزملائه من الكتّاب العرب، شديد الانبهار بالكتّاب الغربيّين. وهو يعيب على العرب عدم ترجمتهم لكتابات الاستشراق بسبب العقيدة «القوميّة» حسب قوله (ص. ٩٩، «هرطقات»، جزء ١) (وهذا غير صحيح إذ ان معظم كتابات المستشرقين تُتَرجم وهناك اهتمام بها حتى من قبل الناقدين الإسلاميّين، وبرنارد لويس يزهو دوماً بأن كتاباته تُترجم إلى العربيّة). لكن العرب لا ينجون من نقده حتى لو ترجموا كتب الاستشراق: فهم لا يفهمونها لو قرأوها لأنهم مصابون بعصاب من نوع ما. لا، وطرابيشي يقول إن فهم الاستشراق ليس سهلاً لأن المُترجم العربي قد يؤثّر على عقل القارئ العرب سلباً من خلال نقد وترصّد الفكر الاستشراقي (ص. ١٠٠). هذا يعني ان طرابيشي وحده كان قادراً على فك طلاسم محاسن الفكر الاستشراقي. لكن اطّلاعه على الفكر الاستشراقي الغربي ليس وافراً وهو لهذا لا يدرك ان مساهمات إيمانويل سيفان لا تُقارن بإسهامات حقيقيّة لاستشراقيّين تقليديّين. لا يعلم ان سيفان ناقل وليس مُبتكراً: إن كتاباته عن الإسلام السياسي ليست إلاّ عرضاً وصفيّاً لكتابات عرب وإسلاميّين في موضوع الإسلام السياسي. لكن طرابيشي يتعامل معه باحترام وتقدير، فقط لأنه مُستشرق ولأن عقله —خلافاً لكل عقول العرب— غير متأثّر سلباً ضد الاستشراق.
وفي تقييمه لاستشراق سيفان، يُقحم موضوع العقل ويعتبر ان دوافع وسمات الاستشراق هي العقل، وان الذي يستوعب الاستشراق هو الذي يقبله عقليّاً. وهنا، ينفي ان يكون العقل متأثّراً بعوامل سياسيّة أو معرفيّة، لأن العقل عنده «كوني»، وعليه فإن فرائضه ومكامنه لا تُردّ. ويعيب على الثقافة العربيّة مقاطعة كل ما هو إسرائيلي، وهذا ليس صحيحاً. فحتى في عصر الصعود القومي (الذي انتمى طرابيشي إليه والذي سخر منه فيما بعد) فإن مبدأ «اعرف عدوَّك» كان سائداً، إلى درجة مبالغ فيها. لكن طرابيشي يضيف أن مبدأ مقاطعة «الإسرائيلي» هي نفسيّة ولا عقلانيّة: أي انه يوحي ان خطوة أنور السادات في القفز على «الحاجز النفسي» (كما أسماه السادات) كان عملاً عقلانيّاً. والقبول بالفكر الإسرائيلي (أو العقلانيّة الكونيّة من قبل إسرائيل، حسب تصنيف طرابيشي) يتطلّب «قدراً مضاعفاً من العقلانيّة». ويضيف أن المُستشرق الإسرائيلي هذا «أثبت موضوعيّته» —والموضوعيّة هي نتاج «العقل العلمي» (ص. ١٠١). أي ان العقل العلمي هو عقلاني لأنه عقلاني. ويميّز طرابيشي بين الخطاب العلمي والخطاب الأيديولوجي، والاستشراق الإسرائيلي هنا يقع في الصنف الأوّل فيما يقع نقده في الصنف الثاني. ويقول إنه «أرخى حسّه النقدي» في قراءة سيفان، مع ان طرابيشي هو آخر مَن يرخي حسّه النقدي. لكنه قد يقول إن ذلك واجب في قراءة المُستشرق الإسرائيلي لأنه ينطلق من «العقل الكوني» (طبعاً، لا مجال لعرض كتاب سيفان هنا لكن الطريف ان الكتاب قد يكون من أكثر كتب المؤلّف أيديولوجيّة —وهل هناك تأليف خارج الأيديولوجيا— وهو يعيد اجترار فرضيّات الاستشراق الإسرائيلي، والاستشراق الإسرائيلي هو أكثر أنواع الاستشراق ابتذالاً وأقلّه معرفة وسعة وجدّة).
لا، ويأخذ طرابيشي بمقولة سيفان (السياسيّة والأيديولوجيّة) في التقليل من أهميّة القدس في «الوعي الإسلامي للعصر الوسيط» (ص. ١٠٧). لكن أهميّة القدس ليست موضع شك حتى في كتابات مستشرقين إسرائيليّين ضليعين أكثر من سيفان (مثل يهوشواه بورات في كتابه عن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة). ويقبل طرابيشي بلا كيف زعم سيفان أن المسلمين ما قبلوا مركزيّة القدس في الدين إلا بعد ان جلبها إليهم «معتنقي الإسلام الجدد من اليهود». لكن طرابيشي يرفض عزو عامل سياسي احتلالي لنظريّة سيفان لأنه —حسب وصف الكاتب— علماني، والعلماني بعيد عن الغرض والهوى والاحتلال، مع ان مؤسّسي دولة العدوّ كانوا في غالبيّتهم من العلمانيّين.
إن إرث طرابيشي كبير ويستحق الدراسة والتمعّن والنقد، على طريقته في التدقيق والدخض والتفنيد والتفكيك. لكن من المعالم الأكيدة لفكره ان سمة من الخلاصيّة والنهائيّة وسمت فكره في تنقّلاته لكن التجلّي الأيديولوجي الأخير له كان أكثر انغلاقاً لأنه أنطلق من فكرة «العقلانيّة الكونيّة» التي لا تُردّ، والتي تجعل من الليبراليّة تجنح نحو الفاشيّة. كما ان المبالغة في التحليل النفسي على نطاق جماعي جعل الكاتب يشطّ في التعميم التنميطي عن ملايين من البشر، وبعيداً عن العلميّة والعقلانيّة التي كتب باسمها. يُضاف إلى ذلك الالتباس في استعمال المصطلحات ما يضفي على بعض كتاباته طابعاً بلاغيّاً (سياسيّاً). والعقلانيّة باتت أدهى على الثقافة العربيّة من القوميّة لأن الأولى تقطع بسيف الدولة العظمى.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | asadabukhalil@

العلماني المتشدد
صبحي حديدي
http://www.alquds.uk/?p=546869 2016Mar-18

كان جورج طرابيشي جاري في الحيّ، ولكي أستقل المترو فإنني أعبر من مركز تجاري اعتاد هو أن يتسوق فيه. قبل أيام قليلة سبقت رحيله، صادفته يجرّ عربة التسوّق الصغيرة، فمازحته بعبارة تفيد الشيخوخة، فابتسم واستوقفني، وأوقف المزاح أيضاً، سائلاً بنبرة جادة وحزينة: لوين رايح بلدنا؟ ولإني كنت على علم بما ينطوي عليه موقفانا من تباين، فقد فضّلت العودة إلى مزاح، لا يغيب عنه الجدّ بالتأكيد: رايحين ع الحرية!
لا أزعم أنني تربيت شخصياً على مشروع طرابيشي الفكري، وكنت وأظلّ أختلف معه في كثير جوهري، كما أتفق في كثير آخر لا يقلّ اتصافاً بالجوهري؛ لكني أقرّ بما له عليّ من فضل في ترجمات كثيرة، لم يكن ممكناً لي أن أطلع عليها قبل أن أمتلك ناصية لغات أجنبية. وإذا كنتُ أكثر حماساً لأعماله الفكرية والفلسفية، السجالية بصفة خاصة؛ فإنّ علاقتي بمؤلفاته النقدية، وخاصة «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية»، 1973، و»شرق وغرب، رجولة وأنوثة»، 1977، انطوت على تفاعل إيجابي أعمق، رغم أنها نهضت على مزيج خاص من التعلّم والتشكك. وفي معركته الشهيرة مع محمد عابد الجابري، وجدتني أنحاز إليه من بوّابة مساءلاته النقضية بصدد تشخيص الجابري الإبستمولوجي لمفهومَيْ «الشرق» و»الغرب»؛ وفي الآن ذاته لم أستطع هضم مقولاته المتشددة حول العلاقة شبه الميكانيكية بين العلمانية والديمقراطية، أو انجرافه إلى حماس عصبوي لصالح «علمانية» أصولية لا تُبقي ولا تذر!
كذلك وجدتُ رابطة عجيبة بين تنقّلاته المهنية (مدير إذاعة دمشق، خلال الأشهر الأولى من انقلاب حزب البعث، 1963؛ ثمّ رئيس تحرير «دراسات عربية»، في بيروت؛ ومحرر مجلة «الوحدة»، في باريس)؛ وتبدلاته الإيديولوجية، من القومية إلى الماركسية فالوجودية؛ وكيف أنّ هذه المحطات تبادلت التأثير في مشروعه الفكري والنقدي، فلم تغب تماماً مؤثرات أيّ من هذه المراحل في بعضها البعض، كما أقرّ هو نفسه. وليس بغير دلالة خاصة أنه ينهي المجلد الرابع من عمله الموسوعي «نقد نقد العقل العربي» بخاتمة ـ يعتبرها مؤقتة، هي ذاتها! ـ تقول إنّ هذا الجزء، الذي وقع في 424 صفحة، «لم يتوصل إلى أن يحسم أكثر من نصف الإشكالية، فالشيء الذي أفلحت صفحات هذا المجلد في إثباته ـ أو على الأقل هذا هو المأمول ـ هو أن استقالة العقل في الإسلام لم تكن بعامل خارجي ونتيجة لاكتساح ساحته من قبل جحافل ‘اللامعقول’ المندفعة من مكامن ‘الموروث القديم’ في الإسكندرية وأفامية وحران… إلخ».
لكن طرابيشي هو، أيضاً، ذلك المفكر النقدي الذي تعصّب للعلمانية بشدّة، لكنه تجاسر على القول إنّ الإسلام، وليس «التمدن الإسلامي» وحده، أكثر علمانية من المسيحية: ثمة «إسلام علماني» ينبثق من حقيقة أن الإسلام لا تحكمه معايير ثقافية مقدسة سوى القرآن، وأنّ جميع مظاهر الممارسة الاجتماعية في صدر دولة الإسلام الأولى كانت علمانية في الجوهر. صحيح أنّ هذا الخطّ في التفكير، أو الترجيح بالأحرى، يرتكز على فرضية ثقافية صرفة، إلا أنها لا تخفف من غلواء التشدد العلماني الذي عُرف به طرابيشي فقط، بل تعيد تصريفه في أقنية انفتاح وحوار وتفاعل.
وحين بلغني نبأ رحيل طرابيشي، كتبت على «تويتر» هذه التغريدة: « السلام لروح جورج طرابيشي (1939ـ2016)، الآن وقد أخلد إلى سكينة ثمينة، افتقدها طيلة عقود من حفر معرفي خلاق، وتعصب علماني قَلِق ومؤرَّق». وفي البال أنه أقلق قارئه مثلما أصيب بقلق ذاتي دائب، وأرّق القارىء إياه على نحو لا يقلّ مضاضة عن أرق المفكر في ذاته، ومن ذاته.
كاتب سوري

سُبات المفكر الألمعي
صقر أبو فخر ، كاتب عربي مقيم في بيروت
10 فبراير 2016

للمفكر السوري جورج طرابيشي كتاب بعنوان "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام". وها أنا أستعير منه كلمة "سُبات"، لأُوجِّه إلى هذا المفكر التنويري الذي أفنى حياته في التأليف والترجمة التحيّة المشفوعة بالدعوة إلى الخروج من سباته الفرنسي. وجورج طرابيشي الذي حرث في حقولٍ معرفيةٍ شتى، صرف سني عمره وهو يترجم نصوصاً تأسيسية في النهضة والتقدم والحداثة والتنوير والديمقراطية. وعندما ظنّ أن الحقول أزهرت، وبدا كما لو أن القطاف قد حان، دهمته رياح الإرهاب والتكفير، فانزوى في أطراف باريس، وعلم أن ما يجري اليوم سيؤدي إلى استبداد الماعز بالمراعي الجميلة التي سقاها ببصر عينيه، ومداد عقله، وانتظر أن تنقف هذه الأرض رياحين وسنابل، لكنها أخلفت الوعد وأقحلت.
ليس جورج طرابيشي مجرد مفكر عابر في سماء الثقافة العربية، بل هو علامة وضّاءة في تاريخ الفكر العربي الحديث، فقد بلغ ما ترجمه نحو 230 كتاباً. ووصلت مؤلفاته إلى ما يناهز الثلاثين. وهو، إلى ذلك، بحّاثة من طرازٍ قلما عرفه الفكر العربي المعاصر؛ فقد أمضى ثماني سنين وهو "يفصفص" محمد عابد الجابري، ليضع كتابه "نقد نقد العقل العربي". وليس هذا الغوص الرهباني في المصادر نابعاً من الرغبة في المنازلة وتسديد النّبال، بل من حرقةِ العارف، فرفض التمييز بين مشرقٍ عرفاني ومغرب برهاني، كما قال الجابري، أو بين ابن رشد المغربي وابن سينا المشرقي، فهذه قطيعة مزعومة، لأن الجميع معاً موجودون في نطاق الوحدة العضوية للثقافة العربية.
... في هذه السنة، سنضيء له ستين شمعة، لأن ستين سنة مرّت على أول مقالة له في مجلة الآداب اللبنانية. وجورج طرابيشي المولود في حلب في عام 1939 بدأ الترجمة في سنة 1957، وأصدر أول كتاب له سنة 1964 بعنوان "سارتر والماركسية". ولم تمضِ ثلاث سنوات، حتى صدمه موقف سارتر من حرب 1967، فانهار مثاله للمثقف الثوري. ومثل معظم أبناء جيله، راح يتمايل في مواقفه، ليَعْبُر من القومية والوجودية إلى الماركسية، من دون أن يصبح شيوعياً. ولاحقاً، تجاوز القومية، وتخلّى بمقادير معيّنة عن الماركسية، وسار إلى آفاقٍ فكريةٍ أكثر رحابة، مع بقاء ثمالاتٍ قوميةٍ وماركسيةٍ في تفكيره الأصيل.
جاء جورج طرابيشي إلى بيروت في عام 1972، مترسّماً خُطى مَن سبقه من المتنوّرين السوريين، أمثال قسطنطين زريق وإدمون رباط وأدونيس وصادق جلال العظم، وكانت بيروت أخصب سني حياته في الترجمة. ثم غادرها إلى فرنسا سنة 1984. وهناك، انصرف إلى التأليف، فكانت فرنسا أخصب سني عمره في التأليف المعرفي. وجورج طرابيشي ليس محترف ترجمةٍ فحسب، بل مترجمٌ من طراز النهضويين الأوائل، وكان يردد: "إذا أردنا أن نلحق بالعصر على مستوى المعرفة النظرية، فيجب أن نترجم مئة ألف كتابٍ في فترة وجيزة". ولهذا، غيّرت ترجماته أفكار المثقف العربي أيّما تغيير. ففي زمن التحولات المتسارعة بعد هزيمة 1967، ترجم كتاب "البديل" لروجيه غارودي الذي غيّر فهمنا للاشتراكية، وترجم "موسى والتوحيد" لفرويد، فأطاح فهمنا التقليدي لمنشأ التوحيد. وغيّر كتابا "الإنسان ذو البعد الواحد" و"الماركسية السوفييتية" لماركيوز فهمنا للمجتمع الصناعي الغربي، ومجتمع رأسمالية الدولة السوفييتية.
لم يترك طرابيشي حقلاً لم يحرُث فيه، فنقل خلاصة الفكر الغربي الحديث إلى العربية، ثم أثرى الفكر العربي بسجالاته اللاهبة وآرائه الصادمة.
... التقيته في بيروت، قبل سنوات قليلة، فتباسطنا في الحديث، إلى أن سألته عمّا يفعل وعن مشروعه الفكري المقبل، فأجابني: ما عدتُ أريد إلا كأساً واحدة في المساء، لتنشيط شراييني، وإصبعاً من الخيار وهدأة غامرة. أيكون ذلك عصارة العمر؟ أم حكمة مَن قاتل بالقلم حتى الثمالة؟

جورج طرابيشي… النهضوي الأول
صادق جلال العظم
MARCH 28, 2016

فارقنا النهضوي الأول وترك فينا، وترك لنا فجأة ثقباً أسود بحجم نيزك كبير، لمع طويلاً وأضاء كثيراً ثم عبر. ثقب أسود في الفضاء العربي شكله شكل ثقافة تنهض وتتعثر، فكر يستقيظ ويغفو، نقد يعرّي ويخبو، بحث يتحرك ويموت في أرضه، سياسة تنطلق ولا تصل، حداثة تمشي ورأسها مندار إلى الوراء.
وكما عهدنا في كبار النهضويين في العصور الحديثة، لم يترك جورج ناحية من نواحي ثقبنا الأسود هذا إلّا وأشعل فيها أكثر من شمعة.
شمعة في السياسة، شمعة في الأيديولوجيا، شمعة في الأدب، شمعة في النقد، شمعة في الترجمة، شمعة في التراث، شمعة في الدين، شمعة في الفلسفة، شمعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، شمعة في عموم حياتنا الثقافية الحائرة والمتمردة دوماً.
كأي نهضوي كبير قاوم جورج، بثقافته الموسوعية وبمراجعته النقدية الدائمة للمناهج المعرفية وللأدوات البحثية عنده وعند غيره، نزعات النكوص القروسطية وميول الاستغراق في الماضوية العقيمة، كما قاوم توهمات وإغراءات المشاريع الكبرى الرائجة لاستنباط الحاضر من التراث السحيق ولصنع المستقبل من الماضي القديم على طريقة: «من العقيدة إلى الثورة»، «من الثابت إلى المتحول»، «من التراث إلى الثورة» ، «من العرفان في المشرق إلى البرهان في المغرب» ، «من سيمياء العلاقات التراثية إلى حاضر الحداثة العربية»، «من خيمياء تأويل تأويل التأويل النصوصي إلى المعاصرة الحياتية».
وكأي عقل نهضوي ناضج، منفتح على وقائع العالم المتجددة وعارف بوقائع التاريخ المتحركة وشاعر بقوى العصر الفاعلة، لم يتجمد جورج أبداً في موقع واحد بعينه، من دون أن يأبه بما يجري حوله، ولم يتمترس يوماً خلف عقيدة كنسية دنيوية كانت أم دينية، ولم يتشبث للحظة بفكرة استخلصها بعيداً عن كل فحص وتمحيص وتدقيق وامتحان، ولم ينغلق يوماً على نتيجة توصل إليها بعيداً عن كل نقد وسجال ونقاش. أحاط إحاطة نهضوية شاملة، حريّة بكبار نهضويي التاريخ الحديث، بهموم عصره وشؤونه وشجونه ومعضلاته، عربياً وإقليمياً وعالمياً، أضاءها كلها بحثاً ومعرفة وفكرا وثقافة، وذلك في الحقول والمجالات كلها من النقد الأدبي إلى النقد التراثي مروراً بالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة، كما تبنى دوماً أكثر المواقف تقدماً في كل مرحلة من مراحله ودافع عن أكثر المواقع طليعية في كل لحظة من لحظاته. وكأي نهضوي حق لم تخدعه الادعاءات العدمية الرائجة «بموت الإنسان» و»نهاية الكاتب» و»فناء الكتابة» و»انعدام التقدم» و»انسداد التاريخ».
لذا بقي هذا النهضوي الأول ساخطاً وناقماً على واقع حال الثقب الأسود ومتطلعاً في الوقت ذاته إلى المستقبل بإمكاناته المفتوحة وإلى التاريخ المقبل بمفاعيله المستمرة، على الرغم من قتامة الحاضر وإحباطاته وشناعاته كلها.
أكاديمي سوري
صادق جلال العظم





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غلاف طريق اليسار الورقي


-------------------------------------------------------------------------------------------------------


حتى نلتقي .....
فضاءات8
* الشيخ *

لعشق لا ينبت سوى
الأشواك المدماة
يتعثر فوق حجارة الطريق
كوليد لا يعرف الخطو
لعشق تائه في يباب
العاصفة..
زهورها تئن من الصقيع
وتنكفئ حيواتها في الزاوية
وحيدة تجّر أزيال الخيبة
تتقوقع ، وتتقوقع
هاربة من الوحشة
هاربة من وحدانيتها
هاربة من صقيعها الداخلي
نحو .. لا شيء


الموقع الفرعي لتجمع اليسار في الحوار المتمدن:
htt://www.ahewar.org/m.asp?i=1715




للاطلاع على صفحة الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي على الفيسبوك على الرابط التالي:
https://www.facebook.com/pages/الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي/1509678585952833