عن الأقليات والكوتات، في الرد على مقاولي الأديان والإثنيات والطوائف

طلال عبدالله
2016 / 4 / 13 - 21:30     


قام الاتحاد السوفييتي في أواسط أربعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى مطلع الخمسينيات، بدمج الأقليات من التتار ضمن المجتمع السوفييتي عبر نقلهم إلى مناطق متفرقة من روسيا، تماماً كما نقل بعض الروس إلى مناطق تواجد الأقليات التتارية، فتلاشت الأقليات واندمجت ضمن إطار ثقافي واحد، هو الإطار السوفييتي. أيّاً كانت صحة هذه الرواية التاريخية؛ إلّا أنها تفسّر تصويت أهالي القرم بأغلبية مطلقة لصالح الانضمام إلى روسيا مؤخراً، وقد يكون هنا مفتاح حل مشكلة الأقليات في الوطن العربي.

الأقليات


عادة ما يرتبط الصعود غير المسبوق لمطالب الأقليات بارتفاع منسوب إحساس تلك الأقليات بعدم المساواة وغياب العدالة الاجتماعية، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لـ “مقاولي الإثنية والذاكرة” كما يسميهم الأنتروبولوجي الفرنسي جان لو أمسيل، للمزيد من الاستغلال لمطالب تلك الأقليات.

ليس ثمّة حلول سحرية وقوالب جاهزة لحل مشكلة “الأقليات”، الفردانية والحساسية الفردية تجاه الآخر في مجتمعاتنا تستند في الغالب إلى غياب العقل عن مناهجنا، واستمرار القوانين المستمدة من الشرائع الدينية في السيطرة على تنظيم علاقات الأفراد ببعضهم في داخل المجتمع. التربية والمناهج الدراسية والعدة الثقافية والفكرية؛ عوامل تسهم بالتأكيد في خلق مظلة مجتمعية مناسبة للجميع، على اختلاف إثنيّاتهم وطوائفهم وأعراقهم وأجناسهم، لذلك فمن الطبيعي أن ترى السلطة الحاكمة تحارب أي تيار يسعى إلى إضفاء طابع تقدمي على تلك العوامل بشراسة.

تحافظ الطبقة البرجوازية الحاكمة على أسباب بقائها من خلال تعزبز الشروخ العمودية في المجتمعات التي تحكمها، وهي ذكية بما يكفي لزرع فكرة كونها “صمام الأمان” الذي يمنع أي اضطرابات بين “الأكثرية” و “الأقلية” قد يؤدي إلى فقدان “الأمن والسلم الاجتماعيين”.

يأخذ صراع “الأكثريات” مع “الأقليات” في مجتمعاتنا العربية شكل “التعددية والتنافسية”، ما يخلق بيئة خصبة لاستمرار مقاولي الإثنية والذاكرة في تعزيز مصالحهم الطبقية، عبر التجذّر في وعي ومشاعر من يدّعون أنهم يخدمونهم.

وهنا تبدو الفرصة مواتية للتعريج على كون الماركسية تمتلك كمّاً هائلاً من مصادر القوة الضمنية، وهو شرط استخدامها بالمناسبة، الأمر الذي تثبته التجربة التاريخية العيانية، ذلك بأنها نظرية قادرة على تصحيح نفسها باستمرار، ففاعلية الماركسية لا تقتصر على حل التناقضات بين رأس المال والعمل، ولا على تفكيك الرأسمالية، بل تتعدى ذلك في بعض مفاصلها لتكون علماً يؤسس لتمرحل التحرر الوطني والاجتماعي، وحتى للتوحد القومي، وتجاوز مسألة الأقليات.

السر يكمن في قدرة الماركسية على الإحاطة بكافة تناقضات الرأسمالية المعولمة، وعلى رسم استراتيجيات تجاوزها نحو عالم جديد ذو أفق اشتراكي.

هكذا يشير فوّاز طرابلسي نحو التعاطي مع ملف الأقليات ضمن مقدمة كتاب الماركسية في البحث النقدي لفؤاد خليل: “ففي وجه لاهوت السوق النيوليبرالية والوعود بالجنة أو بعودة المهدي أو المسيح أو إعادة بناء الهيكل، التي تطلقها التيارات الدينية، هل نستكثر على الماركسية، أيها الرفيق والصديق العزيز فؤاد، إن هي استعادت طوبى الممكن: الجنة على هذه الأرض؟”.

مؤسسات المجتمع المدني، أو المؤسسات الممولة أجنبياً، تواصل نشر أورامها الخبيثة في مجتمعاتنا من خلال التركيز على ملفات “الأقليات”، وتسليط الضوء عليها وإبرازها، وهي ما فتئت تصرف الملايين من الدولارات لتعزيز الانقسامات والشروخ العمودية في مجتمعاتنا، بمساعدة ومباركة أنظمتنا الحاكمة بالتأكيد، الأمر الذي قد يرد عليه شاب ماركسي ببراءة الأطفال: “لو كان المجتمع قائم على أسس العدالة الاجتماعية والمساواة والعلمانية في كنف دولة اشتراكية، لما أحسّت الأقلية بكونها أقلية، ولكانت لبنة في تكتل مجتمعها في وجه الاستعمار وقوى الظلام والرجعية، فالإنسان في ظل الاشتراكية إنسان وكفى، بغض النظر عن عرقه ولونه ودينه”.

ترتبط مشاكل الأقليات وظهور الروح الطائفية بشكل عام بالتدهور الاجتماعي، وتدني مستويات المعيشة، وغياب الماركسية كمنهج تحليل علمي، وغياب المنهج هذا أدى إلى ظهور التحليل القائم على “الصراعات الاجتماعية” بمنأى عن التحليل الطبقي، وتلك وصفة شيطانية لتقسيم المجتمعات إلى شرائح متناحرة مغذاة بالشروخ العمودية أو الهويات القاتلة (مسيحي-مسلم، سني-شيعي، علوي-درزي… إلخ).

تلك الوصفة الشيطانية أضحت بفضل سطوة رأس المال والأبواق الإعلامية محل اهتمام وعامل جذب لدى أتباع الهويات القاتلة، مما أدى إلى ظهور الهويات العمودية للطبقات، وهذا ما قضى إلى حد كبير على المطالب الاجتماعية.

يقول الأنتروبولوجي الفرنسي جان لو أمسيل أن هذا ما يمكن مشاهدته بشكل جلي في فرنسا، ببساطة عبر قراءة الصحف الفرنسية اليومية؛ فرنسا وصحفها لا تلقِ بالاً حيال المشاكل الاجتماعية، وتسلط الضوء على المشاكل المتعلقة بالهويات، وأكثر من ذلك فهي تضع كل يوم ملف الأقليات تحت مجهرها، وكأن هذا الملف هو الملف الوحيد الراهن في فرنسا.

أزمة متجددة

فهم ظاهرة “الأقليات” وإدراكها والتعاطي معها همٌ راهن، الرصد التاريخي لصلة الماضي وعلاقته الوطيدة بتشكيل الحاضر والمستقبل هو مفتاح الحل، يقول مؤلفا كتاب “أزمة الأقليات في الوطن العربي” الدكتور حيدر إبراهيم علي والدكتور ميلاد حنّا ضمن أسطر الكتاب: “إن أغلب دراسات الأقليات تدخل إلى الأبعاد السياسية مباشرة، مشكلة الأقليات في العالم من أهم القضايا المرتبطة بكل من المشاكل السياسية والسلام الاجتماعي في مجتمعات كثيرة. والتاريخ مملوء بصراعات شديدة نتيجة الكراهية للآخر. وفي الوطن العربي يكاد يكون موضوع الأقليات من الموضوعات غير المطروقة بوضوح، إذ لا تعتبر معالجة هذا الموضوع من النشاطات الفكرية البريئة. ورغم أن الوطن العربي شهد حروباً طائفية وإثنية استمر خلالها الاقتتال لسنوات طويلة كما حدث في لبنان والسودان، وهي أمثلة لصراع ظاهر وعنيف. ولكنَّ كثيراً من الدول العربية يمور داخلها صراع أقليات كامن وناعم لم ينفجر بعد، ويمكن أن يعبر عن نفسه بأشكال أخرى في أي لحظة. كل هذا لم يجعل الاهتمام بمسألة الأقليات يحتل مكانة متقدمة في الفكر العربي أو المجال الأكاديمي والبحثي أو حتى في العمل السياسي المباشر”. وهنا، قد يتضارب هذا التحليل مع ما قلناه سابقاً، أن عدداً من المنظمات العالمية عملت على إصدار بحوث متعددة حول مسألة الهوية، ولكن لم تكن تهدف إلى معالجة مشاكل قد تنفجر، لقد كانت تهدف إلى إحداث الانفجار نفسه.

ويستأنفان: “إن البحث عن حلول علمية وواقعية لمشكلات الأقليات من خلال التسامح وقبول الآخر وتبني التعددية السياسية والثقافية، هو المدخل الصحيح لقيام دولة وطنية قوية يمكن أن تتجه نحو وحدة قومية شاملة ومستديمة. ولكن حين تنشغل كل دولة بأزماتها الداخلية خاصة المتعلقة بدمج الوحدات الاجتماعية والثقافية فسنكون أمام دول ومجتمعات فسيفسيائية مبعثرة تنقصها القدرة أو القوة الذاتية. وبالتالي لن تضيف لما هو أكبر أو أشمل أي الوحدات القومية الكبرى”.

في البحث عن الحلول

ترتبط مسألة الأقليات بالتحضّر، تختفي تلك المسألة كمشكلة حالما يرتقي أي مجتمع معارج الحضارة، تتلاشى مواطن الاختلاف، مفسحة الباب للحديث عن الدولة، نقطة البداية ونقطة النهاية، تلك التي تمر بأنماط إنتاج متعددة حتى تتلاشى في نهاية المطاف. الدولة متغيّر تابع، هي ليست قائمة بذاتها، ولا تفسر بذاتها، هي نتاج التطوّر العضوي للرأسمالية، جزء من البنية الفوقية للمجتمع. والدولة في بنيتها يجب أن تدرس من ناحية تركيبها الطبقي، فالدولة القائمة على الطبقة الرأسمالية الحاكمة، تحفز بالضرورة الصراعات الداخلية والخارجية حسب مقتضيات رأس المال.

نتحدث عن الدولة والأقليات معاً، ذلك بأن الدولة هي الناظم الرئيس للمجتمع، ولا بد للثورة الاجتماعية أن تواجهها، فتستولي الطبقة العاملة على الدولة بوصفها أداة لتنظيم المجتمع، ومن ثم ستتجه إلى تحطيمها في مرحلة لاحقة تستوجب منسوب وعي عالٍ جداً يقود عودة البشرية إلى الشيوع، تماماً كما كان الأمر في البدء.

تعريج على الأردن

قد يلوم القارئ على هذه السطور قلتها، ولكنها لا تحتاج إلى أكثر من تلك السطور، ومع تركيز القارئ على ما تقدّم، فإن الخلاصة قد تبدو واضحة.

لم يخرج قانون الانتخاب الجديد في الأردن عن إطار الصوت الواحد، هو “قوننة” للصوت الواحد، وضع الأفراد ضمن “قوائم” تقوم على أساس المصلحة الطبقية واستمرار هيمنة رجال الأعمال على مجلس النوّاب، كما أنه تمثيل “منظّم” لأشكال عصبوية أخرى، عشائرية، إثنية… إلخ، مع الإبقاء على “الكوتات” الخاصة بالمرأة والأقليات.

المرأة ليست شيئاً خارجاً عن إطار النسيج الاجتماعي في الأردن، والأقليات ليسوا سوى أردنيين، لذلك فإن تخصيص كوتا لهم لا يخرج عن كونه تعزبز للشروخ العمودية في المجتمع الأردني بنكهة “توبة يسارية”.

قبل إقرار قانون انتخابي هزيل، كان ينبغي على من يهمّه الأمر أن يدعم الحياة الحزبية، أو لنكن أكثر دقة، أن يطلق الحياة الحزبية في البلاد، وأن تقوم الانتخابات (مع رفضي من الأساس لفكرتها القائمة على ديمقراطية صناديق الاقتراع) على أسس تقدمية، ولا ضير من تبني نظام القوائم المغلقة على مستوى الوطن، لا يكون التمثيل فيها سوى للأحزاب.

أطلقوا الحياة الحزبية في الأردن أولاً، واسمحوا للطلاب أن يطلعوا على الأفكار ومدارات السياسة المختلفة، ولا تضيّقوا الخناق عليهم في جامعاتهم بسبب انتماءاتهم الحزبية، ومن بعدها فلتناقشوا قانون انتخاب واضح المعالم لا يعيد إنتاج الفردانية وحالة “الصوت الواحد”، ولا يجعل “الأقليات” تحس بنفسها وكأنها مخلوقات فضائية سقطت على الأردن بالباراشوت.

هذا لا يعفي الأحزاب، اليسارية والقومية منها على وجه الخصوص، من العودة إلى منهج علمي في التحليل، وذلك من أجل خلق قواعد جماهيرية كبيرة تمكنّها من خوض الانتخابات. انظروا إلى غربنا قليلاً، إلى اليونان وإسبانيا وغيرها من دول الجنوب الأوروبية التي تشهد اكتساحاً لليسار في الانتخابات، وستجدون هناك ضالتكم.

نعم؛ هي المشاهد شائكة ومعقدة في الأردن، قانون انتخاب هزيل، أحزاب يسارية وقومية بالية ومهترئة ما زالت تناقش محطات تاريخية تجاوزها التاريخ نفسه، استئثار بالسلطة من قبل رجال أعمال، تيارات دينية ما زالت تسعى نحو السلطة بخبث كما تسعى الأفاعي للانقضاض على فرائسها، أقليات تدعم بعض التجارب الرجعية بوصفها “تقدمية” لا أراها سوى في خانة النفاق، كوتات لا تكرّس سوى الشروخ العمودية، طلّاب لا يعرفون شيئاً عن الفلسفة ولا السياسة، مناهج دراسية أقرها أحد أفراد جماعة الإخوان المسلمين في الستينات ولا تزال سارية المفعول حتى يومنا هذا!

هويات قاتلة، سحق أكثر للطبقات المسحوقة، مثقفون ثوريون تائهون أو متقوقعون، طبقة يقولون عنها متوسطة -مع تحفظي على المصطلح لعدم علميّته- مترددة وجبانة تخاف ولا تحسم موقفها من أي ملف يوضع على الطاولة، وطبقة أخرى تزداد ثراءً وسلطة ونفوذاً!

المعادلة واضحة؛ الهدف الآن الترويج لنظام الانتخاب الجديد بوصفه نظاماً انتخابياً تقدمياً لنيل رضا “المجتمع الدولي” وما يتبعه من مؤسسات تصف نفسها بـ “الديمقراطية”، وذلك من أجل إظهار أن الأردن يمر بمرحلة “إصلاح” سياسية شاملة كما طُلب منه، على الرغم من النار المتأججة من حوله.

نعم، لم نناقش في هذه المادة قانون الانتخاب في جوهره، ذلك بأن مخرجات العملية الانتخابية بنسخها الليبرالية -أو ديمقراطية صناديق الاقتراع- لا تنتج سوى ما تراه السلطة الحاكمة، إلا في بعض الحالات النادرة!

جدل الأقليات والانتخابات جدل واسع، يمكننا أن نحدد نقاط مركزية في نقاشه، وهذه المعايير لا تسوقنا إلى مواقف منسوخة، وإنما إلى مناهج ومعايير محددة وواضحة:

1- التركيب الطبقي والمشروع الاجتماعي للأقلية نفسها، هل انفصالها سيفتح آفاق مشروع تحرري ثوري؟ أم أن انفصالها سيسبب ثقباً في جدار مشروع تحرري قائم أصلاً.

2- مهما عدّلنا قوانين الانتخاب، ماذا سيحصل لو لم تتغير قاعدة اتخاذ القرار أمام صناديق الاقتراع؟

3- الأقليات لا تقرأ في سياق الحفاظ على ثقافاتها وأنماطها الاجتماعية، فهذه مسألة غير قابلة للمساس نظرياً، ولكن الرأسمالية العالمية أجهزت عليها، إن الوجه القائم للأقليات يلعب أدواراً سياسية متعددة، يمكن الحكم عليها حالة بحالة من خلال البحث في النقطة الأولى المذكورة أعلاه.