سوزان سونتاج في يومياتها: كما يسخَّر الوعي للجسد


سعد محمد رحيم
2016 / 4 / 10 - 19:32     

تبدو كتابات سوزان سونتاج في يومياتها (كما يُسخَّر الوعي للجسد؛ يوميات 1964 ـ 1980.. ترجمة؛ عباس المفرجي ـ دار المدى 2016)، هشّة، في الغالب، لا قوام لها، وكأنها تحاكي بها شكل حياتها، ولكن، على الرغم من هذا، فإن لها إيقاعها العذب، وجماليتها الخاصة. فالتبعثر على السطح لا يعدم التناغم والاتساق، حيث تضعنا المؤلفة إزاء لوحات تعبيرية تخفي بساطتها أسىً ساحراً، وفيضاً دافقاً من معاني الحياة والوجود، هي حصيلة خبرة جسد وعقل متوثبين في مجتمع القرن العشرين. فيومياتها هذه أشبه ما تكون بمعرض للعاديات، بفوضى كما في الحياة؛ حياتها. كما الحياة عموماً، لاسيما لامرأة مثلها؛ حسّاسة وحسيّة، محبطة وجريئة، حادّة الوعي، وتشعر بالقرف من العالم.
تود سونتاج في يومياتها لو تصل إلى تسوية مع وعيها وجسدها وماضيها، ومع الآخرين. أن تنحل في العالم وتحل فيه.. حالة أشبه ما تكون بتوقٍ تصوفي تسعى ليتحقق بطريقة مبهمة، مثالية، وموجعة.. وتدرك أن هذا يلامس المستحيل. ومن هنا هذا القدر من الحزن والمرارة اللذين ينزّان من كلماتها.
سونتاج متلصصة جيدة على ما يجري في دخيلتها، وما حولها، مغرمة بالتفاصيل الاستثنائية، بما هو لافت ومفاجئ وصادم. وبذا فهي تعيش نحواً من التمركز حول ذاتها.. تروم أبداً أن تطل على القاع السحيق لتلك الذات الخائضة لتجربة حياة فريدة.. تعتقد أنها تعرف عن ذلك الصقع السرّي المعاد تشكيله بالتجربة، أكثر مما تعرف عن أي شيء آخر. فتدع إبداعها ينهل من هذا النبع.
"القصص الوحيدة التي أريد كتابتها الآن هي تلك التي أستطيع أن أغذيها بتجربتي الشخصية"ص395.
ليسوا كثيرين أولئك الذين يتحدثون عن التجربة الجنسية، وإشكالاتها، وأفراحها وخيباتها، ومأزق الأنا في تيّارها، مثل سوزان سونتاج. لاسيما تلك المتعلقة بالمثلية.. تفصح عن الإغواء، عن السيطرة، عن الإخفاق في العلاقة، عن الإشباع والاستياء والخذلان.. عن المشاعر الرقيقة والقاسية والقلقة التي تنتابها في علاقتها بصديقتها آيرين ( مثالاً )، عن العفوية والخضوع والألم والمتعة والرضا، والضعف والسعادة والحنان، والطيش والخوف والإذلال، والغضب والخسارات والهجران..
"آيرين: تجربتي معها لمدة أربع سنوات ونصف كانت تجربة حب وافر، بلا حدود، ما يمكن أن أجبر نفسي عليه... هو التفكير بها ـ حاجتها للسيطرة، للاستعباد، للإضعاف ـ وكان إدراكي، باختصار، يُعاق بتجربتي، وبالتالي هذه الـ: كيف يمكنها ( أمكنها ) ذلك؟" ص112ـ 113.
تشرّح شخصية أمها بصراحة قاسية.. تحكي عن نرجسيتها، أوهامها، أنانيتها، غبائها.. تشير إلى الصورة المزوّرة التي قدّمتها عن نفسها أمام أمِّها، وعن صورة أمِّها المزوّرة التي جعلت نفسها تُخدع بها.
"لم أشعر، في أعماقي، أن أمي أحبتني يوماً. كيف يمكنها؟ هي لم (ترني) فعلاً. صدّقت هي ما كنت أعرضه لها من نفسي (تلك النسخة المكيّفة بعناية). شعرت أنها كانت ( بحاجة ) لي، ذلك كل ما في الأمر. وأنا أواجه غياباتها ورحلاتها المتكررة، كنت أشجع ذلك، كنت أسعى إلى خلق (أنا) لها يمكن أن تحتاجها، شخص يمكن أن تعوِّل عليه أكثر وأكثر"ص256.
جسدها لا يُكتمل.. لن تكسبه.. لن يكون إلاّ مع الآخر.. الجسد كما الوعي لن يتحقق دفعة واحدة.. هنا لا نتحدث عن اكتمال بايالوجي، أو حتى نفسي، وإنما وجودي.. جسدي هو وعيي به.. جسدي هو تجربته في العالم، مع الطبيعة والأشياء والآخرين. غير أن رأيها بنفسها لا يستقر على حال.. كما لو أنها تعاني من عوق سايكولوجي ما، غير ثقيل الوطأة، لكنه فاعل.. وهكذا ترسم لنفسها وجسدها صورة مغايرة خلاصتها أنها ليست جذّابة، وغير محبوبة، ولذا تستنتج بأنها ليست شريكاً جنسياً كفئاً.
"ليس الأمر لأنني أعتقد ( اعتقدت يوماً ) بأني سيئة ـ كل السوء. أعتقد بأنني غير جذّابة، غير محبوبة، لأنني غير كاملة. ليس الأمر بأن ما هو أنا هو خطأ، بل هو أنني لست (أكثر) ((سرعة استجابة، حيوية، كرم، حذر، أصالة، حسّاسية، شجاعة الخ)).
تجربتي الأعمق هي اللامبالاة أكثر من المراقبة"ص88.
تعود مراراً إلى حالة لا أباليتها.. ربما لم تكن كذلك.. هي شاهدة على عصرها أيضاً، ولم تكن قضاياه ببعيدة عن أفق اهتمامها.. كانت مسكونة بالهمّ السياسي من غير ولعٍ بالسياسة.. عاشت ستينيات القرن الماضي، أكثر العقود تميّزاً بثوريتها في مناحي الحياة كلها.. الحقبة الموّارة بالتحولات الساخنة، بالأحداث والظاهرات الجديدة اللافتة؛ الهيبيز، الثورة الجنسية، ثورات الشباب ضد الحرب، وضد الآباء وضد الوضع القائم، من فرنسا إلى أميركا.. رومانتيكيات الكفاح المسلّح، ونهايات الاستعمار.. والخيبات.
"كل عصر له مجموعته العمرية النموذجية ـ عصرنا هو عصر الشباب. روح العصر هي باردة مُحيْوَنة، لعوبة، حسّاسة، لا تهتم بالسياسة"ص96. لكن إنكار السياسة هو موقف سياسي.. ووقفت ضد الحرب الأميركية في الفيتنام، هي المثقفة الناشطة.
كان لها اطلاع واسع على آداب وفنون عصرها، ذواقة في قراءة الكتب، وفي معاينة فنون المسرح والسينما والتشكيل، وسماع الموسيقى، وتعد مثالاً للمثقف مرهف الوعي، اللامنتمي، المغترب. وقد شعرت دوماً بكونها منفية، مقتلعة، ومهجورة وعالقة بين عوالم لا تلائمها، ولا تريدها تماماً.
"أنا من منفى (أمريكا) إلى منفى (أوروبا).
مهجورة، أناضل ضد الشعور بأني مهجورة"ص305.
بالمقابل سكنتها طهرانية غريبة. وكلمة (نقاء) أثيرة لديها.. أتراها تحسُّ في زاوية مظلمة من لا وعيها بأنها خاطئة، ملوّثة، مدنّسة؟. وأدركت أن النقاء لا يتسق مع الحكمة.. لا يمكن أن يكون المرء نقياً وحكيماً في الوقت عينه.
"مشكلتي (وربما واحد من أكثر المصادر عمقاً لقدراتي المعتدلة): أردت أن أكون نقية وحكيمة معاً.
كنت جشعة جداً... التعطش للنقاء يكبح الإمكانية لحكمة حقيقية. وضوح فكري يكبح الدوافع للتصرف بنقاء"ص409.
ولم يكن الحل في العزلة، بل في الانغمار بتيار الحياة الحار والمتطلب، لأن العكس يُشعرها بأنها فسدت.
"أليست هي عجرفة روحية من جانبي عندما أشعر بنفسي فاسدة (معرّضة للفضيحة) في كل مرة لا أكون حاضرة بكل كياني في الحياة؟ نوع من هستيريا أخلاقية؟"ص304.
لا تخفي حقيقة انطوائيتها.. كانت ترتد إلى ذاتها لترى موقعها في العالم، في محيطها ودائرة علاقاتها مع الآخرين.. الآخرون هم موضوع نظرها في كل وقت.. أرادت أن تعرفهم في حقيقتهم أكثر مما عرفوا هم أنفسهم على حقيقتها.
ابتغت الأمان، وخشيت دوماً من أن تفقده، الأمان الذي يمنحها القدرة على التفرغ لأشيائها الأخرى. وبالتناظر معه، تعايشت مع قلقها.. "إذا لم أكن آمنة في علاقاتي الأكثر حميمية، لا أستطيع حقاً أن أولي انتباها لأشياء أخرى أيضاً. أنا دائماً ألتفت إلى الوراء، لأرى بقلق إن كان الشخص ما يزال هناك"ص317.
وتتحدث عن نشوات حارّة للعقل.. تضع العقل ليس في مواجهة الجسد، وإنما في موازاته، مكافئاً، خصماً، مكمِّلاً في نوعٍ من ديالكتيك روحاني.
كانت سونتاج تخشى الوحدة المسبِّبة للاكتئاب، المفضية إلى الجنون، وتسعى كي تدرأ عن نفسها هذا المآل: "كنت خائفة أن أُصاب بالجنون. الآن نظرت ـ أنا هناك. لست مجنونة. لست حتى مكتئبة بأن أكون وحيدة ليلة بعد ليلة في شقتي"ص352.
كيف نحيل أوسع تجربة ممكنة إلى الوعي، والذي هو أفضل ما يفعله المرء في هذا العالم بحسب ما يقول إحدى شخصيات إندريه مالرو في روايته (الأمل)؟. ولأننا في العالم بالجسد واللغة أولاً فإن سونتاج تجعل من تجربة الجسد، عبر موشور اللغة ومنظورها، مادة للوعي. حيث يتورط الوعي، بعدئذٍ، في ترتيب مشاغبات الجسد ورغباته ومغامراته، في نصوص تتغيا الجمال والإثارة، والإزاحة. الجسد فضاءً للمتعة والألم، للحكمة التي تجمع الحياة والموت في كفِّ يدٍ واحدة. وظلت بغيتها "كتابة كتاب حول الجسد ـ لكن ليس كتاب شيزوفريني. أهذا ممكن؟ كتاب هو نوع من ستربتيز، مُحكم مُفصّل بدقّة يتعرى أثناء ما يكون كل عضو، كل عضلة، كل عظم مقتفى أثره، موصوف، مغتصب"ص353.
عاشت مع هاجس الموت في صراع مفضوح.. كانت، قاب قوسين أو أدنى، من موتها الشاخص، الخاص، دائماً.. .. ليس لأنها تخافه، وإنما لأنها تدرك أن الشجاعة لا تتجسد إلا في فهم فكرة الموت، وتمثّلها.
"كل حياتي كنت أفكر بالموت. هذا موضوع بت الآن تعبة منه قليلاً. لا، كما أعتقد بسبب أنني صرت أقرب إلى موتي، بل لأن الموت صار في النهاية حقيقياً"ص412. تقولها وهي تستحضر في ذهنها موت صديقتها سوزان توبيس.
تومئ إلى أنها ليست ميّالة إلى الانتحار، وتعترف قبل ذلك: "شيء واحد أعرفه: لو لم يكن ديفيد (ابنها) معي، لكنت قتلت نفسي العام الماضي"ص115.. وفي ساعة غفلة ينكِّل بها جسدها الذي يُصاب بالسرطان.. وترى "المرض غازياً سرّياً غادراً"ص448.
أكانت سوزان سونتاج ترسم لوحة بانورامية واسعة لحياتها عبر يومياتها.. لوحة "هي نوع معيّن من إيماءة سخية، موجزة، عفيفة، ساخرة، عاطفية، الخ"ص104 بحسب تعبيرها.
هذه التفاصيل كلها، هذه الشظايا التي لملمتها وهي تخبِر الواقع، التقطتها من نهر الحياة المتقلب، صافياً حيناً، عكراً حيناً، بحسب المواسم والحوادث والظروف. هذه الأفكار المحلِّقة بحريّة. هذا القدر الدافق والمرتبك من الأوجاع والمسرّات..
تلك هي حياة سوزان سونتاج، وذلك هو كتابها/ يومياتها.